ميلر.. وأحلام الطبقة الوسطى الضائعة

ميلر.. وأحلام الطبقة الوسطى الضائعة

ترجمة/ عادل العامل

تُعرض في برودوَي منذ وقتٍ قريب مسرحية الكاتب الأميركي الراحل آرثر ميلر "موت بائع متجول Death of a Salesman"، التي سبق أن قُدمت للمسرح في أواخر الأربعينيات و الخمسينيات. (ويعمل بطل القصة، ويلي لومان، بائعاً متجولاً لإحدى الشركات الكبيرة).


ويقضي معظم عمره في خدمة الشركة مقابل أجرٍ زهيد، مظلوماً من الشركة، ومن أولاده ــ الأول فشل في الدراسة ويحاول عبر والدته إقناعه بالسفر باحثاً عن ظروف أفضل، ومصطدماً بعدم قدرة هذا الأب على توفير ثمن التذكرة، والابن الآخر، لديه أيضاً طموح، لأن يعيش في كنف امرأة توفر له الطمأنينة، وهو الآخر يصطدم بصخرة الواقع في خضم التطورات والمشادات الكلامية بين الجيلين، ويحاول الأب والأم مراراً إعادة الطمأنينة إلى قلوب أولادهم دون جدوى. وأخيراً ينتحر الأب من أجل أن يكون بإمكان العائلة تسلّم مبلغ التأمين على الحياة من الشركة، مضحياً بنفسه فقط بهدف الحصول على احترام ومحبة وراحة أولاده).

وفي الوقت التي تُعد فيه المسرحية فضحاً لأوهام الطبقة الوسطى في تلك الفترة، فإن الطبقة الوسطى الأميركية ــ باعتبارها واقعاً اجتماعياً ومجموعة قيم رائعة ــ قد توقفت عن الوجود الآن تقريباً، كما جاء في عرض لي سيغل للمسرحية. مع هذا فإن "موت بائع متجول" زاخرة بالتقمص العاطفي لويلي لومان. وقد تذكّر السيد ميلر بصورة تتّسم بالقلق في عام 1949 أنه "كان هناك الكثير جداً من التماهي مع ويلي، الكثير جداً من البكاء، و أن سخريات المسرحية كانت تبهت بفعل كل هذا التقمص العاطفي". وهو يتذكر بفخر كئيب أن المخرج الأول للمسرحية، أيليا كازان، "كان الأول من رجال كثيرين عظماء ــ ونساء أيضاً ــ سيقولون لي إن ويلي كان أباهم".

ولا عجب في أن يكون تماهي أولئك المشاهدين الأوائل قوياً هكذا: لقد تعرفوا على بحث ويلي عن الإنسانية داخل عمله المدفوع بالربح. وقد تذكّر السيد ميلر ذلك بعد أداءاتٍ خلال عرض المسرحية الأول "فالبعض، خاصةً الرجال منهم، كانوا منحنين للأمام و هم يغطون وجوههم، وكان آخرون يبكون صراحةً".

ومن الصعب تصوّر رد فعلٍ مماثل بين جمهور المشاهدين اليوم. فليس فقط الصناعات التي كانت تستخدم الباعة، وعمال المعامل، والمديرين المتوسطين وغيرهم في العوالم الوضيعة، الوفيرة لرأسمالية منتصف القرن العشرين قد بدأت تنضب، بل أن رأسماليي اليوم ما عادوا يشاطرون ويلي الاعتقاد بأن بإمكانه أن يحقق الكرامة من خلال العمل. ففي زمننا هذا، زمن السلاّبة المصرفيين، والسلاّبة العقاريين، وسلاّبة الإنترنيت، زمن المغفلين و"الألعوبات muppets"، من غير المحتمل أن يربط أي واحد السعادة والكرامة بالعمل على نحوٍ شاق من أجل وجود مريح يُشترى بدخلٍ مالي متواضع. فحتى المتبقين من الطبقة الوسطى يزدرون اليوم حياة الطبقة الوسطى. فكل واحد، غني، فقير، وما بين، يرغبون في متعة غير محدودة وثروات خرافية. وإن غضب السيد ميلر من نظامٍ رأسمالي كان يريد أنسنته قد أصبح تكيفاً لنا باعثاً على السخرية لنظام رأسمالي نفخر أنفسنا بمعرفة كيف نتلاعب به. فبالنسبة للسيد ميلر، فإن أحلام ويلي الطبقية الوسطى تفوقت على النظام الذي خانها. أما في سياقنا الحالي، فإن أحلام ويلي في الحب والكرامة والجماعية من خلال العمل المتواضع تجعله خاسراً مخدوعاً.