السيدة سمحة ..وطرائف أهل بغداد قبل سبعة عقود

السيدة سمحة ..وطرائف أهل بغداد قبل سبعة عقود

مازن لطيف
كانت محلة الشيخ صندل وهي من محلات الجانب الغربي في بغداد يتمثل في أهلها التسامح والانفتاح وحب الضيف وإكرام الغريب وكان يتردد على سوقها المعروف بـ (سوق الحنطة) أو سوق الشيخ صندل البدو أو العربان واليهود والنصارى

وأكراد الشمال وأبناء الجنوب وهم يجدون في رحاب أهلها المحبة والكرم والإحساس بالخلق والتآخي في الإنسانية والشراكة في الوطن . وكانت الأسر تستقبل في بيوتها الزط أو الغجريات من القوم المعروفين في العراق بأسم "الكاولية" وهن يقرأن الطالع ويسبرن البخت والغيب وتجد نساء حولهن مصغيات مقتنعات بأقوالهن ، ويستقبل الحي كذلك فئة من جوابي الآفاق المعروفين بـ(الصلبة)وهم يتعاطون العطارة وبيع الأعشاب البرية والنباتات الطبية وربما حل بالمحلة بعض الحواة ممن يدخر نماذج من الأفاعي وكذا المتفننين كعازف الربابة ونفر من المكديين و المتسولين والدراويش وأهل السبيل وغيرهم.
وكانت هناك طائفة من اليهود الشباب يحملون أطوال القماش على أكتافهم ومعهم "الذرعة" أو المعيار الذي يقاس به القماش .وكان من وجوههم المعروفة الشابين المهذبين صالح وإبراهيم، وعادة ما يعرضا بضاعتهما على نساء المحلة بأسعار زهيدة للغاية وقد يجري البيع بالنسبة أو الأقساط ولاسيما عند قرب مواسم الأعياد. وأتذكر من أنواع تلك الأقمشة في ذلك الزمن ما كان يعرف بـ(روح الأفندي) و(روح الجمال) و(صدر الحمام) و (الكرشة )و(التفتة) والصنف الذي وددت أن اعرض له في هذه السطور هو صنف بائعات (الخطاط) تلك المواد التي تتزين بها النساء من قبل: الحمرة والديرم والكحل والقلابي وأقراص الوجه وأقلام الشفايف وغيرها كثير. وكان الكثير من البيوت التي اعتادت هذه الجمهرة من النسوة التردد عليه وهن يعرضن ما يحملن من مواد التجميل أو طعام الغداء لكي لا يكلفن أهل تلك البيوت شيئا ما اللهم إلا الشاي والماء البارد فإذا تناهى خبر مجيئهن إلى نساء الزقاق "الطرف"، بدأت وفودهن تتردد على أي بيت يحللن فيه .
ومن هؤلاء النسوة أم إبراهيم وآم داود وكانت الأخيرة تحب الصغار حبا جما وتعمل لهم فطائر ( لفات) من الكباب الذي تحمله غداءً لها .بيد أن الشهرة كل الشهرة كانت تحوم حول السيدة(سمحة) وهي سيدة من محلة (الطاطران) منحها الله حساً بغدادياً في الذوق والظرف وسرعة البديهية وارتجال الجواب وكانت محترمة على كثرة مداعباتها وفكاهاتها ورقة شمائلها.
ومن طرف(الزيبق) كانت تلم بدار المرحوم (حسون فاضل) المستأجر المزمن لمقهى الشيخ البيروتي في رأس الجسر، حيث هناك وليمة غداء دعي إليها الإمام الجديد لجامع الشيخ صندل (الشيخ جلال الحنفي) رحمه الله وذلك في سنة 1942 حينما كان شابا، وحضرت من القائم على أمر الجامع الملا عبد سلطان العبدلي، حيث جالست سمحة ربة البيت المرحومة سبتة وحينها علت أصوات النسوة، حيث كانت أجرائهن في الكلام المرحومة فاطمة البنت الوسطى للمؤذن القديم المرحوم عبد الحميد علي الطلعة، وهي من أكثر الناس التصاقا وشغفا بسمحة وأكثرهم حفظا لأخبار هذه السيدة اليهودية البغدادية الظريفة. وظلت تردد فكاهاتها وطرائفها وتتحسر على تلك الأيام . حيث أن سمحة إذا حضرت بعد غياب أحضرت معها قدرا من التبيت، تلك الأكلة المعروفة لدى يهود بغداد وجمعت جمعا من نساء المحلة وراحن يؤكلهن وهي تطارحهن الطرائف والقفشات البغدادية حتى حلول وقت ما قبل غروب الشمس.
سمحة اليهودية رحمها الله تركت أشياءً كثيرة من حافظة المرحومات سبت خالة أولاد المرحوم حسون فاضل صاحب المقهى البيروتي الشهير ومن المرحومة فاطمة أم عبد الرحيم لشدة تعلق أمه باليهوديات المترددات على المحلة، حيث ماتت سبتة في سنة 1959 وماتت فاطمة سنة 1999 رحمهما الله جميعا وعطر مثواهم.

من طرائف سمحة
من طرائف سمحة سمعت أن الشقي المعروف ابن هرة كان يشكو إلى جارته انه كلما جاء إلى البيت ولم يجد أمه فيه .. فعلقت سمحة معقبة على شكواه من سليقتها: طبعا هي هرة وهذا شهر شباط، أي فترة التزاوج وترك المكان.
وقدمت لها إحدى صويحباتها كبة كانت من نوع رديء وراحت تسألها بنت السبت اشلون الكبة ؟ وترد عليها بأنها طيبة لذيذة ثم تعود إلى السؤال وسمحة تعيد الجواب حتى يتملكها الضجر فلما عادت تسائلها كيف وجدت الكبة؟ أجابت تريدين الجواب الصحيح سبع عضات وما وصلت
للحشوة.
ذهب شعّار(أي راقص ومهرج في الأعراس) إلى طبيب الأذن لضعف في سمعه فقال له الطبيب إن الطبلة مشروخة فقالت سمحة احمد ربك الطبلة ولا الدنبك (الدربكة).
إحدى القبيحات شكت إليها أن الصنوع (المكياج) الذي اشترته منها لتزيين وجهها سرعان ما يسيل ويختلط ويشوه شكلها فردت عليها لازم أبو الجهال "ميتفل" (لايبصق) إلا على الصنوع.
وقالت إحداهن أن بيتنا هذا والحمد لله بناه أبو الولد باليمن فردت عليها لبش اليسرة مكطومة؟
وسمعت أن احد البخلاء اشترى قطعة ارض في المقبرة لتكون مدفنا له ولأفراد عائلته وقد خصص ربع المتر لكل فرد فقالت لازم الجماعة يدفنون شجخ(عموديا) ولعلها قالت يدفنون وكافي(واقفين)؟
وراحت إحدى العوانس تنظر في المرآة وبيدها قلم الفحم تحاول إخفاء الشيب من شعرها فضحكت سمحة وقالت تريدين ترجعين بنت العشرين بجرة قلم؟
وقالوا إن شقيا عاشقا من بيت أبو الخرفان انتحر بسبب زواج معشوقته فقالت لازم المعشوقة نعجة؟
ولما مات المرحوم شمسي الموظف في صحة الطلاب كان بدينا شاهدته إحدى جاراته في المنام وهو يتخايل في مشيته على الصراط المستقيم ثم يهوى إلى القصر، قالت سمحة طبعا يسقط إذا هو الصراط المستقيم احد من السيف وانعم من الشعرة ؟ .وسمعت يوما إحدى العدادات تنوح وتندب وتقول امنين أجيب الضيعوني ؟ فردت عليها عود تتلاكون على الصراط المستقيم.
وقالت لها احداهن عيني سمحة الكحل إلي اخذتة البارحة ميثبت على عيني فردت عليها العين الشرحة ميفيدهة كحل؟
مرت باحدى العرضحالجية فسمعته سال المراجع ماذا أقول عن دعواك فردت وهي ماشية اكتب أنها دعوة بطلية؟
سمعت أن فلانا مات وترك أربع نسوة ولم يترك لهن شيئا فقالت يتقاسمون الجفن والتابوت؟
وسمعت أحداهن تقول وقد حملوا جنازة زوجها وين تروحون بابو حياوي فقره وظلام وبرد..فقالت مثل بغداد بطبت الانكليز؟ وشاهدت رجلا نحيلا يسير مع زوجته وهي بدينة ومفرطة في البدانة فعلقت على هذا المشهد قائلة :
مو عجيب بلم ودوبة ثم استغرقت قائلة لو كان هو الدوبة وهي البلم اشراح يصير ؟
سمعت أن أناسا من معارفها كان عندهم حفل، يحضره عالزوري العازف القديم الموهوب وهو يعزف أشجى الانغام فسألها احدهم سمحة يوم القيامة وين ايكون عزوري فأجابت يم أبو القاسم الطمبوري ؟
وكانت في محلة الشيخ صندل سيدتان اشتهر أمرهما بالنكتة البارعة والجواب المرتجل اللحظي، احدهما المرحومة حسنة بنت علي الطلعة أخت المؤذن عبد الحميد الذي ذكر هذا الكلام وهي أم المؤذن الشيخ عبد الفتاح معروف ولها مع سيد ذيب الشخصية الشعبية البغدادية الظريفة مواقف لا تنسى والأخرى هي المرحومة ميثة ام محمد من بيت الفلاحي من الحجاز وهذه الخيرة عرفت بطرائفها في الأدب المكشوف لا تتورع ولا تترد في التعليق والجواب المسكت وان حضرت احد هاتين السيدتين مجلسا من مجالس العزاء الذي يقام على الموتى فمعنى ذلك ان المجلس ينقلب الى ضحك وصخب ودعابات حتى تصيح العدادة..قوموا روحوا.. كافي انكسر العزا؟
وكانت هاتان السيدتان ممن تعرف على سمحة وقامت بينهن علاقة الود والوفاء وحسن الصلة إلى ان فرق بينهن مفرق الجماعات .
إن تلك النسوة التي كن يحملن بضاعتهن في أكياس القماش ويجوبن طائفات على البيوت يعرضن ما يحملنه سبداج وحمرة وقلاية ، كن نساء مكافحات كادحات جديرات بالاحترام و مثلا في الصفة وصدق المعاملات وكن بغداديات احببن بغداد واهلها وصارت محلات سكناهن جزءا من حياتهن سواء عشن في بني سعيد او ابو دودو او قمبر علي او الطاطران وكانت تلك الايام ايام رخاء وإخاء وكان الجار مؤتمنا على جاره لا فرق بين طائفة وأخرى ولا استعلاء لقومية على غيرها فهل إلى ذلك الزمان من معاد ؟