مأساة القصبجى مع ام كلثوم

مأساة القصبجى مع ام كلثوم

بقلم: إلياس سحاب...
لم يكن دور محمد القصبجي في حياة أم كلثوم الأستاذ الثالث لها وحسب, لكنه مَنْ كوَّن لها الفرقة الموسيقية والمطّور لصوتها.. فماذا حدث؟

إن من يلم إلماما تاما وعميقا بكامل الرصيد الموسيقي لمحمد القصبجي - وعلى الأخص ذلك الجزء من رصيده الذي أنجزه من خلال صوت أم كلثوم في عقدين منالزمن (1925 - 1945), ويدرك تمامًا تفاصيل مسيرة التطور الهائل الذي حققه في تطوير الموسيقى العربية (بعد سيد درويش ومع محمد عبدالوهاب).
الأستاذ والتلميذة
يركز النقاد غالبًا, عندما يتحدثون عن الأساتذة الذين ساهموا في تكوين أساسيات الشخصية الفنية لأم كلثوم, على اسمين: والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي, الذي دربها على أصول الإنشاد الديني, والشيخ أبو العلا محمد, الذي دربها على أصول فن الغناء الكلاسيكي للقصيدة العربية, وهو الجسر التاريخي الذي سهللها الانتقال من الإنشاد الديني إلى الغناء الدنيوي.
فإذا وصل حديث النقاد إلى اسم محمد القصبجي, فإنهم غالبًا ما يكتفون بوضعه في خانة الملحنين الموهوبين الذين تعاملت معهم أم كلثوم, لا في خانة الأستاذ الثالث (وربما الأهم) في حياتها, الذي فتح أمام صوتها الأبواب المشرعة والآفاق الواسعة, ووضع كل عبقريته الموسيقية التجديدية في خدمة صوتها العبقري, لتستطيع بذلك الصمود في منافسة العبقرية التجديدية الأخرى الصاعدة كالصاروخ, في مجالي التجديد الغنائي والتجديد الموسيقي: محمدعبدالوهاب،خاصة في المرحلة التأسيسية الأولى, بين 1925 و1931
فقد ظل وحده طيلة خمس أو ست سنوات, يزود هذه الفرقة وحنجرة: أم كلثوم, بالألحان التجديدية الساحرة, خاصة في نوع المونولوج, الذي سمح لها (قبل الدخول في منافسةمتكافئة مع عبدالوهاب) الانتصار الكامل على منيرة المهدية وفتحية أحمد.
ومع أن زكريا أحمد قد دخل في العام 1931 ميدان الملحنين الأساسيين لأم كلثوم, بمزاج محافظ من الأدوار والطقاطيق, أغنت رصيد أم كلثوم (من قبل ظهور السنباطي في حياتها), بخط ثان محافظ لكنه يوازي خط القصبجي في عبقريته اللحنية.
بداية ظهورالسنباطي في حياة أم كلثوم كانت في مونولوج (النوم يداعب), وفي ثلاثةألحان له في فيلم نشيد الأمل (1936), ومن يستمع إلى هذه الألحان اليوم, يحسبها من تأليف محمد القصبجي, وهو أثر ظل واضحًا في أعمال السنباطي حتى أواخر الأربعينيات.
غير أن تطورًا فنيا وثقافيا صارخًا طرأ في مطلع الأربعينيات, واتخذ شكل الصدمة التي أدت إلى المأساة التي نحن بصددها.
إن خلاصة التجديد الهائل الذي أنجزه محمد القصبجي بين بداياته الأولى معأم كلثوم (إن حالي في هواها عجب, وإن كنت أسامح), ونهاياته في: ما دام تحب بتنكر ليه, ورق الحبيب, تؤكد أنه تجديد يستند إلى معادلة ثقافية فنية, دقيقة التوازن بين جذور القصبجي العميقة, في تربة المقامات العربية, وآفاقه الواسعة المفتونة بإنجازات الموسيقى الأوربية الكلاسيكية.
ولعل هذا التوازن وصل ذروة الإبداع والعبقرية (قبل رق الحبيب) في ألحان القصبجي في فيلم نشيد الأمل (منيت شبابي, ويا مجد) وفي مونولوجات مثل ياما ناديت, وفين العيون وسواهما.
وتؤكد الوقائع, مرة أخرى - وليس الاستنتاج النظري المجرد - أن ملامح فقدان التوازن بين التحديث والتغريب كانت تطل برأسها في بعض ألحان القصبجي, خاصة في لحنه الكبير لأسمهان (يا طيور) في مطلع الأربعينيات, أي في زمن انفجار مأساته مع أم كلثوم.
ولما تولى القصبجي والسنباطي تلحين أغنيات فيلم (عايدة), في العام 1942, أفلتت بوصلة التوازن بين التحديث والتغريب من أيدي القصبجي والسنباطي على حد سواء.
وذلك واضح عند الاستماع إلى المقطع الأوبرالي من فيلم عايدة, الذي لحنه السنباطي (والباقي تسجيله حتى اليوم), فما بالك بالمقطع الذي لحنه القصبجي, والذي يبدو أن أم كلثوم مسحت تسجيله? فلم يصل الينا
صدمة الفشل, وصدمة الغيرة
من الواضح أن جرعة التغرب الذي كان القصبجي مسئولا عن قيادة أم كلثوم إليه (ومعه االسنباطي) في فيلم عايدة, قد صدم (قبل أم كلثوم) آذان المستمع العربي, ففشل فيلم (عايدة) سينمائيا وغنائيًا
ويقول المتخصص في سيرة أم كلثوم, الأستاذ محفوظ عبدالرحمن (كاتب مسلسل أم كلثوم), في حديث هاتفي مطوّل بيني وبينه بهذا الشأن, إن أم كلثوم كانت لاتطيق الفشل, ولا تسمح باستمراره إذا ما زارها ذات يوم زيارة عابرة.
وقد جاء فشل فيلم (عايدة), متزامنا مع فشل آخر, لعل أم كلثوم اعتبرت القصبجي مسئولاً عنه, هو فشل أغنية (وقفت أودع حبيبي) في العام 1941 لصديق القصبجي الملحن اللبناني المقيم في مصر آنذاك فريد غصن, وكانت أم كلثوم قد قبلت اللحن, بعد أن قدمه القصبجي وألحّ عليها بقبوله.
أما الغيرة, فكان محورها النجاح الجماهيري, الذي بدأت تحصده حنجرتا أسمهان وليلى مراد.
فقد اندفع القصبجي, بثقته بنفسه كأستاذ, يحق له أن يضم إلى (مدرسته) تلامذة آخرين بعد أم كلثوم, ليزوّد حنجرتي أسمهان وليلى مراد - خاصة الأولى - بألحان عبقرية, جمعت بين الجرأة الكاملة في ارتياد آفاق التجديد, وبين الإقبال الجماهيري الكبير عليها.
عند هذا الحد تولد الصدام الكبير،فقد قررت أن تعامله, حتى نهاية حياته, بوتيرة غضبها الجارف, الذي انفجر في تلك اللحظة العابرة.
أما العبقري النادرفي تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة, محمد القصبجي, فقد أطلق صيحاتهالأخيرة, في ثلاثة ألحان لحنجرة ليلى مراد الرائعة (قلبي دليلي), في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه, و(يختي عليه), و(نعيمًا يا حبيبي) في فيلم (شاطئ الغرام), قبل أن يختم تعامله مع أم كلثوم إلى الأبد, بألحان عادية في فيلم فاطمة.
بعد ذلك, وحتى رحيل العبقري محمد القصبجي في 25/3/1966, فتحول إلى مجرد عازف للعود في الفرقة, يعزف وراء أم كلثوم حتى آخر يوم في حياته, يؤدي وراءها ألحان سواه من الملحنين الذين يحتل معظمهم مراتب أدنى من مرتبته في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة, وعزلته عن موقعه في قيادة فرقتها الموسيقية - الذي ظل يشغله عقدين من الزمن.
عن كتاب: الموسيقى العربية