حسين جميل ومعارضته للمعاهدة العراقية – البريطانية لعام 1930

حسين جميل ومعارضته للمعاهدة العراقية – البريطانية لعام 1930

د. بشرى سكر خيون
عندما تّم التوقيع على المعاهدة العراقية – البريطانية في 30 حزيران عام 1930، والتي وقَّعها عن الجانب العراقي نوري السعيد رئيس الوزراء، وعن الجانب البريطاني فرنسيس همفريز المندوب السامي البريطاني في العراق، واجهت المعاهدة بعد نشرها نقداً مريراً من قبل السياسيين العراقيين. وأوضح المعارضون موطن الضعف فيها،

ودعوا الشعب ومجلس الأمة إلى رفضها، حيث كانت خلاصة آرائهم أنّ هذه المعاهدة قد قيّدت العراق بشروط لا تتفق مع الاستقلال المنشود، وأنّ العراق أصبح بموجبها مقّيداً بالنفوذ والمصالح البريطانية إلى أبعد الحدود. كما رفضتها الصحف التي عَدَّتها استمراراً للعبودية، كما تم رفضها من قبل المعارضة والأحزاب الوطنية العراقية، وفي مقدمتها الحزبان المعارضان، وهما حزب الاخاء الوطني برئاسة ياسين الهاشمي، والحزب الوطني برئاسة جعفر ابو التمن، حيث أعلنا أنّ المعاهدة غير مقبولة، واحتّجا بشأنها لدى الملك فيصل ورؤساء الدول الأجنبية، وأرسلا برقية إلى اللجنة الدائمية للانتداب في عصبة الأمم، أعلنا فيها مقاطعتهما الانتخابات.
رفضت المعاهدة من قبل بعض شرائح المجتمع، ومنهم الطلبة والشباب المثّقف الذي تخرَّج قسم منهم لتوّه في كلية الحقوق، سواء في داخل العراق أم في خارجه، وعرف بوطنيته الصادقة وشجاعته المتوثَّبه التي لا تعرف التردّد او الخوف، لم تُتَرك هذه المناسبة الوطنية الفريدة تمرّ دون أن تضيف لسجلَّهم الوطني الحافل مآثر جديدة، إذ أخذ هؤلاء المثقفون وبعض الوطينين المعارضين للمعاهدة التجمع مرة أخرى؛ ومنهم حسين جميل الذي أكمل دراسته القانونية في دمشق وعاد إلى العراق في عام 1930، ليجد المناخ السياسي فيه متوتراً جداً، الأمر الذي هَيَّأَ له فرصة للتعبير عّما يحمله من اتجاه وطني ومبدأ قومي ومفهوم ديمقراطي في الحكم، باعتبارها من أهمّ الأمور الأساسية التي يؤمن بها، إذ إنّ الاتجاه الوطني عنده لا يعني الاقليمية، بل التحرر من الاستعمار والانتداب وتحقيق الاستقلال التام للوطن، أمّا المبدأ القومي العربي فلا يعني عنده التعصب للجنس أو العرق، بل الإيمان بوحدة الامة العربية بالشكل الدستوري الذي ترتضيه وتقرّره إرادتها الحرة، ونظامها الديمقراطي الذي يعني سيادة الشعب وحكمه نفسه بنفسه ولنفسه، ولا يتحقَّق ذلك إلاّ بوجود برلمان منتخب من قبل الشعب، تكون الوزارة مسؤولة أمامه، كما أنّ الديمقراطية عند حسين جميل لا تعني نظام حكم سياسي فحسب، بل لها مضامين اجتماعية لصالح الشعب، ولا يتكامل النظام الديمقراطي إلاّ بها، كما كان يطمح إلى أن تسود المجتمع العدالة الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية العادلة بين جميع الطبقات والفئات، ولاسيّما الطبقة الفقيرة التي كان يأمل أن تنال حقها في العيش والسكن والاجور وتحديد ساعات العمل. وفضلاً عن ذلك تعرَّف خلال وجوده في دمشق، عن قرب، على شؤون الاقطار العربية وأصبح له من أبنائها أصدقاء ومعارف، وبقيت المراسلة بينه وبين بعضهم حتى بعد عودته إلى العـراق، كما بقيّ على اتصال ببعض الاصدقاء في بغداد، الذين لم تنقطع علاقته بهم أثناء وجوده في دمشق، وعودته منها، ومنهم عبد القادر اسماعيل، وعزيز شريف، وفائق السامرائي، ويونس السبعاوي، وخليل كَنَّه، وجميل عبد الوهاب. وجميعهم يمثلون النخبة الشَّابَّة المثقفة في المجتمع، حيث وجدت هذه الشريحة المثقفة في المعاهدة العراقية- البريطانية لعام 1930، التي عقدت من أجل إنهاء عهد الانتداب، ولأجل تهيئة العراق للدخول في عصبة الامم، عكس ما كانت تتمنّى تحقيقه من أَمانٍ وطنية، إذ إنّ إنهاء الانتداب كان شكلياً، لأنّ المعاهدة حقَّقت لبريطانيا مركزاً متميزاً، شبيهاً بذلك المركز الذي كان لها في ظلِ الانتداب، الأمر الذي جعل فيها استقلال العراق منقوصاً، لذا فإنّ الدعوة إلى تحقيق الاستقلال التّام للعراق كان من أهّم أسباب تجمّع هؤلاء الشباب، الذين قاموا بتنظيم معارضة شديدة للمعاهدة ودعوا إلى رفضها ومعارضتها، كما نشروا بياناً أَيَّدوا فيه جعفر أبو التمن زعيم الحزب الوطني، الذي رفض المعاهدة وقاطع الانتخابات النيابية. طالبوا أيضاً بمقاطعة الانتخابات وعدم الاشتراك فيها، لأنّها أصبحت إلى الهزل أقربَ منها إلى الجدّ . ولتقوية صفوف المعارضين للمعاهدة أَصدر هؤلاء الشباب بياناً إلى الشعب العراقي، دعوة فيه لحضور الاجتماع الذي سيعقد في مقهى الأوبرا في بغداد، لأجل مناقشة المعاهدة، وقاموا بكتابة منشور تمَّ طبعه في مطبعة الآداب، لصاحبها عبد المجيد حسن، تضمَّن مضامين أكثر عن الدعوة للاجتماع، وكان بمثابة بيانٍ سياسيّ تضمَّن مفاهيم اجتماعية خاطبت الشعب العراقي ونبَّهته إلى خطر الاستعمار. وقدمَّوا في الوقت ذاته، ومنهم حسين جميـل، طلباً إلى متصرّف بغداد للموافقة على عقد الاجتماع وفق قانون الاجتماعات، فرفض طلب الاجتماع.
تحرَّكت الشرطة سريعاً لاحباط الاجتماع، فألقت القبض على المشاركين في الاعداد له، وعلى الذين أَسهموا في صياغة البيان، وقدَّمتهم إلى محكمة جزاء بغداد، بتهمة طبع المنشور وتوزيعه، وأصدرت عليهم أَحكاماً مختلفة، فحكم على كلّ من عبد القادر اسماعيل ومحمد يونس السبعاوي وجميل عبد الوهاب وفائق السامرائي وخليل كنّه بالحبس لمدة ستة أشهر، وعلى أحمد قاسم راجي وسليم زلوف بالحبس لمدة ثلاثة اشهر، وعلى السيد عبد المجيد حسن مدير مطبعة الآداب بالحبس لمدة شهرين، كما تّم غلق المطبعة لمدة ستة اشهر، لأنّ هؤلاء هم المسؤولون عن تقديم الطلب إلى متصرّف بغداد لعقد الاجتماع. بَرَّأت المحكمة كلاَّ من عمر خلوصي وحسين جميل الذي لم يوقّع على طلب الاجتماع، لأنّ جماعته طلبوا منه عدم التوقيع، في وقت كان قد قدّم طلباً لإصدار جريدة، وقالوا له: إنّ توقيعك يعرقل إجازة الجريدة، لذا يجب عدم لفت النظر، إلى إسمك ولا إلى توقيعك، لهذا برَّأته المحكمة لعدم وجود توقيعه على الطلب. وما أَن صدرت الأحكام بحقّ هؤلاء الشباب، حتى انهالت البرقيات على جريدة (صدى الاستقلال) تهنّئ الشباب بسجنهم الذي عَدَّته شرفاً للمجاهدين. وتطوّع عدد من المحامين لاستئناف الحكم، وتمّ استئنافه في المحكمة الكبرى التي خفَّفت الحكم، فأطلق سراح المحكومين نظراً لقضائهم مدة حكمهم. وقد اشترك بعض السياسيين، منهم جعفر أبو التمن وياسين الهاشمي وناجي السويدي، في الحملة التي شنَّت ضد الأحكام الصادرة على الشباب، في الجرائد، وفي المجلس النيابي، وفي كتابة العرائض المقدَّمة إلى الملك.
وصف حسين جميل معاهدة عام 1930 بأنّها مخالفة لميثاق عصبة الأمم لأنّها عقدت بين طرفين هما العراق وبريطانيا غير متكافئين باعتبار بريطانيا دولة منتدبة على العراق، وقد فرضت عليه نفوذها، وفيه جيوشها، ولم يكن اعترافها باستقلاله إلاَّ إسيمَّاً، ولهذا السبب أصبحت معاهدة عام 1930 مخالفة للميثاق، لأنّها لا تتوافر فيها الشروط المطلوبة.
ساعد الموقف المعارض لمعاهدة عام 1930 على التقَّريب بين هؤلاء الشباب، لتوحيد جهودهم السياسية من أجل الاصلاح السياسي والاقتصادي و الاجتماعي. كما هَيَّات هذه المعارضة عدداً آخَرَ من الشباب للمشاركة في الأمور السياسية، وأخذ هؤلاء يكثرون مِن اتصالاتهم ولقاءاتهم، واتفقوا على إصدار كراسات لتوضيح مواقفهم السياسية. وقد أَصدر حسين جميل الكرّاس الأول بعنوان “انكلترا في جزيرة العرب” في سنة 1930، الذي يعدّ بمثابة نداء إلى الشباب العربي الحرّ الذي تغمره في سواد الخطوب روحُ التضحية والتفاني لاسترداد حرية مغتصبة واستقلال سليب. وتمّ توزيع هذا الكراس بسعر زهيد بين الناس لأجل نشر الوعي السياسي، وهو أول كرّاس ينشر بقلم حسين جميل ، الذي استهلَّ الكرّاس بقوله: “الشعب الباسل لا تلهية الأكاذيب عن طلب الاستقلال، والأمة الوثّابة لا تغريها الزخارف عن إنشاد الحرية، والأمة العربية أمة لم يلهها الباطل عن حقّها المقدس، والمظاهر لم تصدّها عن المجد المنشود في الحرية والاستقلال، والأمة العربية أمة خسرت كلَّ شيء إلاَّكرامتها. وهذه صفحات من نزاع عنيف بين الحق المقدّس والباطل الدنيء، فيها مواقف عزّ عن جهاد في سبيل الحرية الحمراء، وفيها عار للاستعمار الآثم وفيها عبرة وذكرى”. ومن الموضوعات التي تناولها هذا الكرّاس: السياسة البريطانية في الجزيرة العربية، والأساليب الاستعمارية التي يستخدمها الاستعمار من أجل السيطرة على الدول العربية، وكيف يضطهد الدول التي تحت سيطرته حين يستخدم وسائله الاستعمارية، من خداع وارتكاب الجرائم واثارة الفتن الطائفية، حيث يحالف هذا البلد ويحالف خصمه في الوقت نفسه، ثم يمدّهما بالسلاح والمال ليحارب أحدهما الآخر. كما إنّ للاستعمار استعداداً للاستفادة من خصومات الأسَر المالكة، وهذه هي إحدى وسائلِه للسيطرة على شعوب تلك البلدان واضطهادها، كما فعل في الهند وغيرها من الشعوب الأخرى التي قمعَ حركاتها التحررية من أجل الاستقلال، كما فعل في مصر وفلسطين والعراق.
وشرح في الكراس نفسه أنّ بريطانيا هي خصم الوحدة العربية، موضحاً السياسة البريطانية القائمة على الدسائس والتفرقة بين أبناء الوطن العربي، والسعي المستمر لتمزيق وحدة الامة العربية، إذ يقول “في جزيرة العرب اليوم إمارات مبعثرة هنا وهناك بسبب الاستعمار، إذ أصبحت مهزلة السياسة في هذا العهد”، ثم يشير إلى تقسيم بلاد الشام من خلال المعاهدات السرية التي نفَّذها الاستعمار ضد العرب، وعلى رأسها معاهدة سايكس-بيكو … الخ. ثم يختتم الكراس بعبارات مؤثرة ،هي قوله “إنَّ أمام الأمم وفي طريقها إلى الاستقلال، بحر من الدماء، فإلى الجهاد والكفاح أيُّها الشعب الباسل الوثاب”.
وجاءت على الصفحة الأخيرة للغلاف دعاية للكراس القادم وهو بعنوان (عدم التعاون)، بقلم فائق السامرائي، ولخّص مضمون هذا الكراس بالقول: فالطريقة المجدية للعمل السياسي ضد الانكليز و أعوانهم هي المقاطعة وعدم التعاون وعدم دفع الضرائب، متأثراً في ذلك بنضال الهند ودعوة غاندي وكفاحه السلبي لكّن هذا الكراس لم يصدر بسبب سجن فائق السامرائي.