لويس ماسينيون والاسلام

لويس ماسينيون والاسلام

بيير روكالف
ترجمة /عبد الرزاق الأصغر
وُلد لويس ماسينيون عام 1883م في بلدة نوجنْتْ المارنْ(2) بفرنسا، لأسرةٍ ذات مستوىثقافيّ مرموق. وتعاوَن، وهو في الرابعة عشرة من عمره مع بعض أصدقائه في المدرسةالثانوية، على إصدار مجلّةٍ صغيرة سمَّوها "نحلة فرنسا". وارتحل مع والديه إلى ألمانيا والنمسا وإيطاليا والجزائر.

وفي عام 1901 نال شهادة البكالوريا- فرع الآداب والرياضيات، ثم نال شهادة إجازة في الآداب فيما بعد.‏
أدى خدمته العسكرية في مدينة روان بين عامي 1902- 1903، ثم زار الجزائر والمغرب وتابع دراسته العالية في التاريخ في معهديْ الدراسات العليا وكوليج دو فرانس ومدرسة اللغات الشرقية. وشارك لأول مرة في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في الجزائر عام 1906. حيث التقى بغولد زيهر، ومائير لامبير وغيرهما. ودَرَس اللّغة العربية، الفصحى واللغة العاميّة، وأصبح عضواً في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة. ثم أخذ ينتقل بين البلاد العربية فزار البصرة والمحمَّرة وبغداد، حيث قام ببعض المهمات لصالح دولته، والتقى عدداً من الباحثين مثل محمود شكري، ورؤوف الجادرجي، ومحمد جلبي، وحمدي بك مدير الآثار العراقية. وفي عام 1908 شارك في أعمال المؤتمر العالمي للمستشرقين في كوبنهاغن، ثم زار القسطنطينية وبدأ دراساته حول الحلاّج.‏
وفي مصر عُيِّنَ عضْواً في المعهد الفرنسيّ للدراسات الشرقية بالقاهرة. واكتسب صداقةحسين وصفي، ورشيد رضا، وعلي بهجت، ثم سافر إلى بريطانيا حيث نشر في بعض المجلات أولى كتاباته عن الحلاّج والحلاجيّة.‏
وفي عام 1912 شارك في مؤتمر المستشرقين في أثينا، والمؤتمر الرابع للتاريخ والديانات في لندن. وفي عام 1914 تزوّج وقضى مع عروسه شهر الزفاف في صحراء الجزائر وبسكرة وتوغرت. ثم تطوع، أثناء الحرب العالمية الأولى، في الجيش الفرنسي، ليعمل مترجماً برتبة مرشح ضابط وأُرسل إلى الدردنيل. وقام بمهماتٍ عديدة للجيش ووزارة الخارجية ومنح وسام صليب الحرب.‏
وفي عام 1916 شارك في أعمال اللجنة الفرنسية في اتفاقية سايكس بيكو في إنجلترا. ثم عاد إلى مصر حيث قام في بورسعيد والقاهرة وجَدّة بمهماتٍ سياسية لصالح الخلفاء، والتقى اللّنبي وكلايتون رئيس المكتب العربي والشريف حسين والأمير فيصل ولورانس وعبد الله فيلبي وحاييم وايزمن. وقضى عدة شهور في القدس، وهي تحت الاحتلال البريطاني. ثم شارك في إعداد اتفاقية كليمنصو-فيصل عام 1918.‏
وعاد بعد انتهاء الحرب إلى أعماله العلْميَّة وبحوثه ومحاضراته في مراكز البحث وفي العواصم والجامعات في البلاد العربية وتركيا وإيران والهند والبلاد الأوربية؛ فكان دائم التنقل والتجوال لا يهدأ ولا يقرّ في مكان. وقد تنقّل بين هذه البلاد مراراًكثيرة وهو يبحث عن المخطوطات والمصادر ويقابل العلماء. وفي الوقت نفسه يقدم خدماته ومشورته للدّول المحتلة فيما يخص الإسلام والشعوب الإسلامية والعرب.‏
وفي عام 1924 انتخب عضواً في الجمعية الآسيوية الملكية في لندن، وفي أكاديمية العلوم السوفيتيّة. وفي عام 1928 بُعث مرة أخرى إلى الشرق لأجل دراسة تطور الأوساط المسلمة في فلسطين والعراق وسورية، وتطوُّر الدراسات العليا فيها والتنظيمات الحرفية والعمالية. وكان دؤوباً في البحث عن مصادر جديدة عن الحلاّج. وفي عام 1930 زار قبرالحلاج ببغداد وقبر ابن باكوية الشيرازي في طهران ومدينة البيضا مسقط رأس الحلاج. وشارك في محاولات تبنّي الأحرف اللاتينية عند العرب والفُرْس كما هو الأمر في تركيا.‏
وفي عام 1933 عُيِّن عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة. وفي عام 1934 شارك مع ماري كحيل في دراسة جماعة "البَدَليَّة" في دمياط؛ وهي جماعة دينيّة كانت تحاول التوفيق بين الإسلام والمسيحية في التقائهما بالإبراهيميّة. وزار مرة ثانية -بل مراراً عديدة- قبر الحلاج وقبر سلمان الفارسي وكربلاء والنجف والكوفة وبيروت ودمشق واسطنبول. وفي اللاذقية... التقى بالشيخ سليمان الأحمد، واستفاد منه كثيراًمن المعلومات في دراسته لطائفة النصيرية.‏
وفي عام 1938 زار المنصورة ودار ابن لقمان وعواصم عربية عديدة وتركيا. وشارك في مؤتمرالمستشرقين الألمان، حيث ألقى بحثاً عن الشّيعة المتطرّفين في نهاية القرن الثالث الهجري، كما شارك في المؤتمر العشرين للمستشرقين في بلجيكا.‏
وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية عاد فوضع نفسه تحت تصرف الجيش الفرنسي، فرافق الجنرال ويغاند، وحضر معه حفلة زفاف شاه إيران بأخت الملك فاروق. وخَدَم في الأركان العامة برتبة رئيس كتيبة العاملين في قسم ما وراء البحار، ثم معاوناً لجيرودو وزير الإعلام.‏
وانتخب عضواً في الأكاديمية الإيرانيّة. وفي فرنسا اعتقله الألمان مدةً ثم أطلق سراحه. وعاد إلى بلاد الشرق ليلقي محاضراته. وفي أثناء الحرب التقى هاشم الأتاسيّ وشكري القوتلي وسعد الله الجابري وفخري البارودي وأحمد الشراباتي. وزار أفغانستان، وعيّن عضواً في الأكاديمية الأفغانية. ثم سافر إلى الهند وزار جامعاتها ومعاهدها الإسلامية، كما زار قبر المسيح المزيّف هنالك. والتقى نهرو ومُنع من زيارة غاندي في السجن، ورفض زيارة محمد علي جناح الزعيم الانفصالي.‏
وبانتهاء الحرب الثانية عاد إلى نشاطه الاستشراقي ومحاضراته ودراساته. وعُيَّن رئيساً لهيئة امتحانات الأغريغاسيون في الدراسات العربية وبقي فيها عشر سنوات.. وفي عام 1947 هاجمته الصحافة المصرية متهمةً إياه بأنّه صديق العرب والمسلمين المزيّف.‏
وباشتعال حرب فلسطين وخروج الفلسطينيين وإعلان دولة إسرائيل صار له مجال جديد للعمل والمهمات؛ فكثرت زياراته لفلسطين ولا سيما القدس والخليل وبيت لحم. وأدّى خدمات للدولة الفرنسية وقدّم تقارير عن مهماته لوزارة الخارجية. وظهرمتعاطفاً مع العرب من الناحية الإنسانيّة وزار مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وكما أبدى إعجابه بغاندي ومؤازرتَه لـه، كما آزر نضال الشعب في المغرب لإعادة السلطان إلى العرش. وشارك في باريس في الصلاة على الضحايا المسلمين الذين قتلوا في إحدى التظاهرات، وتآزر مع سارتر ومورياك للمطالبة بإنصاف الشعوب المستعمرة والدعوة إلىالسلام. وفي إحدى التظاهرات تلقى ضربةً على عينه أفقدته بصرها وذلك عام 1957.‏
سافرفي عام 1952 إلى الولايات المتحدة وكندا، وألقى هنالك عدداً من المحاضرات. وحضرالمؤتمر الثاني عشر للمستشرقين الألمان، وصار رئيساً لجمعية أصدقاء غاندي، ورئيساً لجمعية العفو عن السجناء السياسيين عبر البحار. ثم تقاعد من العمل في الجامعة وكوليج دو فرانس، وسافر إلى الشرق متفرغاً لدراساته الاستشراقية، فزار مدغشقر ونيروبي وأوغندا ثم مصر والجزائر.‏
وفي عام 1956 منحه الملك محمد الخامس الوسام العَلَويّ. ‏
وفي عام 1958 زار الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية، كما زار المهدي بن بركة في سجنه. ثم أعاد الكرّة إلى مصر وبيروت والقدس والخليل ودمشق موالياً بحوثه ومنشوراته ومحاضراته.‏
وتوفي في باريس في 13/10/62 إثر نوبة قلبيّة، وقد شارف الثمانين من العمر.‏
ومن خلال ما تقدم تجلّى لنا من ماسينيون وجهان من أنشطته، الوجه السياسي المسخّر للدولة، والوجه الاستشراقي في محاولاته الكشف والدراسة لكثير من جوانب التراث العربيّ والإسلامي.‏
وثمة وجهٌ ثالث لماسينيون هو الوجه الدينيّ، الذي لزمه طُوال حياته، وبذل لأجله كثيراًمن الفعاليات. فهو قبل كل شيء رجل دين كاثوليكي يحاول، بشكل ما، وعن طريق دراساته الموجهة إلى الدين الإسلاميّ، أن يقدّم خدمةً للكنيسة الكاثوليكية، فقد كان مؤازراً لمؤسسة شارل فوكو في مونمارتر، وهي مؤسسة تبشيرية، وألقى محاضرة عن فوكو بعد وفاته، وعن موقع مؤسّسته من القضية الإسلامية، وذلك في مراكز الدراسات بسان لويس وبحضورعددٍ من الكرادلة.‏
وكان مؤازراً لجماعة القلبَيْن الأقدسين الكاثوليكية التبشيرية، كما كان دائم المشاركة في المؤتمر العالمي للمؤمنين، ومحرراً في مجلة "الإله الحيّ"، وعضواً دائماً في مؤتمرات تاريخ الأديان. وله محاضرات في "الإيمان بالمسيح وعالم اليوم" في جمهورالمثقفين الكاثوليك. وشارك في تأليف هيئة التعاون المسيحي الإسلامي، وترأَّس هيئة حجّ الصداقة المسيحية الإسلامية في لندن. ورُسِمَ أسقفاً في القاهرة، فكان يحرص على حضور القداسات، وإحياء ليالي العبادة، وممارسة الصَّوم مع غيره مؤازرةً لبعض القضايا.‏
وقد بذل جانباً من جهوده لدراسة ظاهرة "أهل الكهف"، التي وردت عند المسيحيين والمسلمين وتجلياتها الإيقونيّة ودلالتها الدينية.‏
وكان لهذا الوجه الدينيّ من فعّالياته ونشاطاته تأثير في مؤلفاته ومنهجه. فمن خلال اطّلاعه الواسع على التراث الإسلامي، ومعرفته العميقة والشاملة للمجتمع العربي والبلاد الإسلامية، وصداقاته مع شخصيات دينية وعلمية في الشرق، كان يحاول دوماً التقريب بين الإسلام والمسيحيّة. ويبحث عن نقاط اللقاء والتشابه والتأثير ليصل إلى جوّ من التعاون والتعارف والتحابّ بين أهل الديانتين... ولنا أن نتساءل هل كانت جهوده موجّهة بالدرجة العظمى إلى خطاب المسلمين؟ وهل كانت أعماله تنصبّ في خدمة التسويغ الاستعماري وقبول الحضارة الأوربية المسيحية في عالم الإسلام الشديد الحذروالارتياب؟. وهل أَثّرت جهوده الدينية هذه على منهجيته العلميّة وموضوعيته وحياده؟ في الحقيقة انتقدت الأوساط العلمية الاستشراقية منهجه هذا، كما شكك كثير من الدارسين والمثقفين العرب في مصداقيّته، ولا سيما حين كانوا ينظرون إلى خدماته الرسمية في الجيش الفرنسي ووزارة الخارجية، ودخوله في ميادين السياسة الغربيّة في الشرق العربيّ والإسلاميّ، وإنْ كان يحاول دوماً إظهار الصداقة للعرب والمسلمين..‏
ومن نتائج محاولاته هذه تَوصّل إلى إلقاء الضوء على الديانة الإبراهيمية، فمحمد (ص) ينتمي إلى إسماعيل وإبراهيم، ويقرّ بإسلام إبراهيم وحنيفيّته، ويعلن بصراحة أنالإسلام ملة الأب إبراهيم، ويعطي مجالاً كبيراً للإبراهيمية في عقائده وشعائره.‏
ومن جهة ثانية راح ماسينيون يبحث في النصوص الإسلامية، والعقائد والطقوس والأدعية والخرافات، عن قاسمٍ مشترك بين المسيحية والإسلام. ووجد ذلك في التصوف الإسلامي والحلاّج والفرق الشيعيّة المتطرفة. وكما حاول المقاربة بين مَرْيم وفاطمة (في منظوربعض الفرق)، كما بحث عن تأثير الأفلاطونية الحديثة والتوراة والإنجيل في الفلسفة والتصوف الإسلاميين. وركز جهوده على قصّة أهل الكهف، لإثبات مفهوم البعث من الموت والعودة إلى الحياة، أَيْ مفهوم القيامة المسيحيّ. وألقى الضوءَ على سلمان الفارسي، الذي كان مسيحياً قبل إسلامه، وكان في خدمة بعض الكهنة المسيحيين. وأصبح له دور هام بعد إسلامه حتى لقد شهد الرسول له بأنه من آل البيت، ثم تمتّع بتقديس خاصّ عندالشيعة.‏
أما جماعة (البدليّة) التي أسَّسها في دمياط، ثم أصبح لها بعض الفروع، فقد تركزت جهودهاعلى استيعاب مسيحيين ومسلمين في إطار التوفيق الإبراهيمي. وكانت لها اجتماعات وأنشطة ثقافية ودينية تجمع بين ما هو مسيحي وما هو إسلامي. وفي كل اجتماع كانت تتلى بعض سور القرآن الكريم ولا سيما سورة مريم وآل عمران والكهف والفاتحة. وقد ظلت علاقته بهذه الجماعة وثيقة طوال حياته، وكان يوالي مراسلتها حتى لقد بلغت رسائله إليها أربع عشرة رسالة.‏
ولنلاحظ اختياره دمياط مقراً لها وزيارته دار ابن لقمان في المنصورة التي سجن فيها لويس التاسع إثر فشل حملته الصليبيّة على مصر.‏
من مؤلفات ماسّينيون:‏
أ-الكتب:‏
1-مهمّة في ما بين النهرين، مجلدان، مركز الدراسات العربيّةوالشرقية في القاهرة.‏
2-بحث في الأصول اللغوية لمصطلحات التصوُّف الإسلاميّ.‏
3-مختارات من نصوص غير منشورة تخص تاريخ التصوف في بلاد الشام.‏(غوتنر/ 266ص)‏
4-هجرة إسماعيل.‏
5-حولية العالم الإسلامي؛ بالاشتراك مع ف. مونتيي P. U. F.‏
6-أخبار الحلاّج.‏
7-الطواسين.‏
8-ديوان الحلاّج.‏
9-عذاب الحلاّج، المتصوف الشهيد في الإسلام (Passion). في أربعةمجلدات.‏
10- دروس في تاريخ المصطلحات الفلسفية العربية- القاهرة.‏
ب-المقالات والمحاضرات:‏
كتب ماسينيون ونشر عدداً كبيراً من المقالات وألقى عدداً كبيراً من المحاضرات، ولو جمعت لجاءت في مجلدات.‏
ونقتصر فيما يلي على ذكر بعض ما يتعلق منها بالدراسات الإسلامية:‏
1- المغرب والغزو العربي.‏
2- الطريق إلى فاس.‏
3- المغرب في أوائل القرن السادس عشر حسب رؤية ليون الأفريقي.‏
4- قبور الأولياء في بغداد.‏
5- المكتبة الإسلامية في بندر بوشير.‏
6- غوته والإسلام.‏
7- لهجة بغداد العامية.‏
8- تاريخ المذاهب الفلسفية العربيّة.‏
9- زمن تأليف رسائل إخوان الصفا.‏
10- النصيرية في سورية، أصولهم وتوزّع عشائرهم.‏
11- تأملات قرآنية وأصول المصطلح الصوفيّ‏
12- الصهيونية والإسلام‏
ماسينيون والإسلام:‏
لمّا عرف ماسينيون الإسلام تأثر به أشَدّ التأثّر، فقد اقتنع برسالته كما اقتنع برسالة المسيحيّة، واعتقد صحته دون أن يصبح مسلماً. آمن بأن الإسلام دين سماوي، وأن محمداً نبيّ والقرآن كتاب إلهيّ أوحاه الله إليه بوساطة جبريل. وأنه دين الفطرة والبساطة ودين التأمّل في الطبيعة والخلق وتوحيد الإله، وأنه كافٍ لكلّ حاجات الإنسان. وأنه ليس ديناً جديداً بل مكمّل لما سبقه من الأديان التوحيدية، فهو دين إبراهيم حنيفاً مسلماً ودين كل الأنبياء. وكلمة الإسلام -بمعنى الانقياد والطاعة- تنطبق على كلالأديان السماوية، وكلمة مسلم تنطبق على كل الأنبياء. وإبراهيم أبو الأنبياء وإمامهم والله إله الجميع، ولإبراهيم منزلة خاصة في الإسلام؛ فمحمد من السلالة الإبراهيميّة شأنه في ذلك شأن كلَّ القبائل المستعربة، وإسماعيل هو الولد الأكبر لإبراهيم والذي حُرم من خلافة والده، وأقصي مع والدته هاجر إلى مكة لحكمة يعلمُها الله. وحين أودع إبراهيم أسرته في مكة أقام بيتاً لله ودعا ربّه (ربّنا واجعلنامسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتبْ علينا إنك أنت التوابُالرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمةويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم). (البقرة 129).‏
ودعا إبراهيم بأدعية أخرى، واستجاب الله دعاءه برسالة محمد إلى العرب، الفرع الإبراهيمي المُبْعد المهاجر المحروم من النعمة، الذين يسميهم ماسينيون الإسماعيليين، ويسمي دين الإسلام الإبراهيميّة ومع ذلك فهو دينٌ عالميٌّ، وليس ديناً محلّياً خاصاً كاليهودية. والمؤمنون أمة واحدة:‏
(إنهذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (أنبياء 92). وكلهم يؤمنون بالميثاق الذي أخذه الله على البشر وبالدينونة.‏
والمسلمون يؤمنون بالمسيح، ورسالة وقداسة وطهارة مريم العذراء، وعودة المسيح يوم الدينونة ولقائه مع المهديّ.‏
والقرآن واحدٌ موحِّدٌ، يبرئ مريم وابنها من الإثم ومن الشيطان الرجيم. ومحمد نبيٌّ صادق أَمين وهو المُبَشَّرُ به، وهو خاتم الأنبياء، وليس بعده إلاّ الأولياء والمقرّبون.‏
ولم يقل محمدٌ عن نفسه شيئاً سوى أنه عبدٌ مُرسَلٌ يُوحى إليه، اقترب من الحظيرة الإلهية وبقي عند الأعتاب، فلم يدّعِ الاتحاد والحلول، بينما تجاوزها الحلاّج فتجاوز بذلك الحدود المشروعة فقُتِل بسَيْف الشريعة وصُلِب...‏
ويرىماسينيون أن محمداً هاجر في سبيل الله، كما هاجر من قبلُ إبراهيم وزوجُه هاجر وابنه إسماعيل.‏
حمل ماسينيون على عاتقه قضية التقريب بين الإسلام والمسيحيّة، وهو الوحيد في ذلك بين المستشرقين المسيحيين. وجمع بين مسيحيّته العميقة كرجل دين وبين تقديره للإسلام، ووجد في دراسة التصوف الإسلامي خير طريق لاكتشاف التقارب والتشابه بين الدينين. كماوَجَد أن إبراز شخصية الحلاج الصوفي المسلم الشهيد خير ما يؤصّل المسيحيّة في الإسلام.‏
وكلُّ المستشرقين درسوا التصوف الإسلامي من الخارج، أما ماسينيون فقد درسه من الداخل أيمن خلال تجربته المسيحية- الإسلامية وقناعاته الخاصة وتعاطفه مع الحلاج القائل بوحدة الشهود، وأول من قال في الإسلام: "أنا الحقّ". وهذا ما سما به إلى أعلى مستويات القداسة والولاية ثم ختم حياته بالشهادة.‏
إن ماسينيون رأى في الحلاج شبيهاً له، كرجل مسيحي له تجربته الصوفية التي وجد فيها ذاته وتعاطف من خلالها مع البشرية المعذبة، كما فعل الحلاج الذي وصل إلى الحقيقة بطريقة المجاهدة النفسيّة والفناء.‏
وهكذا يقرر ماسينيون أن التصوف مجاهدةٌ ومعاناة واستبطان قبل كل شيء. وهو يوافق المستشرق مرغوليوث MARGOLIOUTH بأنّ في القرآن أسساً صالحة لمنهج صوفي أصيل، بعيد عن التأثيرات الأجنبية.‏
وهذالا يمنع وصول أصداءٍ خارجيّة تركت بعض تأثيراتها في التصوف الإسلاميّ جاءت من صوْب الشرق الهندوسيّ والأفلاطونية الحديثة. بل إنّ ماسينيون يرى أن هذه الأصداء أبعدت التصوف الإسلامي عن متناول الجماهير المسلمة ولا سيما حين نادى ابن عربي بوحدة الوجود.‏
أما تجربة ماسينيون الصوفية فكانت جمعاً بين روحانية القديسين المسيحيين والأولياء المسلمين في منهج التضحية وتحمّل الآلام (والحلاج مثالٌ لذلك) وما عُرف عندالمسلمين بالأبدال الذين هم أعمدة الكون يحجبون عن البشر سطوة غضب الإله... إن هذا اللقاء بين البشري والإلهي، الذي هو لقاءٌ بين شاهد الآن وشاهد الدّوام هو نقطة اللقاء العظمى بين المسيحيّة والإسلام التي اكتشفها ماسينيون!‏
وقد انتُقد ماسينيون بأنه أخذ معطياته من الإسلام السنّي ومصادره، وأهملَ في دراساته المصادرَ الشيعيَّة، ولكنّ هذا غلطٌ وتجنٍ.‏
فنحن نعلم أنَّه أتقن اللغة الفارسية وحاضرَ بها وتواترت، زياراته لإيران ولقاؤه أكابرَعلمائها الدينيين. واعتمد على مؤلّفين شيعيين كالبقلي والشيرازي، ودَرَس النصيريّة في سورية وكتب عنها، وبحث في الغنوصية الإسلامية أي العرفان لدى الشيعة.‏
كما أورد آراء الشيعة في الحلاج وساق على تقديسهم إياه آراء علمائهم كالطوسيّ، ومُلاّشدرة شيرازي، كما وجد أن فرق البابيّة والبهائية واليزيدية يقدسونه أيضاً.‏
وركز جهوده على السيّدة فاطمة، التي كثيراً ما قورنت في الإسلام بالسيّدة العذراء، وعلى قصة المباهلة التي جرت مع نصارى نجران في المدينة بحضور السيدة فاطمة وعليّ والحسن والحسين.‏
وأبرَزَ ما يسمى في الصوفية الإسلامية بالأبدال، كما أبرز دور عليٍّ وفاطمة وسلمان الفارسي في الإسلام والشيعيّة ومن المعلوم أن سلمان يمثل الثقافةالمسيحية، لأنه كان قبل إسلامه يلازم الرهبان ويتلقى عنهم، ثم ذهب ليبحث عن الحقيقة والنبيّ الجديد.. وقرّبه النبي حتى عدّه من آل البيت.‏
ويعرّج ماسينيون على قضية خروج المهديّ التي يؤمن بها المسلمون جميعاً، ويرى فيها مثيلاً لعودة المسيح المعترف بها أيضاً في الإسلام، ويلتقي المسيح بالمهدي، ويعُمّ العدل والسلام جميع البشر... وعند الشيعة أن الخضر وأهل الكهف السَّبْعة سيعودون على مقدمة جيش المهدي فيدخلون القدس ويلتقون السيّدالمسيح..! ويستعين ماسينيون في إثباته إمكانَ البعث والقيامة، بأمثلة موسى والخضِر وإيليا والمهديّ والمسيح وأهل الكهف، وهذه كلّها معطياتٌ إسلامية سنية وشيعيّة ومعطيات مسيحيّة.‏
ولكنّ هذا كلّه لا يخرج بقناعات ماسينيون عن الخطّ السّنّي.‏
فهو يؤمن بأن الإسلام شريعة وروح، لا يلغي أحدهما الآخر وهو طريقةٌ وحقيقة، لا غنى لإحداهما عن الأخرى. ويرى أنَّ القرآن والحديث هما مصدرا التصوّف الإٍسلامي، وأنالتصوف سُنيّ، عربيّ، ساميّ، أي إنه أصيل وليس بحاجة إلى التأثيرات الأجنبية. إنّ ماسينيون مع أمة الإسلام الواحدة، ومع الإجماع والسنّة، وإنما كان ميله إلى الدراسات الشيعية بمقدار ما تخدم لديه أطروحة التقارب العقائدي بين الإسلام والمسيحية.‏
ماسينيون ودراساته في الميزان:‏
لقد كانت لماسينيون مهمتان: الأولى تنمية المفاهيم المسيحية بين المسلمين، والثانية تغيير نظرة المسيحيين إلى الإسلام، وبهذا يتمّ التقارب بين الجانبين. ولذلك كان كثيراً ما يشارك في احتفالات المسلمين كليلة القدْر، وقد يشارك في صوم رمضان ويجعل تلاوة سورة من القرآن ركناً معتاداً في اجتماعات "البدليّة" التي تضم مسلمين ومسيحيين.‏
ولننتقل الآن إلى بيان موقف الآخرين من أعمال ماسينيون:‏
لقد كان طلابه يدهشون لسعة إطلاعه وكثرة مصادره وغزارة ما يورده من الأسماء، فكانوا بين مبهور معجب وبين متشككٍ حذر.‏
أما العلماء فقد أخذوا عليه مآخذ عديدة منها : 1- جمعه بين السياسة والدين والدراسة العلمية. 2- وتسخيره العلم والبحث لغايات غير علميّة. 3- سطحيَّة نظرته، وبعده عن التحليل، ووقوعه في أخطاء عديدة بسبب التسرّع.‏

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتابالعرب-دمشق العدد 83-84