المؤرخ والشاعر مير بصري يرحل وعينه على بغداد التي لم تفارقها روحه

المؤرخ والشاعر مير بصري يرحل وعينه على بغداد التي لم تفارقها روحه

إنعام كجه جي
«لم أهاجر إلى إسرائيل لأنني كنت أشعر بأنني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة»
برحيل مير بصري عن 94 عاما في لندن، تكون ذاكرة عراقية ثرة اخرى قد انطفأت قبل ان تلقي بكل حمولتها من حكايات ودروس للاجيال العراقية الجديدة الباحثة عن قبس في العتمة.

فالرجل لم يكن آخر المثقفين اليهود الذين اضطروا الى الانسلاخ عن بغداد، بعد طول عناء، بل قطعة ثمينة من تاريخ البلد، في الشعر والتراجم والاقتصاد والدبلوماسية.
سألته، ذات صيف، وأنا أزوره في بيته الواقع في ضاحية لندنية هادئة، عن سبب بقائه في العراق بعد ان غادره أغلب اليهود في فترة مبكرة من الخمسينيات. قال: «لم اهاجر الى اسرائيل مع من هاجر لأنني كنت اشعر بانني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة». ثم راح يروي لي، وهو يدفع حرارة الطقس عن وجهه بمروحة من سعف النخيل «مهفَّة» حملها معه من بغداد، كيف ان حكومات ذلك الزمان مهدت للهجرة الجماعية لليهود عام 1950، منذ اعلان قيام اسرائيل، اذ كانت تضايق اليهود وتسجن شبابهم وتطرد موظفيهم من الدوائر وتقطع اجازات الاستيراد عن تجارهم، بحيث صار اغلب افراد الطائفة من العاطلين عن العمل. فلما صدر قانون إسقاط الجنسية عنهم، لم يجدوا بداً من ترك البلد الذي ما عاد يوفر لهم حياة آمنة كريمة.
بقي في العراق، بعد تلك الهجرة الجماعية، حوالي العشرة آلاف يهودي، وكان بينهم مير بصري والشاعر أنور شاؤول والصحافي سليم البصون وعدد آخر من الكتاب الذين شعروا بانهم، برغم كل الظروف، ما زالوا في وطنهم.
ثم جاءت حرب حزيران، وهزمت اسرائيل الجيوش العربية واحتلت الضفة الغربية، وانعكس ذلك سلبا على من بقي من اليهود في العراق، حيث فرضت عليهم احكام قاسية وجردوا من حقوقهم المدنية وسجن العديد منهم وخطف آخرون وقتلوا.
يروي مير بصري: «كنت حينذاك رئيسا فخريا للطائفة اليهودية. وقد جرى اعتقالي لمدة شهرين بسبب ما كنت ابذله من جهود للدفاع عن ابناء طائفتي. وكتبت الى احمد حسن البكر والى صدام حسين رسائل اطالب فيها بحقوق المواطنين اليهود الذين بدأوا يهربون من البلد تباعا. وفي الوقت الذي منعت فيه عنهم جوازات السفر، فان اغلبهم فر عن طريق ايران. واستطيع ان اقول انني تمكنت، الى حد ما، بمراجعاتي للمسؤولين ورسائلي الى رئيس الجمهورية، ان اخرج الكثيرين من السجن وتخليص بعضهم من القتل».
كان القنصل البريطاني في بغداد (الذي يباشر عمله لرعاية شؤون الانكليز في العراق من مكتب في السفارة السويدية بسبب قطع العلاقات بين لندن وبغداد اواسط السبعينيات) يزور مير بصري في دار الطائفة اليهودية، مرة في الاسبوع، لكي يزوده بالاستمارات المطلوبة للحصول على سمات الدخول الى بريطانيا.
فقد كان اليهود القلائل المتبقون في العراق يخشون مراجعة القنصلية او أي سفارة اجنبية، حالهم حال سائر العراقيين آنذاك. وكان بصري يعطي تلك الاستمارات للراغبين بالسفر، فيملأونها ثم يعيدها الى القنصل.
وفي صيف 1974 استدعت بريطانيا ذلك القنصل وعينت غيره محله. وقبل ان يغادر البلد، ذهب لزيارة مير بصري ومعه القنصل الذي سيخلفه، لكي يعرفه عليه. ولما انتهت الزيارة وقام بصري ليودعهما عند الباب الخارجي، قال له القنصل المغادر: «لقد خدمت طائفتك يا مستر بصري بما فيه الكفاية، وأظن ان الوقت قد حان لتفكر بنفسك وعائلتك».
يقول: «كان معنى كلامه، باللهجة الدارجة: روح وليّ عاد! لكنني كنت أباً لأربع فتيات، عايدة في الكلية التكنولوجية ونورا قد تخرجت في الثانوية والصغيرتان في المدارس، ومن الصعب قطعهن عن دراستهن وتشويش مستقبلهن. لكن لما رأينا ان اكثرية اليهود يرحلون بالتدريج، بدأت البنات بالالحاح عليَّ بالسفر، فتركت بيتي في حي السعدون وأخذت اسرتي وسافرت. وقد صادرت الحكومة بيتي وسيارتي».
غادر مير بصري العراق، مع زوجته السيدة مارسيل هارون مصري، دامعي الأعين. لقد فارق المدينة التي ولد فيها عام 1911 في محلة «تحت التكية»، قرب سوق السراي، وفيها عاش ومات والده تاجر القماش شاؤول بصري، وفيها عاشت وماتت والدته فرحة، ابنة الحاخام الاكبر عزرا دنكور.
سلك الرجل درب الهجرة بعد ان تجاوز الستين، وهو يراجع فصول حياته في الوطن الذي كان جنة لكل ابنائه، قبل ان تتدهور الامور. ففي عام 1937 أوفدته الحكومة، وهو اليهودي، الى فرنسا للاشراف على الجناح العراقي في معرض باريس الدولي، برفقة الدكتور عبد الاله حافظ. ولأنه كان قد درس الاقتصاد في بغداد، فقد انتهز الفرصة وادى الامتحان في احد المعاهد الفرنسية ونال شهادة من هناك.
قبل تلك السفرة، اجتاز مير بصري امتحان الدخول الى وزارة الخارجية، وشغل منصب الامين العام فيها ووكيل مدير التشريفات. ثم اصبح مديرا لغرفة تجارة بغداد، وأصدر مجلة خاصة بها لمدة ثماني سنوات. وفي عام 1944 اوفد عضوا في الوفد العراقي الى مؤتمر التجارة الدولي في نيويورك، برئاسة نوري فتاح، وبقي بعد المؤتمر عدة اشهر في الولايات المتحدة، يلقي المحاضرات عن الاقتصاد والتجارة في العراق.
ولأنه شاعر بالفطرة، سعى للقاء شعراء المهجر، وفي مقدمتهم ايليا أبو ماضي. وفوجئ وهو يرى ذلك الشاعر الكبير يعمل في مطبعته المؤلفة من غرفتين في بروكلين، يساعده عامل واحد يعمل على ماكنة صغيرة محشورة في السرداب. ومن هناك كانت تصدر جريدة «السمير» التي يتلهف لوصولها ادباء العراق.
شكا الشاعر اللبناني لزائره العراقي من ان دواوينه طبعت في النجف، وان قصائده لحنت وغنيت في القاهرة، من دون ان يناله شيء من حقوق المؤلف. وقد اتصل بالسفارة العراقية التي كانت قد افتتحت حديثا في واشنطن، فقيل له ان العراق لم يشترك في الاتفاقية الدولية للحقوق الفكرية.
كتب مير بصري الشعر في مختلف الموضوعات، حتى انه نظم ملحمة حول «الفايكينغ»، وكان يقول لمن يسأله عن سبب اهتمامه بهم: «ان الشاعر غير مسؤول عن وحيه». وفي مطلع شبابه بدأ يكتب «السوناتات» ذات الأبيات المختلفة والقوافي المتنوعة. وقرر ان يترجم مصطلح «سوناته» الى العربية، واستقر رأيه على لفظة «إرنانة»، نسبة الى الرنين، على اعتبار ان اللفظة الفرنسية مشتقة من الصوت. وجمع الأرنانة أرانين، أي سوناتات. أعجبته الكلمة، فراح وعرضها على صديقه مصطفى جواد، العلامة اللغوي، فكتب له انه يستحسنها لأنها تؤدي المعنى المقصود. وبعد ذلك راح يكتب الأرانين وينشرها في جريدة «العراق» لرزوق غنام، التي استقبلتها بحفاوة تليق بها.
نشر مير بصري، ما بين بغداد ولندن، اكثر من اربعين مؤلفا، بالعربية والانكليزية. بينها تراجم لأعلام الأدب العراقي الحديث، ولأعلام السياسة، وأعلام الكرد، وأعلام التركمان. وكتب عن ثورة تموز 1958 في العراق يقول انها كانت ثورة عسكرية وليست شعبية، لأنها قضت على الحياة البرلمانية في العراق وفتحت باب الانتفاضات والانقلابات.
يقول: «لما نشر رياض الريس كتابي عن ثورة تموز، حاول التملص من الآراء الواردة فيه، فكتب على الغلاف الأخير ان مير بصري جاء بآراء حرة وغريبة ونحن ننشرها لتكون موضوعا للمناقشة». ويتوقف قليلا عن الكلام ويروح يحرك المهفة أمام وجهه بسرعة وعصبية، واخيرا يضيف: «مناقشة من؟ مناقشة الطغاة والدكتاتوريين؟».
جريدة الشرق الاوسط 2005