محمد غني حكمت .. وتاثيرات  البيئة المحلية

محمد غني حكمت .. وتاثيرات البيئة المحلية

د. علي شناوة وادي
باحث وناقد فني
واحدة من أهم خواص الفنان في بلورة مخرجاته الابداعية .. انما تتمثل بحساسية الفنان وقدراته الحسية على تنافذاته مع مفردات البيئة ..الكون .. الانسان .. من خلال تأملاته وانطباعاته الداخلية ازاء هذا الخارجي ..

وكيف وان (محمد غني حكمت ) يعد منظومة تراثية تمتلئ بالتفاصيل الاثرائية للحياة الشعبية .. فضلاً عن ثقل خزين محمولاته من القصص والخرافات والميثولوجيا خاصة وان الموروث الحضاري العراقي والثقافة الشعبية عموما تعد من السمات الزاخرة المستلهمة ضمن مسيرة تاريخ المنجز التشكيلي العراقي المعاصر . والذي عمّق قضية كهذه الى حد اشتراط ذلك في العملية الابداعية انما يتمثل بطروحات جماعة بغداد للفن الحديث والذي يمثل (محمد غني حكمت ) احد أقطاب هذه الحركة . اذ يعرف عادة بقدرته على تأمل وتمثل وهظم كل هذه الارث التاريخي الشعبي لينتج بعد ذلك سيلاً من إبداعاته النحتية التي تجمع بين الذاكرة الوثائقية الجمعية والابداع الخلا ق.
ان (محمد غني حكمت ) يرصد المشهد الخارجي بجميع ضغوطا ته ومحمولاته النفسية والاجتماعية والروحية والعاطفية بدليل ان جل موضوعاته الفنية على مستوى خطاباته البصرية لم تأخذ طابعا نفسيا ذاتيا او نكوصيا ضيقاً انما تعد وثائق لمشاهد عراقية حية تأخذ سمة الكلية والشمول دون الاستغراق في موضوعات لا هوية فيها بل ودون الاستغراق ايضا في أعمال تشتغل مع كل ما هو زائل وطارئ .. اذ ينحت (محمد غني حكمت ) أبجديات مفردات فنه الخاص به تحديدا ذلك الفن الذي يحمل سمة الهوية والالتزام والقضية طبقا والمشروع التنويري الحضاري بأبعاده الستراتيجية لذوي الثقافة والفكر من الفنانين المحدثين.
لا شك ان الثقافة الشعبية بترسباتها التأثيرية العالية تشكل عوامل ضاغطة في تفعيل المنظومة الجمالية لدى (محمد غني حكمت ) هذه الثقافة التي تتماهى بشكليات وسرديات قصص شعبية كما في قصص ألف ليلة وليلة والادب الميثولوجي ومشاهدات يومية وطقوس دينية روحية والتي تشكل استجابة مع الدعوات التى كانت تؤكد ضرورة بعث التراث الحضاري بمسمياته التاريخية والشعبية المشرقة والتي أفادت منها الكثير من الاتجاهات التشكيلية.
ان نتاجات (محمد غني حكمت ) نتاجات لا تنفصل عن الحياة وحركة الواقعي الذي يتصاعد حد المثال في تجريداته الجمالية .. نتاجات ترتبط مع ما يسمى بالفن الملتزم . والفن الذي ينتج طبقا و ( استطيقا - سيسيولوجية ) وتتصف نتاجاته ايضا بالدقة والحرفية والاكاديمية فهو يهتم بعناية فائقة ببنائية انشاءاته النحتية والمراحل المتأنية أثناء العمل.
وكما كان للمتحف العراقي الذي يؤرشف وثائق الارث الحضاري الرافديني أثره البالغ على توجهات (جواد سليم) كان له أثره ايضاً على النحات (محمد غني حكمت ) فضلا من ان هناك حب مشترك لبغداد بعاداتها وتقاليدها وطبيعة سجايا الناس فيها يتقاسمه كل من ( جواد سليم ) و(محمد غني حكمت ) فالحياة البغدادية الشعبية تمثل النصيب الاكبر والموضوعة الاثيرة لدى هذين الفنانين وقد استطاع كل منهما ان يصّعد من الخصائص والثيمات المحلية الى حد العالمية وانفتاح كل منهما على التجارب الفنية في أوروبا بما فيها من رؤى وافكار وتقنيات .. بل وعمل كل منهما مع
(شاكر حسن آل سعيد) على توطيد رؤية فكرية وفنية تشكل أساسيات بيانات جماعة بغداد للفن الحديث عبر هذا التلا قح بين التراثي والحضاري والاسلا مي والمعاصر.
ان الوعي المبكر بأهمية حيثيات البيئة المحلية وما تحتفي فيه من طقوس وممارسات وسلوكيات يومية من قبل جماعة بغداد للفن الحديث يعد احد مسميات النضج الفكري المتقدم بدلا من اللهاث المتسارع وراء كل ما هو زائل من التجارب الغربية الا ما يمكن توظيفه في خدمة رؤيتهم الفنية وهذا بطبيعة الحال منح جماعة بغداد للفن الحديث ومن بينهم (محمد غني حكمت) فرادة الرؤية والاحتفاء بمظاهر البيئة الحضارية والتراثية وبالتالي خصوصية المفردة بما يعّمق دلالات البحث لديهم في هذا التوجه وان كانت هذه الخاصية قد أفادت منها الأجيال الفنية في العقود اللاحقة التي اعقبت جماعة بغداد للفن الحديث من خلال توظيف الموروث الحضاري ومفردات البيئة المحلية كما هو الحال على سبيل المثال وليس الحصر في توظيفات ذلك من قبل الفنان ( نوري الراوي ) الذي استلهم مفردات البيئة من قريته الفاضلة ( راوة ) والفنان ضياء العزاوي في توظيفات الوحدات الزخرفية من البسط الشعبية .. وفي أعمال فائق حسن وفرج عبو وإسماعيل الشيخلي وعامر العبيدي وأخرين
ان المفردات البصرية في مجال خطاباته النحتية تتسم بتجريداتها العالية وبساطة التكوين فيها .. وربما يبدو ( حكمت ) اقرب منه من الناحية الاسلوبية الى النحات الانكليزي (هنري مور) الذي تأثر به الفنان جواد سليم .. وجل موضوعات (محمد غني حكمت) تهتم بالمرأة والأسرة والامومة والمهن والحرف الشعبية والسرديات البغدادية والموضوعات الميثولوجيا .
مثلما ( رودان ) تبدو أعماله النحتية قائمة على الابداع الخالص الذي يصل درجة الاعجاز .. تبدو أعمال (محمد غني حكمت ) تلك الاعمال التي ينفتح فيها الفنان على روح الاساطير الرافدينية والمقومات التراثية الاصيلة .. وبهذا فان (محمد غني حكمت) لا يرفد بغداد بهذه النتاجات المميزة بطابعها العراقي والعربي الذي يمتد من أعماق التاريخ .. انما يمنح الوطن العربي ملامح مدرسة تمتاز بأصالتها في فن النحت تكمل ما بدأه ( جواد سليم ) هذا الفنان ذو العقل المؤسساتي على مستوى بلورة خصائص ملامح توجهات جديدة في النحت العراقي المعاصر اذا كان ( جواد سليم ) يفرض اسلوبية جديدة في نتاجاته النحتية ذات السمات التعبيرية الرمزية في مجتمع يعاني من فقر الذائقية الجمالية وتدني المستوى الثقافي اذ يغاير في نتاجاته تلك شروط ومواصفات المحاكاتية التسجيلية على الرغم من ان ( جواد سليم ) هو الأخر انما يبلور مضامينيا روح الشعب فنتاجاته تقترن بالمرحلة كقضية والتزام والدليل على ذلك نتاجه المهيب ( نصب الحرية ) والذي لم يكن (محمد غني حكمت ) ببعيد عنه اذ يعد أنذاك تلميذاً مثابراً لجواد سليم وساعده الايمن في عمل هذا النصب ومكملا لا فكاره وطروحاته لكن الفرق بين ( جواد سليم ) و(محمد غني حكمت ) بوصف ان الاول يفجر ابداعاته بصورة عرضية خلاقة ومرة واحدة اذ على قصر فترة مرحلة انجازاته الابداعية الا انه استطاع ان يفرز بجرأة باكورة اسلوبه ليصطبغ النحت العراقي المعاصر بالشي، الكثير بملامح هذه الأسلوبية في حين يبدو ان (محمد غني حكمت ) يعرض نتاجاته بشكل تراكمي ابداعي طوليا وبخط أسلوبي يمتاز بالدراسة المتأنية التي تقوم على مشروعية البحث والدراسة فهو منظومة خبراتية تراكمية هو الاخر منظومة متعددة المستويات والاثراءات والمرجعيات اذ ينفتح على اساليب وتقنيات اوربية ومضامين وأساليب عربية واسلا مية ورافدينية فضلا عن المؤثرات التراثية البغدادية
ان مهمة فنانين مثل (جواد سليم) و(محمد غني حكمت)و( شاكر حسن آل سعيد) وغيرهم من الفنانين الرواد ليست بالمهمة السهلة او الكمالية ، وخاصة وان ذلك يقترن بتصعيد وتأثر نمو الذائقية الجمالية وارساء أسس ومواصفات فن تشكيلي عراقي حديث ، اذ لا تنفصل قضية الفن عن المنحى السسيو - استطيقي . في مجتمع يعاني الكثير من الحرمان ومنه الحرمان على مستوى الذائقية والثقافة اذ يشير الى ذلك الفنان ( جواد سليم ) الى ان المشاهد في المجتمع العراقي أنذاك كان يطالب بوضع اسماء عناوين اللوحات عند اقامة المعارض الفنية الى درجة ان ندون تحت اللوحة التي رسم فيها تفاحة أسم كلمة تفاحة فكيف الأمر أمام الاعمال النحتية للفنان (محمد غني حكمت ) فى مجتمع يعتقد بتحريم النحت اذ يقيم الفنان أول معرض شخصي للنحت في بغداد بعد دراسته في روما نهاية العام 1961.