محمد غني حكمت والنحـــــت المعاصـــــر

محمد غني حكمت والنحـــــت المعاصـــــر

محمد صفاء حمودي
ان النظر إلى الفن عموما باعتباره ظاهرة أو شكلا من إشكال النشاط الاجتماعي حيث تتحدد أهميته بثقافة الإنسان ككائن اجتماعي يعمل على تغيير الطبيعة وتحويلها إلى تلبية حاجاته المتنامية بمختلف مراحل تطور النشاط الفكري المجتمعي.

أي ان الفن يرتبط ارتباطا وثيقا ومباشرا بمختلف القوى الفاعلة في تاريخ تطور المجتمع ماديا وفكريا، وعليه فالمجتمع العراقي شأنه شأن المجتمعات الأخرى سعى إلى الفن كضرورة (اعتبرها متوارثة) نقلت الحضارة الإنسانية الممتدة إلى آلاف السنين والمحملة بأيدلوجيات فكرية معمقة انتقلت خلال عصور مكونة بذلك نمطا معبرا من فكرة المجتمع المتنقل من مخاضات متعددة أسفرت عن مجموعة من المنجزات الفنية والمرتبطة ارتباطا وثيقا بروح المجتمع العراقي ومعبرة عنه، والمغذي لصراعات الاتجاهات الفنية الحديثة في المنجز الفني العراقي هو حركة التحولات الهائلة في تاريخ الفكر البشري والتي وردت الينا في اطر فكرية بمدارس ومناهج وتجارب عاشها المجتمع الأوربي بشكل خاص، وإلفها المجتمع العراقي عن طريق الاتصال الفكري عبر وسائل الاتصال وبمجموعة المداخلات الثقافية التي حدثت في العالم نتيجة الاختلاط الثقافي ان كان عن طريق المعارض أو عن طريق الدارسين خارج القطر.
ووفق هذه المعطيات برزت أسماء لامعة في سماء المجتمع الفني العراقي وعكست أعمالها الخلاصات التراثية والبيئية والحضارية والفكرية العراقية ممتزجة بثقافات تلك البلدان فأصبحت هناك محصلة يتجاذب أطرافها طرفي الثقافة وحورها الفنان العراقي فمنهم من بقي بتجربته العراقية الخالصة المستوعبة للإرث الحضاري العميق ومنهم من التجئ لمعظم التيارات الثقافية والفنية العالمية، إذ لا يختلف من حيث المقومات الفكرية التي تنبع من الواقع الاجتماعي والنفسي وتكون لها تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة في أسلوب الفنان، اذ أنه " وكما للفن الشعبي قيمه اجتماعية وحرفية ارتبطت بالحياة اليومية والعادات والتقاليد، ولقد توسعت الحركة التشكيلية في العراق وتنوعت بعد أن كان للفن الأوربي دوره في البدايات والنشأة ".
اذ تتفاعل ثمار الفكر والحضارة الأوربية والتراث الحضاري العراقي العربي ليصبح للفنان العراقي دورة في محاولات أيجاد ما يناسب عراقيته وتحديد أسلوبه الخاص بما يحاكي روح العصر "رغم تأثره بالفن الغربي تأثيراً واضحا الا انه أستنبط في فنه من التراث العراقي".
يبقى النحات محمد غني حكمت، واحدا ممن تركوا الأثر الكبير في النحت العراقي ومعالجته الأصيلة للإرث الفني للمنجز النحتي، إذ عالجت أعماله البيئة العراقية مستمدة من الإرث الكبير لها على اختلاف مناهله فقد استعان بالأساطير العراقية القديمة في استلهام مفرداته النحتية كما في، إضافة إلى حكايات ألف ليلة وليلة العراقية (شهريار وشهرزاد)، وكهرمانة، فنجده "اقترب من تحقيق النزعة المتأصلة في الفن العراقي منذ القدم، نزعة التشبيه والتجريد التي تبرز أولاً في الفن السومري ثم تتراوح قوةً وضعفاً عبر القرون وتعاقب الحضارات على العراق ولسوف تتجه النزعة بأقصى مداها بعد ذلك نحو التجريد في الفن العربي وهو ما تبناه محمد غني، محولاً الكثير من تشكيلاته النحتية إلى ما يشبه تلافيف الخط العربي وتعاريجه مازجاً مرة أخرى المجسد في المجرد".
وكما هو واضح في أكثر أعماله النحتية كتمثال (بائع السكائر1962)، المعمول من الخشب والذي يتسم في اختزال التفاصيل الخارجية للملابس أضافه إلى اختزال تضاريس الجسم وجعلها مبسطة جداً موضحاً من خلال التبسيط في الأداء. كما واعتمد النحات في أظهار القدرة التعبيرية في الشكل المبسط والمجرد، الذي تكتنفه الحركة ذات الإيقاع المتوازن لإيجاد وسيلة يحيل بها الفكر إلى الماضي ويعيش أجواءه في الحاضر". ومن الأمثلة على ذلك تمثاله (ام العباءة 1989)، الذي يعد أسلوبه أقرب إلى شكله الواقعي الا أنة يمتاز ببعض التحويرات، التي حققها الفنان من خلال تموجات العباءة وإظهار خطوطها بشكل مبالغ فيه للإيحاء بالحركة، وهذه الخطوط المتموجة أمتاز بها النحات موظفاً إياها في أغلب نتاجاته النحتية ومبتعداً عن كل الخطوط المتكسرة ذات الزوايا الحادة أذ "يقوم بمهمة فضح أسرار الجمال الجسدي، حتى أن الوسائل الرابطة جراء حركته كالإيقاع والاستمرارية، والترديدات النغمية المتواصلة تخضع لسلطته، وتسهم مجتمعه في بلورة الفكرة المشتغل عليها لهذا يتحول الخط عندهُ على الدوام من مجرد عنصر تصويري إلى بنية تمركز تتضائل إزاء المراكز الأخرى". وكما في تمثاله (هواء وعباءة وطفل 1975)، أذ يمثل أمرأة تحتضن طفلها، والتي حقق من خلاله النحات لغة تعبيرية عالية، من خلال أسلوب التنفيذ الذي كان مقترباً من الواقع رغم اختزال الكثير من التفاصيل في الشكل، أضافه إلى الملمس الناعم الذي يتسم به العمل.
فضلاً عن أن محمد غني قد وظف قدراته الفنية في محاولاته من خلال التنوع في الخامة كالبرونز والحجر والمرمر والخشب، "ومهما تكن تجارب الفنانين متأثرة بصياغات غربية فأن فهم أسرار المادة وتطويعها للمضمون هدف أساسي في استمرار النحات لعمله في خضم بحثه عن شخصيته متواصلاً مع حركة التاريخ وواقع مجتمعه وتلبية حاجاته وتحقيق بعض تطلعاته عبر الفن. أنهم يجدون في ذلك مجالاً للبحث والتمثيل قصد الابداع والاستيعاب وكسب المعرفة، وهكذا الآن تبحث تجارب النحت في العراق عن سمات جديدة توصل فيها سعياً في الفن باحثه عن هوية متميزة".