الاسطورة في بغداد

الاسطورة في بغداد

د. هاشم حسن
يشعر الناس الطيبون انهم يفتقدون ويفقدون ويبتعدون كل يوم عن اشياء عزيزة على قلوبهم وقريبة من ارواحهم ومألوفة في حياتهم ، وهذا الشعور يكاد ان يقود الناس للاحباط والهزيمة ، ولولا جهود واجتهاد البعض لما عاد بريق الامل لاهالي بغداد ومن خلالهم للعراق كله ولمحبيهم في الشرق والغرب.

اقول ذلك وقد سرني عودة النحات العراقي المعروف الفنان محمد غني حكمت الى بغداد بعد هجرة قسرية الى عمان، تزامنت مع تعاظم الشعور بسطوة الارهاب وتمادي المتطرفين والمتاجرين بالدين وتسلط المتخلفين الذين هاجموا النصب والمعالم الفنية ودمروها وكانها اصنام قريش وكانهم خفافيش طلبان وهم يدمرون تماثيل بوذا متجاهلين قيمة التاريخ وعظمة الفن والاثار وجمالية التراث واقترانه بتاريخ الشعب وليس الحكام لاسيما اذا ما كان مستلهمنا من تاريخنا واساطيرنا وحكايات اهلنا ، تماما مثلما هي عليه تماثيل ونصب محمد غني حكمت التي اصبحت لبغداد مثل قسمات وجهها وعناوين هويتها.
عاد ابا ياسر منتصرا مثل ابطال الملاحم الكبرى مدججا بالسلاح وسلاحه ازاميل النحات وقلم الرصاص وصدرية العامل المبدع الذي لايخشى لهيب النار وهي تصهر المعادن لتصنع زهورا ونافورات تزين ارواح الناس قبل شوارعهم وتبعث في نفوسهم الامل مع كل زخة ماء في تموز بغداد الملتهب فتخمد نيران الارهاب وتنكسر عصا التطرف مع شموخ كل تمثال ونصب يحكي لنا قصة حب وفلسفة حضارة.
عاد محمد غني حكمت باربعة مشاريع عملاقة ستظهر في بغداد التي تتحدى القدر فهي تشيع الشهداء وتضع في ذات اللحظة الحجر الاساس لمشاريع عمرانية ونصب جمالية وتذكارية ربما لايراها البعض او يظن انها لمسات تخدير وحركات تبذير وفعاليات متبطرين او حبة رمل تتطاير في فضاء لكننا نقول لهم ان ضخامة شجرة السنديان وارزة لبنان كانت مجرد بذرة واصبحت غابة ، وقد نزرع ويقطف الاتي بعدنا الثمر، ولابد لنا ان ان نتفاءل رغم اتساع موجة الارهاب واكداس ملفات الفساد..
عودة محمد غني حكمت بشخصه وابداعاته لبغداده لها دلالات عميقة ، فهي اشارة البدء بمصالحة حقيقية بدون وزارة للحوار الوطني وغياب وزارة الثقافة يتصالح فيها الفنان والمبدع مع وطنه واندماجه في اكبر ملحمة انساتية للابقاء على جذوة الحياة متقدة لايقاف زحف الظلام وانتشار الخفافيش واستبدالها بحمامات السلام والنصب والتماثيل وحين يتفهم رموزها ودلالاتها العلماني والاسلامي، الافندي والمعمم حينها سنقول ان امتنا بخير وان طوابير المهاجرين والمهجرين واسراب الطيور ستعود لاعشاشها وستندحر المجاميع الخاصة وتبور خططها وتجارتها. ولعل السؤال المهم هو كيف عاد الفنان لبلده بعد ان ظن الناس ان غربته ستطول...؟ ان لذلك حكاية هي الاخرى لها معان ودلالات واسردها بامانة ولست مباليا بتاويلات الاخرين فقد ارادت امانة بغداد اجراء ترميمات على نصب شهريار في شارع ابي نؤاس- رغم مطالبة بعض الطلبانيين - بازالته بوصفه رمزا للرذيلة فامتنع صابر العيساوي امين بغداد عن ذلك وطلب الاتصال شخصيا بالفنان في عمان لاستحصال موافقته على الترميم والصيانة مؤكدا ان تراث الانسانية ونتاج المبدع حق مقدس لايحق لكائن من يكون ان يتجاوزه.
وفعلا وبعد ان استمع محمد غني حكمت لطروحات الامين دق عنده جرس الحنين بعد ان حركته كلمة طيبة وفكرة نبيلة لعل هنالك الالاف من العراقيين الاصلاء بانتظارها فقرر ان يشد الرحال ليرى حبيبته ويلمس بيديه جروحها ويداويها ويقدم لها مفاجات جديدة ستكون مصدرا تلهم الناس الافكار وتدمجهم بعالم الاساطير وحكايات الف ليلة وليلة وتنشط مخيلتهم فيتندرون على زمانهم فيمزجون الواقع بالاسطورة فكم سمعنا من بسطاء الناس وهم يتاملون نصب كهرمانة والاربعين حرامي فيبتسم احدهم ويقول لقد اصبحوا اربعين الفا ويرد الاخر بتهكم لا حبيبي اصبحوا اربعمائة الف وتتصاعد الاصفار وتنطلق الضحكات وتليها طبعا الشتائم وبالعراقي مع الدعاء لكهرمانة ان ينصرها الله وتصب الزيت المغلي على روؤس كل اللصوص والمختلسين والمدلسين والمتسببين بعرقلة تشكيل حكومة وطنية حقيقية تتحسس نبض الشارع العراقي مثلما تتحسسه انامل الفنان العاشق محمد غني حكمت.