من معهد للفنون الى اكاديمية للفنون الجميلة

من معهد للفنون الى اكاديمية للفنون الجميلة

خالد القصاب
فنان وطبيب راحل
كان تدريس الفن التشكيلي قد بدأ عام 1939م في المعهد الموسيقي الذي تأسس في بغداد 1935م، وسمي بعد ذلك بمعهد الفنون الجميلة، ولم أكن يوماً طالباً فيه بل زائراً مواكباً له وعاشقاً لجوه الحر ولأساتذته وطلبته. كان الدوام فيه مسائياً في البداية أتاح المجال للكثيرين من الهواة من طلبة الكليات والموظفين الراغبين بدراسة الفن،

ثم أضيف إليه لاحقا قسماً صباحياً لتهيئة مدرسي فنون للمدارس العامة، وكان اختيار أساتذة المعهد يتم على أساس مالديهم من قدرات فنية فقط، ولا يشترط في اختيارهم أن يكونوا من حملة شهادات عليا. كان فائق حسن قد ترك الدراسة في الصف السادس الابتدائي، وجواد سليم في الثانوية، وكلاهما عملاقان في فنهما وثقافتهما، أجادوا في تدريسهم لا في المحاضرات الأكاديمية، بل بعرض مالديهم من براعة للطلبة كنموذج يحتذى به.
وفي عام 1961م أُنشأت كلية سميت أكاديمية الفنون الجميلة، تابعة لجامعة بغداد، تخضع لقوانينها وأنظمتها. فكان الطلاب يُختارون من خريجي الدراسة الثانوية، أما أعضاء الهيئة التدريسية كان فكان شرطاً أن يكونوا من حملة شهادة الماجستير والدكتوراه. وترقيتهم من مرتبة إلى مرتبة يعتمد على ما يقدمونه من بحوث، شأنهم شأن ما يتبع في الكليات الأخرى في الجامعة.
أبدى الدكتور خالد الجادر، عميد معهد الفنون الجميلة آنذاك، نشاطاً كبيراً في تأسيس الأكاديمية ورفدها بأحسن الأساتذة.
تخرجت الدورة الأولى من الأكاديمية في حزيران عام 1965م، وكان من بينهم: إبراهيم العبدلي وليلى العطار وسالم الدباغ وخضر جرجيس من فرع الرسم، وودود حمودي وخالد عزت من فرع النحت، وأبقى الدكتور خالد الجادر على حرية اختيار الطلبة من خريجي الثانوية دون النظر إلى نتائج معدلاتهم في البكلوريا، شرط أن يجتازوا اختباراً صعباً في مجال الفنون التشكيلية.لكن الأمور تغيرت بعد ثورة 8 شباط 1963م، وأخذت منحى سياسياً فاعتبر عميد أكاديمية الفنون الجميلة الجديد حافظ الدروبي، أن الكلية وطلابها يساريون، فحاول الإقلال من شانها وسماها (أكاديمية الفنون العليا الملغاة)، ووقف إلى جانب الدروبي في التقليل من شان الأكاديمية الفنان عطا صبري، الذي نسب بحكم موقعه الإداري جميع خريجي الأكاديمية للتدريس خارج بغداد.
ومنح حافظ الدروبي الأكاديمية صفة كلية، كباقي كليات الجامعة، ويكون اختيار المتقدمين لها خاضعاً لمعدل درجاتهم في امتحان البكلوريا، بغض النظر عن طاقاتهم وعن مواهبهم الفنية. كما اختير أعضاء الهيئة التدريسية والأساتذة من بين حملة درجات الماجستير والدكتوراه في تاريخ الفن، فكيف يستطيع تدريس الألوان لطلبة الأكاديمية وهو بعيد عنها. لم يكن هناك تعليق اشد سخرية من ذلك الذي قاله الفنان البولوني (أرتوموفسكي)، الذي كان في السابق أستاذاً في معهد الفنون الجميلة، عندما زار بغداد: (رجعت لأرى الأكاديمية تعج بالدكاترة وكأنها مستشفى)، واستهزأ أيضاً من امتلاك بعض الأساتذة سيارات مرسيدس حصلوا عليها بموجب قانون الكفاءات الذي سمح لحملة الشهادات العليا بشراء سيارات بسعر مقطوع قدره 2000 دينار في مطلع السبعينات.
وسمعت النحات محمد غني يقول: (يريدون مني تقديم بحوث للترقية إلى مرتبة الأستاذية، أنا نحات اعرف كيف اضرب فأسي بالصخر، فما البحوث التي يريدونها، وكيف لي أن أفارق فأسي).
استدعتني عمادة الأكاديمية عدة مرات لرئاسة لجان المناقشة لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه في الفن، وذلك لأن لجان المناقشة تتطلب أن يكون احد أعضائها برتبة أستاذ، وأنا احمل أيضاً هذا اللقب في كلية الطب فضلا عن كوني رساماً. لقد ضقت ذرعاً بهذه اللجان واعتذرت عن المشاركة فيها.
كانت البحوث المقدمة سطحية جداً والطلاب لا ملك لهم في أي لغة أجنبية تساعدهم على التوسع في المراجع، ويعتمدون على أدبيات محلية وهي محدودة جداً، كالجرائد المحلية ومنشورات النقاد القليلة، وزاد من موقفي السلبي تجاه هذه اللجان، شعوري بأن من سيحمل هذه الدرجات الأكاديمية سوف تفتح أمامه أبواب التدريس في الأكاديمية دون النظر إلى مهاراته الفنية.
حضرت يوما دعوة للسيدة سعاد خليل إسماعيل وزيرة التعليم العالي (آنذاك) وزوجها داوود سلمان علي رئيس الدائر العلمية في الوزارة وعميد كلية الطب سابقاً، في دارهما المطلة على دجلة في (الصليخ)، احتفاء بزيارة (براين ونداير – Sir Brian Windeier) نائب ملكة بريطانيا في جامعة لندن (Vice Chancellor London University) وكان ضمن المدعوين حافظ الدروبي عميد أكاديمية الفنون الجميلة، وكنت اعرف عن الدكتور (ونداير) انه طبيب مشهور في جراحة السرطان، فانتهزت فرصة وجوده لأساله أمام الدروبي: (هل تخضع كليات الفن ومدارسه للأنظمة والضوابط التي تخضع لها باقي الكليات في جامعة لندن؟). فكان جوابه: (لا طبعاً، لان من الضروري أن يكون تدريس الفن حراً وغير محدد بالضوابط الأكاديمية).
من مذكرات الدكتور خالد القصاب