خليل شوقي يقرع ناقوس الخطر ليعلن سقوط الحكم الملكي في العراق

خليل شوقي يقرع ناقوس الخطر ليعلن سقوط الحكم الملكي في العراق

عدنان البدري
كتبَ الكثيرون عن ثورة 14تموز (1958) وصدرت كتب عديدة لقادة عسكريين ومفكرين وكتـّاب منذ عام (1958) حتى اليوم.وبمرور الايام أخذ البعض من المحسوبين على الكتاب والأدباء والمؤرخين يغترفون- ولا اقول يسرقون - من بطون الكتب التي صدرت عن الثورة مقاطع من مقال،

وحكايات عن رجال الثورة وينشرونها بعد حذف أو اضافة بعض العبارات، وينسبونها لأنفسهم. والحقيقة المرة أنّ اكثر المواضيع التي كتبت عن ثورة (14) تموز غير دقيقة، لأن كاتب المقال لم يعشها، وانما نقلها بتصرف من مصدر آخر، وإلا بماذا تفسر أن يكتب عن الثورة من عمره آنذاك اقل من عشر سنين؟!، من أين له كل هذه المعلومات؟!، مع العلم ان الكتابة عن تلك الفترة يجب ان تكون دقيقة وصحيحة وحيادية، لا أن يكتب كلّ واحد على هواه.
وبصفتي شاهد عيان عشت ايام الثورة منذ اللحظة الاولى، يحقّ لي - وقد تخطيت الثمانين من عمري- ان اكتب عن اليوم الأول للثورة ليطلع عليها الجيل الحاضر، بعد مرور أكثر من نصف قرن على حدوثها.
في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كنت موظفا مسؤولاً عن دخول العمال وخروجهم من معامل الشالجية العائدة لمديرية السكك الحديد. ومعامل الشالجية تضم ورش الحدادة والنجارة والكهرباء، وكل أنواع الحرف، ويعمل بهذه المعامل آلاف العمال والفنيين والمهندسين، ويشرف عليها (مستر روك) وهو شخص بريطاني الجنسية و(مستر جستنلن) وهو روسي الجنسية، ولغة التخاطب في جميع هذه الأقسام هي اللغة الانكليزية، لذلك يجب مخاطبة المسؤولين على ادارتها بكلمة (مستر)، وكلّ هذه المعامل تدار فنياً من قبل مهندسين وفنيين تم تدريبهم خارج العراق بإشراف شخصين عراقيين هما (اسطه عزيز جبر) وهو شقيق (صالح جبر) رئيس الوزراء الأسبق في العهد الملكي، و(اسطه يوسف الجبوري)، ومسؤول الدخول والخروج الى الدائرة والمعامل (مستر حنا) وتقع غرفته بجانب الباب الحديد الكبير جدا - أكبر من ابواب السجون اليوم- ولا يسمح بالدخول والخروج من هذا الباب إلا بموجب أمر من المسؤولين، يساعده في السيطرة وضبط النظام بعض الاخوان المسيحيين. وللحقيقة أشهد ان المسيطرين على هذا الباب لا يسمحون بدخول وخروج العمال من المعامل إلا بعد تفتيشهم. والدائرة التي تدير شؤون العمال هي دائرة الاوقات، وواجبها توزيع الارقام البرونزية على عمال المعامل عند دخولهم وتنظيم الاجازات الاعتيادية والمرضية واحتساب رواتبهم الشهرية بموجب قوائم تؤشر فيها الاجازات والغيابات وخلاصة ما يستحقه العامل. وتدار هذه الدائرة من قبل بعض الموظفين بإشراف اخي وصديقي الفنان المعروف خليل شوقي.ولأننا مسؤولون عن شؤون العمال يجب حضورنا في الساعة السادسة صباحا، أو قبلها للاشراف على الدخول.
كنت اسكن في الاعظمية في منطقة السفينة القريبة من المقبرة الملكية، واذهب الى دائرتي بواسطة دراجة نارية.وفي صبيحة14تموز 1958 كان كلّ شيء طبيعيا، ولكن الشيء الذي لفت نظري في الطريق هو وقوف جنود على طول واجهة البلاط الملكي، بكامل عدتهم العسكرية، وهم يوجهون بنادقهم المركب عليها (السنكي) الى الشارع، فاعتبرت ذلك فعالية تدريب، ولم اخبر احدا بذلك. وعند وصولي الى الدائرة وبعد دقائق من دخول العمال دخل الى دائرة الاوقات احد الموظفين هو(زهير عزيز جبر)، وكان يسكن دارا عائدة للسكك تقع مقابل معامل الشالجية، وهمس بأذن خليل شوقي بضعة كلمات، فامتقع وجه خليل، وأشار اليّ أن اتبعه، فدخلت وإياه دار زهير، واستمعنا الى (بيان رقم واحد صادر عن القائد العام للقوات المسلحة الوطنية) بصوت عبدالسلام عارف، وهو يعلن الثورة، ويدعو الشعب الى الهدوء والسكينة. رجعنا مسرعين الى الدائرة وأضأنا (المصباح الاحمر) المثبت في واجهة دائرتنا المقابلة للعمال، إشارة الى المسؤول في المعامل لإطلاق صافرة الخروج (اي الشوت) كما كنا نسميها، فلم يستجب، وبرغم ذلك خرجت جموع العمال من ورش المعامل، ووقفوا بصف طويل مقابل دائرة الاوقات، أشرنا إليهم أن اخرجوا (ثورة، ثورة)، فلم يستجب أيّ منهم الى النداء، ما اضطرنا انا وخليل شوقي الى قرع ناقوس الخطر، وهو جرس برونزي كبير كأجراس الكنائس، لا يستعمل إلا في الاوقات الحرجة غير الاعتيادية، عند ذلك هجمت جموع العمال، وتعد بالآلاف، على باب الخروج الحديد، وحطموه مندفعين الى الخارج برغم صراخ (مستر حنا). وبذلك تكون تظاهرة عمال الشالجية - واقولها للتاريخ- أول تظاهرة كبيرة ومنظمة نزلت الى الشارع في صباح أول يوم لثورة تموز. وصلت التظاهرة الى الشارع العام قرب (مسجد براثا) وانضمت اليها الجموع الكبيرة المنحدرة من الكاظمية، وبقية المناطق. واتجه السيل البشري العارم الى منطقة الجعيفر، ليطوف بشوارع بغداد.
كنت معهم.. وصلنا ساحة الشهداء، وقبل عبورنا جسر الشهداء الى شارع الرشيد توقفت التظاهرات بمكانها لصعوبة التحرك بعد أن انضمت إليها الجموع الزاحفة من بقية المناطق. وفي تلك اللحظة تعالت أصوات تهليل وتكبير وهتافات الى عنان السماء، فرأينا احد المتظاهرين وهو يسحب جثة الوصي عبدإلاله، وهي عارية تماماً، وقد قطع بعض أجزائها ليعلقها على عمود الكهرباء القريب من استديو المصور عارف مقابل مصرف الرافدين فرع الكرخ. كان المنظر بشعاً ووحشياً ورهيباً جدا، تقيأت في تلك اللحظة، فتركت مكاني وسرت مع المتظاهرين الآخرين، وعبرنا جسر الشهداء وواصلنا السير الى الباب الشرقي، ثم الى الكرادة، ودخلنا بيت نوري السعيد،(كما ذكرت في مقال سابق نشر في هذه الجريدة)، وكان خاليا من الأثاث والأبواب والشبابيك، ورأيت الفتحة التي هرب منها السعيد الى نهر دجلة، ثم الى حتفه.