مير بصري ينقب في ذاكرة بغداد الثقافية

مير بصري ينقب في ذاكرة بغداد الثقافية

حاوره في لندن د . مهدي السعيد
منذ سنوات وانا اقرأ كل جديد من اصدارات الباحث والاديب العراقي المعروف مير بصري ، وكنت اعجب بطاقة هذا الشيخ الجليل الذي احتضن العراق طوال سنوات اغترابه ، حيث يحمله معه كما يحمل متاعه اليومي ، ففي كل ندوة يتحدث فيها تنطلق العبارات مليئة بالعاطفة العراقية الخالصة

وفي كل لقاء تلفزيوني اسمع نبض قلبه وكأنه يخفق على هدير مياه دجلة والفرات ، وفي كل مؤلف له الصميمة ، والمدهش حقا انه صنع من بيته عراقا صغيرا يعوض اشتياقه لعراقه الكبير المختطف ، فوسيلته وفنه منصبان على استرجاع الماضي وتسجيل الحاضر كي لا يضيع الوطن ولا تختفي اثار الناس الذين كحلوا عيون العراق وزينوه بادبهم وثقافتهم وفنهم .
منذ سنوات وانا اطمح لملاقاته والتعرف عليه وفي كل مرة كنت اعد نفسي لمفاتحة صديقي الدكتور جودت القزويني الذي يحتفظ بصداقة عميقة مع هذاالشيخ الاديب ، ولكن ما ان التقي بجودت حتى انسى ما (اريد ) واخيرا قررت الاتصال باديبنا ، وما ان تحدثت اليه بالهاتف حتى انطلقت عبارات الترحيب والاهتمام بلقائي وبلقاء ( المسلة ) وهكذا حملت نفسي بصحبة الصحفي العراقي المعروف كاظم عيسى ، وبعد عناء البحث عن داره في احد الاحياء اللندنية وصلنا اليه ، كان بانتظارنا في باب المنزل ، وحالما سلمنا عليه ، قال ستفاجأون حينما تعلمون ان الدكتور جودت القرويني موجود هنا ، وهكذا التقينا جميعا دون حاجة للواسطة .
الاديب مير بصري احدى الشذرات التي بقيت لنا من العهود السالفة ، ولانه عاصر مراحل تاريخية هامة فانه يحتفظ بارشيف هائل للادب والثقافة العراقية ، وقد اصدر عشرات الكتب التي دونت وترجمت لرموز تلك المراحل ، وهاهو الان يواصل مسيرته الخلاقة مبدعا يحمل طاقة هائلة من العطاء الواعد بعد هذه السنوات من العمل التأليفي ايضا .
حين كنت اتحدث معه ، اشعر باني اتحدث الى صديق واخ كبير اعرفه منذ فترة طويلة ، في حين ان لقائي به كان الاول من نوعه ، انسان بسيط ومتواضع تواضع العلماء ، يضحك كما يضحك الاطفال الابرياء ، في وجهه نلمح الشهامة طافحة ، ولمحة من الود والاطمئنان ، كان ينتظر مني ان اقول شيئا ، فاستحسن ذلك ، ثم طرحت عليه السؤال تلو الاخر ، وفيما يلي نص المقابلة :
- اسمي مير بصري ولدت في بغداد قبيل الحرب العظمى الاولى من عائلة عريقة قديمة في بغداد وقد درست في مدرسة ( تاون ) الاهلية ثم في مدرسة ( الاليانس ) الفرنسية المتوسطة والثانوية ، ودرسنا فيها العلوم والاداب واللغات الفرنسية والانجليزية والعربية والعبرية ، وكان لنا احسن الاساتذة في اللغة العربية اذكر منهم الشيخ عبد العزيز الشواف الذي اصبح فيما بعد قاضي بغداد وكذلك شاعر دير الزور محمد الفراتي الذي جاء الى بغداد سنة 1925 هاربا من السلطة الفرنسية على اثر نشوب الثورة في سوريا ، وقد استفدنا منهم احسن الفوائد في اللغة ، وتخرجت في المدرسة الثانوية سنة 1928 واشتركت في امتحان لوزارة الخارجية في اوائل تأسيسها وكنت الفائز في الامتحان فعينت كاتبا اول ، وقضيت في وزارة الخارجية اكثر من خمس سنوات اصبحت من خلالها سكرتير الوزارة ووكيل مدير التشريفات وقمت مرارا باعمال مدير الخارجية العام اثناء سفر المرحوم موفق الالوسي مدير الخارجية العام الذي كان يوفد بمهام خاصة الى البلاد العربية ، ثم تركت وزارة الخارجية ودرست الاقتصاد والاداب العربية والعالمية ووظفت بعد ذلك في غرفة تجارة بغداد وكنت مديرها .

* ما الوظائف الرسمية التي شغلتها والتي تتصل بالاقتصاد والتجارة وماذا عن اصدار مجلة ( الغرفة ) ؟
- اصدرت مجلة ( الغرفة ) الشهرية وهي مجلة غرفة تجارة بغداد خلال ثماني سنوات ، ونشرت كذلك تقارير الغرفة التجارية باللغتين العربية والانكليزية ، واشتركت كذلك في ذلك الوقت مع المرحوم محمود فهمي درويش في اصدار ( الدليل العراقي الرسمي ) لسنة 1936 باللغتين اعربية والانكليزية وكان دليلا مهما جامعا ، بلغت صفحاته باللغة العربية اكثر من الف صفحة ، وباللغة العربية الانكليزية ايضا ،وقد قمت بالترجمة مع اخي المرحوم بصري ، وفي سنة 1937 اوفدت الى باريس الى المفوضية العراقية في ذلك الوقت للاشتراك مع الدكتور عبد الاله حافظ في انشاء الجناح العراقي في معرض باريس الدولي ، وكان الوزير المفوض آنذاك علي جودت الايوبي ، كممثل للعراق ، وقمنا باصدار نشرات واقامة الجناح العراقي الذي كان له اثر مهم في التعريف بالعراق في حينها ثم تركت بعد ذلك غرفة تجارة بغداد لاصبح مديرا لشركة تجارية ، هي (شركة تجارة الشرق) وكنت عضوا لمجلس لواء بغداد العام وكذلك عضو مجلس ادارة لواء بغداد ، وعينت بعد ذلك معاون المدير العام (لجمعية التمور العامة ) بوزارة الاقتصاد ، وكان المدير العام عبد الإله القصاب وزير الداخلية الاسبق .
وخلال الحرب العالمية الثانية كنت عضوا في لجنة تموين برئاسة المستر سوان مستشار وزارة المالية العراقية وكنا نجتمع مرتين او ثلاث في الاسبوع للنظر في تجارة العراق خلال الحرب وفي شؤون التموين وتحديد الاسعار ، فكنت بصورة غير رسمية مشاورا اقتصاديا لوزير المالية صالح جبر وسائر وزراء المالية في ذلك الحين ، وفي سنة 1944 اوفدت ضمن الوفد العراقي الى مؤتمر التجارة الدولي المعقود في نيويورك في الولايات المتحدة الامريكية ، ولما انتهى المؤتمر قضيت في الولايات المتحدة نحوا من ستة اشهر احاضر عن الاقتصاد العراقي في الولايات المتحدة المختلفة ، كذلك في اذاعة واشنطن وفي صوت اميركا وفي غرفة تجارة نيوريوك .
* ما اول اثر ادبي نشرته في الصحف او المجلات العراقية وكيف كانت المناخات الثقافية آنذاك ؟
- غادرت وظيفة الحكومة عام 1952 ، وصرت احد مدراء شركة شيفروليت الامريكية التي كانت وكيلة ل ( جنرال موتورز) للسيارات وسائرالشركات الامريكية الكبرى ، واقول انني كنت اميل الى الادب ونظم الشعر منذ كنت على مقاعد الدراسة ، وقد نشرت اول اثر ادبي لي سنة 1928 شعرا منثورا عنوانه( الحرية ) في احدى جرائد بغداد ، وانني سعيد ان اقول انني نشأت في بيئة عراقية حرة ناهضة ، لا تفريق فيها بين المذاهب والاديان ، المختلفة ولذلك كان اصدقائي من جميع الطوائف والمذاهب والاديان ، ومن الذين ربطتني بهم صداقة وثيقة احمد حارث الصراف الذي كان مدير الدعاية العام ، الاديب العراقي الكبير و المرحوم جعفر الخليلي الصحفي والاديب ومنهم ايضا تعرفت لمحمود صبحي الدفتري الذي كان حينها وزير العدلية ووزير الخارجية العراقية وكان له مجلس اجتماعي صباح كل جمعة يعرف بمجلس الدفتري ، وهذا المجلس قديم في بغداد منذ زمن اجداد محمود صبحي بيك ، وكان يحضره رجال السياسة والادب وتبحث فيه مختلف المواضيع عدا السياسة والدين ، وكان لمحمود صبحي الدفتري عشرات القطط وبعض الكلاب ، ولها خادم خاص يقوم باطعامها وخدمتها ، فكان محمود صبحي وهو اديب باللغتين التركية والفارسية ويعرف العربية جيدا ، ورجل فاضل جدا من افاضل العهد القديم في العراق ، وكان اذا تطرق بعض المجتمعين الى امور دينية او سياسية يبدأ بقرأة شعر تركي او فارسي ويترجمه لكي يبدل الموضوع ، او يصيح على الخادم ليدعوه لجلب القطة الفلانية او الكلب الفلاني ، وبذلك يشغل المجتمعين ، وكان يجتمع في مجلسه افاضل بغداد ورجالها السياسين والادباء اذكر منهم نوري السعيد وجميل المدفعي ومن الادباء ابراهيم صالح شكر واكثر النواب والاعيان ورجال الحكم ، وهذه خلال سنوات الثلاثينات والاربيعينيات والخمسينيات ، اي في تلك السنوات ، واستطيع ان اقول انني حضرت مجلس الدفتري خلال اكثر من ثلاثين سنة منذ تعرفت به الى ان غادرنا العراق سنة 1974 ، حيث جئنا الى انكلترا لنقيم فيها .
* هل تعطينا صورة عن ادباء بغداد آنذاك ؟
- من الذين اذكرهم وتعرفت عليهم المرحوم الاب انستاس ماري الكرملي اللغوي الشهير ، وكان يعقد مجلسه ايضا ايام الجمعة ويحضره رجال الفضل والادب ، في دير الاباء الكرمليين ، ومن الذين عرفتهم وصادقتهم ايضا الدكتور مصطفى جواد وقد افدت منه ومن الاب انستاس ماري الكرملي فوائد لغوية كثيرة وكان لي مئات الاصدقاء امثال طه باقر الاثاري المشهور والدكتور احمد سوسة واخرين ككمال عثمان الشاعر – الضابط وسالم الالوسي مدير الثقافة العام .
*هل اقتصرت الاجتماعات الادبية على
( المجالس الادبية ) ام امتدت الى المقاهي والنوادي ، وكيف كانت طبيعة اللقاءات التي تجري في هذه المجالس ؟
- كانت المجالس الادبية والدواوين الاجتماعية اماكن اجتماع للادباء وكنا نجتمع اكثر الاوقات في دورنا في المقاهي البغدادية وكذلك في ( نادي القلم ) الذي كان رئيسه جميل صدقي الزهاوي وبعد ذلك المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيبي وبعد ذلك الدكتور فاضل الجمالي ، وكان الاعضاء يجتمعون بالمناوبة في دورهم وتجري المباحثات الادبية فقد القيت في بعض اجتماعات نادي القلم ملحمتي المنظومة ( نهاية الابطال ) وبحوثا ادبية اخرى .
ومن اصدقائي الذين اتصلت بهم وعرفتهم اذكر الاستاذ عباس العزواي مؤرخ العراق واخاه علي غالب العزواي المحامي ايضا الذي كان يحفظ عشرات الالاف من الابيات ومن الشعر والقصص كان رجلا فاضلا وقد كف بصره في اواخر ايامه ، لكنه كان خارق الذكاء ، ومن اصدقائي الذين تعرفت بهم محمود الملاح الشاعر الموصلي وقد كتبت عن اكثر هؤلاء في كتاب (اعلام الادب في العراق الحديث) في اجزائه الثلاثة وفي كتبه الاخرى ، ومن اصدقائي ايضا الدكتور ومحمود الامين العالم الاثاري والمؤرخ والمحقق وغيرهم كثير .
كان الجو الثقافي جوا حرا وكانت مجلات كثيرة وجرائد ادبية كثيرة ايضا ، ومن الجرائد والمجلات (الهاتف) لجعفر الخليلي وكذلك كانت الجرائد العراقية كجريدة (العراق) لرزوق غنام وجريدة (الزمان) لتوفيق السمعاني وغيرها من الجرائد كلها فيها صفحات ادبية يشترك في كتابتها الادباء .
كان لي اصدقاء كثيرون ، حينما كنت اصدر مجلة (الغرفة) اذكر منهم هاشم جواد الذي اصبح فيما بعد وزير الخارجية في العهد الجمهوري وكان ممثلا للعراق في مكتب العمل الدولي ، واليه يرجع الفضل في اصدار قوانين العمل في العراق لانه انتدب للعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية العراقية فوضع قوانين العمل والاصلاح الاجتماعي والضمان الاجتماعي ، وقد كلفته بكتابة مقالات في مجلة (الغرفة) وقد كتب مقالات كثيرة وترجم لمجلة تقرير بيفرج الشهير الذي وضعه السير هنري بيفرج الخبير الانكليزي والذي اصبح تقريره خلال الحرب العظمى وبعد ذلك اساسا للضمان الاجتماعي والصحة الاجتماعية في انكلترا .

* عدا هاشم جواد هل هناك من كان يكتب في مجلة (الغرفة ) من الباحثين والمعنيين بشؤون الاقتصاد والتجارة والتاريخ ؟
- من الاخرين الذين طلبت اليهم ان يكتبوا بحوثا في مجلة غرفة تجارة بغداد الاستاذ يعقوب سركيس ، البحاثة المشهور وكانت بحوثه التاريخية والاقتصادية وكذلك بحوث الدكتور مصطفى جواد وعباس العزواي وغيرهم ، تدور حول التاريخ الاقتصادي للعراق في مختلف الادوار ، كلها كانت تنشر في مجلة ( الغرفة )ومن افضل مؤرخي العراق في لابحوث الاقتصادية وغيرها يوسف غنيمة وزير المالية ، وقد وضع تاريخا ليهود العراق ، لانه درس في مدرسة ( الاليانس ) وله مقالات عن الضمان الاجتماعي وعن الحياة الاقتصادية في العراق وكتاب عن التجارة العراقية قديما وحديثا وغيرها من الكتب ، وكان باحثا فاضلا عالما يعرف اللغات المختلفة وله مؤلفات كثيرة معروفة .

* ما نتاجاتك الادبية والفكرية والثقافية ؟
- كنت اميل الى نظم الشعر والى الكتابة منذ ان كنت على مقاعد الدراسة ، وقد بدأت بنظم الشعر ، فكان استاذنا محمد الفراتي شاعر دير الزور يدرسنا العربية وقد سمي بشاعر دير الزور لانه مولود في دير الزور وذهب بعد ذلك الى دمشق ، وهرب الى بغداد حينما اشتدت الثورة السورية سنة 1925 فعين استاذا في مدرسة ( اليانس ) في بغداد ، وهو شاعر سوري مشهور وله دواوين شعرية معروفة وقد كتبت عن سيرته .
وقد درست الاقتصاد بنفسي ، وبعد ذلك اديت الامتحان في باريس ووضعت كتابا اسمه ( مباحث في الاقتصاد العراقي ) طبع سنة 1948 بمقدمة للمرحوم يوسف غنيمة وزير المالية ، وكان وزير المعارف المرحوم الشيخ رضا الشبيبي ، فأمر بشراء مئات النسخ منه ووزعت على المدارس ، لان هذا الكتاب لم يكن مختصا فقط بالاقتصاد العراقي ، لكنني بحثت فيه ايضا عن الاقتصاد العالمي واقتصاديات الحرب وشؤون التموين والتجارة وغير ذلك من البحوث مع الاحصاءات المختلفة ، وطبع في اخر معجم للاصطلاحات الاقتصادية باللغات العربية والفرنسية والانكليزية واعتقد انه كان مرجعا مهما في موضوعه .
وكنت انظم الشعر وقد نشرت كثيرا من الشعر والقصص في المجلات والجرائد العراقية واللبنانية والسورية والمصرية ، مثلا في مجلة ( الاديب ) و ( الاداب ) وفي مجلة ( الرسالة ) ومجلة ( دمشق ) التي كانت تصدر في دمشق ، واصدرت مجموعة من الشعر سنة 1971 اصدرت لي وزارة الاعلام العراقية كتاب ( اعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث ) تناولت فيه تراجم عدد من الرجال الذين اعتبرتهم يمثلون النهضة الفكرية في العراق الحديث امثال الرصافي والزهاوي .

* كيف كان تواصل الادباء والشعراء في ظل الصراعات الادبية الناشبة بينهم ؟
- التقيت الزهاوي قبل وفاته مرات قليلة والتقيت ايضا بمعروف الرصافي قليلا قبل وفاته ايضا ، وقد شهدت سنوات الحرب العالمية الثانية وبعدها صراعات ادبية كثيرة ، لكنها كانت كلها مناقشات مهذبة مؤدبة ، مثلا اذكر ان الاب انستاس ماري الكرملي كتب لمجلة غرفة بغداد حسب طلبي بحوثا لغوية تتعلق بالتجارة والاقتصاد فرد عليه تلميذه الدكتور مصطفى جواد بأدب وطالت المناقشات بينهما.
جرت مناقشات ايضا حول الرصافي ، وحتى انه كغر واتهم بالزندقة لبعض كتاباته ، وسبب ذلك انه نشر ( الرسالة المحمدية ) او شيئا من هذا ، وكانت له اراء اعتبرها بعض المتزمتين من رجال الدين مخالفة للدين الاسلامي ، فرد عليه بقصائد هجاهم فيها هجاءا مرا . ومن اصقائي الصميمين المرحوم مصطفى علي الاديب الكبير والذي كان اول وزير عدلية في العهد الجمهوري ، وكان مصطفى علي يذكر لي مناقشاته في العشرينيات حول تحرير المرأة ، وقد كان هو وحسين الرحال ، وبطبيعة الحال قبلهما جميل صدقي الزهاوي يدافعون عن المرأة ويطالبون بحريتها ويطلبون بحقوقها وممن رد عليهم الشاعر عبد الحسين الازري وطالت المناقشات بين اصحاب السفور واصحاب الحجاب ، ومما يذكر في هذا الباب ان الدكتور سامي شوكت الذي كان مديرا عاما للمعارف ومديرا عاما للصحة والشؤون الاجتماعية ، وكان بعد ذلك وزيرا في الحكومة العراقية اخذ ينشر مقالات عن تحرير المراة بتوقيع (المرأة) وقد كتبت ذلك ، والدكتور سامي شوكت الذي عرفته بعد ذلك وكان من احسن اصدقائي كتبت عنه في الجزء الثالث من كتابي (اعلام الادب في العراق الحديث) والذي صدر مؤخرا وذكرت مقالاته في الدفاع عن المرأة وفي طلب السفور بتوقيع (انسة) ولااذكر اسم الانسة التي كان يوقع فيها ، لكنني ذكرتها في كتابي .

* طبيعة الصراع بين المثقفين في المرحلة الراهنة تختلف كثيرا عن طبيعة الصراع قي ذلك الوقت اي في مرحلة الاربعينيات والخمسينيات فهل ترى ذلك مثلي ؟
_ نعم كانت دائما المناقشات تجري بصورة دمثة وباحترام ولا تخرج عن حدود الادب ولاتصل الى حد المناوشات والتشهير والتشنيعات، والحقيقة انني نشأت في زمن كانت الحرية فيه مطلبا كبيرا لادباء العراق ومفكريه ، واذكر في هذه الناسبة انني حينما كنت على ممقاعد الدراسة حضرت مجلسا ادبيا القى فيه معروف الرصافي قصدة دافع فيها عن طه حسين وعن العالم المصري علي عبد الرزاق وذلك في سنة 1926 وكانت المناسبة انه اقيم احتفال لمبايعة شوقي بإمارة الشعر ، واقيمت حفلة في بغداد حضرتها والقى فيها الرصافي قصيدة دافع فيها عن الحرية ، زقال في هذا المعنى نحن نبايع شوقي بإمارة الشعر ، ولكن لماذا نرى في مصر تضييقا على الحرية فيكفر طه حسين ويهاجم الشيخ علي عبد الرزاق الذي الف كتابا عن اصول الحكم ، وكان الجو في العراق جوا من الحرية الثقافية .

هل اثرت سلبا الصراعات السياسية والدينية في الجو الثقافي في تلك المرحلة ؟
_ اذكر ان ذلك اثر سلبا ، عدا ما في قضية السفور والحجاب وقضية تكفير الرصافي في اواخر حياته عن رسالته المحمدية ، وهي عبارة عن كتاب الفه الرصافي ، وقد كتبت عن ذلك في ترجمتي للشاعر معروف الرصافي في كتاب ( اعلام الادب في العراق الحديث ) وفصلت ذلك تفصيلا ، فيما عدا ذلك لم تحصل ثمة حادثة ، ولم يكن هناك اي خلاف ادبي ، وكانت هناك بلا شك خلافات سياسية في المناهج السياسية ، وقليلا ماكانت تنعكس على الادب ، ولكنها كانت تظهر في الجرائد وخصوصا ضد الشيوعية .

ربطتك علاقة حميمة مع جعفر الخليلي ، كيف بدأت هذه العلاقة وكيف تطورت؟
- عرفت جعفر الخليلي منذ كان في النجف ، كان يأتي الى بغداد في اواخر سنوات الحرب العالمية 1944 و 1945 وكان كلما يأتي الى بغداد يزورنا ونبحث في الامور الادبية ، وكنت انظم وانشر في جريدته ( الهاتف) وجاء الى بغداد للاقامة فيها سنة 1948 ، واصدر ( الهاتف ) من بغداد وثم جعلها في الخمسينيات جريدة يومية سياسية ، لكنه لم يترك المجال الادبي ، بل كان يواصا اصدتر مجموعات سنوية قصصية واغلقت جريدته السياسية سنة 1954 حينما قررت الحكومة الغاء جميع الصحف وطلب امتيازات جديدة ، فلم يطلب امتيازا جديدا ، وكان يعقد مجلسا ادبيا كل يوم في دار الهاتف في بغداد يحضره الكثير من الادباء والشعراء ، وتجري فيه المناقشات الادبية والمباحثات اللغوية ، ومن الذين كانوا يحضرون الدكتور مصطفى جواد والشاعر المحامي انور شاؤول والشاعر كمال عثمان المقدم السابق في الجيش العراقي وكثيرون غيرهم .

ما علاقتك بالجواهري ؟
- عرفت الجواهري ولكني لا استطيع ان اقول اني عرفته معرفة طويلة ولكن كانت لنا معرفة طيبة ، فكنت قد كتبت عنه وقدرت شعره بطبيعة الحال كما قدر ذلك جميع ادباء العراق ولكني استكمل حديثي عن الخليلي ، فانه قد وضع كثيرا من المؤلفات في مقدمة ذلك المجموعات القصصية (اولاد الخليلي) وغيرها واسس بعد اغلاق جريدة مكتبا للصحافة والاعلان واصدر سلسلة كتب (العتبات المقدسة) وطلب من الكثير من الافاضل والادباء ان يشتركوا فيها فكتب كل واحد عن المواضيع التي اختص بها ، وكتبت انا ايضا عن ترجمة بعض الرحلات عن سامراء ، وكان جعفر الخليلي ينظم الشعر ولو قليللا لكنه وضع كتابا عن الادب الفارسي وكان يعرف بالفارسية ، وترجم في كتابه وترجم في كتابه عن الادب الفارسي كثيرا من الشعر ، ولما جاء حزب البعث الى الحكم في بغداد يطارد الناس ، بما فيهم عائلة الخليلي ، حيث اعتبرهم من اصول ايرانية مع انهم سكنوا العراق وكانوا عراقيين منذ القديم ، ونفى الكثير من اسرة الخليلي وغيرهم ، فلما راى جعفر الخليلي ان بعض افراد اسرته قد اخرجوا من العراق ، ترك العراق الى عمان ، وقد ذكرت ذلك في ترجمتي لجعفر الخليلي في كتابي ، اعرف انه قضى بعض سنوات حياته في الامارات العربية المتحدة ابو ظبي حيث تقيم ابنته ، وتوفي في ايران .

* كيف كانت صعوبات اغترابك ، وما نتاجاتك خلال هذه الفترة ؟
- خرجنا من العراق سنة 1974 بعد ان قاسينا الويل على يد حكومة البكر – صدام وكانت العلاقات مقطوعة مع انكلترا فاضطررنا للسفر الى هولندا حيث بقينا اشهرا ثم اتينا لنقيم في انكلترا ومازلنا فيها منذ سنة 1974 ، وفي خلال هذه المدة اصدرت ستة كتب باللغة الانكليزية عن الاقتصاد في البلاد العربية في العراق والمملكة العربية السعودية وغيرها بتكليف من احدى الشركات ، وبدأت بنشر كتبي ومنها ديوان شعر ومذكراتي التي اصدرت التي صدرت عام 1991 ووضعت ونشرت كتب مختلفة منها (اعلام الادب في العراق الحديث) و ( اعلام التركمان) و(اعلام الكرد) ومجموعة قصص ، وحاضرت في لندن في ندوات كثيرة عن الشرق الاوسط ، ونظمت الشعر باللغة الانكليزية ايضا .
وفي المستقبل لدي مجموعات كبيرة من الشعر اريد نشرها ، خصوصا مجموعة سميتها (مواكب العصور) في الاف الابيات وهي تأخذ تاريخ العالم واساطيره منذ بدء الخليقة وتكوين الانسان حتى الوقت الحاضر ، وتتناول التواريخ اليهودية والاسلامية والمسيحية . وهو شعر تقليدي (سباعيات) سميتها (ارانين) وهي تقابل كلمة ( سونيت ) الانكليزية و (سونيه) الفرنسية وسميتها بالعربية ( النيابة ) وجمعها (الارانين) .
وعدا هذه لدي كتب اخرى للنشر ومنها مجموعة مقالات وبحوث ادبية نشرت اكثرها في المجلات العراقية والمصرية واللبنانية وغيرها خلال السنوات ، والكثير منها اذيعت في اذاعة بغداد واذاعة لندن ، وتتناول مباحث ادبية من الشرق والغرب ، مثلا عن طاغور شاعر الهند العظيم ، واذكر طاغور انه دعي من قبل الملك فيصل لزيارة العراق سنة 1931 وكنت آنذاك موظفا في وزارة الخارجية و شُكل وفدان لاستقباله ، وقد ذهب الى خانقين لاستقبال الشاعر الذي كان آتيا من ايران حيث كان مدعوا من الشاه رضا بهلوي ووفد اخر لاستقباله في محطة القطار في بغداد برئاسة ممثل وزارة الخارجية وعضوين ممثلين عن وزارة المعارف وغيرها ، وكان يرأس وفد وزارة الخارجية المرحوم توفيق السعدون مدير التشريفات ، لكنه في يوم وصول طاغور الى بغداد اعلم توفيق السعدون بوفاة ابنه فانتدبت رئيسا لوفد وزارة الخارجية محله وكان يمثل وزارة المعارف الدكتور فاضل الجمالي ، ذهبنا واستقبلنا الشاعر وبقيت ملازما له بتكليف من وزارة الخارجية خلال اقامته في بغداد ، فاحتفلت به بغداد ، امانة العاصمة والحكومة العراقية في حفلات متعددة ، وكتبت عنه بعد ذلك وترجمت قسما من شعره عن اللغة الانكليزية .
* في هذه المرحلة هل تهتم بالشعر اكثـر من الميدان الاقتصادي او البحثي ؟
- اهتممت بالاقتصاد كثيرا فيما سبق، اما الان فتركت الاقتصاد تقريبا انصرفت الى البحوث الادبية والى الشعر .
انني اعتبر الادب دائما ادبا انسانيا يدعو الى المحبة والاخاء لاسيما انني نشأت في بيئة عراقية حرة مثقفة ، لم يكن هناك اي فارق بين المذاهب والطوائف والاديان المختلفة على كثرتها في العراق ، فلم نكن نعرف ان هذا كردي وهذا عربي سني او شيعي وهذا يهودي وهذا مسيحي وهذا مسلم ، وكنا دائما اخوانا على سنن مختلفة ، ولم تكن هناك اية تفريقات في السياسة كما توصف في العهد الملكي الذي مهما يقال فيه ، فانه كان عهد نهضة وحرية كبيرة وعهد تفاهم وقد جاء الملك فيصل الاول رحمه الله الى العراق سنة 1921 فكان اول خطبه قال : لااعرف ان في العراق مللا واديانا ومذاهب مختلفة ، بل اعرف ان هناك عراقين مواطنين ، عراقيين متساوين في الحقوق ومتساوين في كل شي ، وقد عمل في هذا السبيل رئيس ديوانه رستم حيدر الذي رافقه ، عملا كثيرا ، وكان هذا مبدأ واساس السياسية العراقية .
كان هناك مبدأ التسامح والتفاهم والاحترام ، خصوصا ان في العراق مللا وطوائف ومذاهب واديانا وفرقا مختلفة ، التفاهم كان يسود بين الجميع. وانطلاقا من هذا ، ادعو جميع الاخوان الى انتهاج سياسية التفاهم والتواد والتسامح فهذه اسس الادب واسس الثقافة واسس الحياة الاجتماعية في داخل العراق وفي خارجه لاسيما الان ، حيث خرج اكثر المثقفين والادباء في العراق وتفرقوا في مختلف انحاء العالم . فيما ارى ان ألفة كهذه مطلوبة كي نعيد للعراق مكانته وموضع الفعل الخلاق لانسانه .

اجرى الحوار ابراهيم السعيد
مجلة المسلة الصادرة عام 2000