مير بصري.. وفاء وحنين دائم للعراق

مير بصري.. وفاء وحنين دائم للعراق

شمخي جبر
مير بصري ولد في بغداد في 19 ايلول العام 1911 من اسرة يهودية عراقية عرفت باسم (عوبديا) كان احد شخصياتها عمه يشغل منصب رئيس المحكمة الشرعية. درس مير بصري في مدرستي التعاون والاليانس في بغداد عمل الراحل في العديد من الوظائف العامة والخاصة وحضر العديد من المؤتمرات الدولية

صدرت له اعمال معروفة وكتب قيمة من بين هذه الكتب (اعلام السياسة في العراق الحديث1987) و(اعلام الكرد1991) و(اغاني الحب والخلود1991).
في كتابه اعلام السياسة في العراق الحديث لا يفرق بين احد واخر بحسب الانتماء الديني او العرقي بل تناول الشخصيات السياسية على ان العراق بنسيجه المتنوع، وطوائفه المتباينة، ومذاهبه المختلفة، من سنة وشيعة، ومن أكراد وتركمان، وعرب مسلمين ومسيحيين، وأقليات يهودية، قد عرف دائماً كيف يحافظ على وحدته السياسية والاقليمية.
حتى قال عنه رشيد الخيون بمناسبة رحيله (برحيل مير بصري عن 94 عاما في لندن، تكون ذاكرة عراقية ثرة اخرى قد انطفأت قبل ان تلقي بكل حمولتها من حكايات ودروس للاجيال العراقية الجديدة الباحثة عن قبس في العتمة. فالرجل لم يكن آخر المثقفين اليهود الذين اضطروا الى الانسلاخ عن بغداد، بعد طول عناء، بل قطعة ثمينة من تاريخ البلد، في الشعر والتراجم والاقتصاد والدبلوماسية). يقول مير بصري حين سئل عن سر تمسكه ببغداد وبقائه في العراق وعدم هجرته مع من هاجر من اليهود الى اسرائيل (لم اهاجر الى اسرائيل مع من هاجر لأنني كنت اشعر انني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة) وكان يحز في نفسه ان تمارس ضد مواطنين عراقيين ممارسة التهجير القسري، بعد ان صدر قانون إسقاط الجنسية عنهم، لم يجدوا بداً من ترك البلد الذي ما عاد يوفر لهم حياة آمنة كريمة. ولكن رغم كل الظروف وما تعرض له المواطن العراقي اليهودي من مآس الا ان هناك من بقي في العراق متحملا شتى اصناف العذاب النفسي ثمنا لتمسكه بوطنه اذ بقي في العراق، بعد تلك الهجرة الجماعية، نحو عشرة آلاف يهودي، وكان بينهم مير بصري والشاعر أنور شاؤول والصحافي سليم البصون وعدد آخر من الكتاب الذين شعروا انهم، برغم كل الظروف مرتبطين بوطنهم، ومير بصري كما يروي في لقائه مع رشيد الخيون فان الحكومة لم تترك له شيئاً حتى بيته وسيارته صادرتهما.
غادر مير بصري العراق، مع زوجته السيدة مارسيل هارون مصري، دامعي الأعين. لقد فارق المدينة التي ولد فيها العام 1911 في محلة "تحت التكية"، قرب سوق السراي، وفيها عاش ومات والده تاجر القماش شاؤول بصري، وفيها عاشت وماتت والدته فرحة، ابنة الحاخام الاكبر عزرا دنكور. كان شاعرا له آراؤه اذ يقول (ان الشاعر غير مسؤول عن وحيه) يقول رشيد الخيون وقرر ان يترجم مصطلح "سوناته" الى العربية، واستقر رأيه على لفظة "إرنانة"، نسبة الى الرنين، على اعتبار ان اللفظة الفرنسية مشتقة من الصوت. وجمع الأرنانة أرانين، أي سوناتات. أعجبته الكلمة، فراح وعرضها على صديقه مصطفى جواد، العلامة اللغوي، فكتب له انه يستحسنها لأنها تؤدي المعنى المقصود. وبعد ذلك راح يكتب الأرانين وينشرها في جريدة "العراق" لرزوق غنام، التي استقبلتها بحفاوة تليق بها.
كتب مير بصري والف في شتى المجالات الادبية والتاريخية والسياسية (اكثر من اربعين مؤلفا، بالعربية والانكليزية. بينها تراجم لأعلام الأدب العراقي الحديث، ولأعلام السياسة، وأعلام الكرد، وأعلام التركمان) وكانت له اراؤه السياسية والاجتماعية في التاريخ العراقي ومجرياته، اذ كتب عن ثورة تموز 1958 في العراق يقول انها كانت ثورة عسكرية وليست شعبية، لأنها قضت على الحياة البرلمانية في العراق وفتحت باب الانتفاضات والانقلابات.
عاش اليهود في العراق في ظل بيئة من التسامح الديني عكس ما تعرضوا له في اوروبا من عزل ونبذ اجتماعي بل تمتعوا في الحياة العراقية مشاركين وبفعالية في الحياة السياسية والاقتصادية،لاسيما في العراق الحديث بعد تأسيس الدولة العراقية العام 1921 فكان منهم الوزراء واعضاء مجلس النواب والكثير من الوظائف الحكومية، ورصد الراحل مير بصري في كتابه "أعلام اليهود في العراق الحديث" (الوراق 2006)، والذي صدر بُعيد وفاته، لأكثر من مائة شخصية يهودية عراقية، ومن طبقات مختلفة: الحياة العامة، رجال الدين، الفكر والأدب والصحافة، الاقتصاد والتجارة، فقد جاء في خطاب الملك فيصل الأول، وهو في ضيافة يهود العراق ببغداد: "لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق... وإني أطلب من أبناء وطني العراقيين أن لا يكونوا إلا عراقيين، لأننا نرجع إلى أرومة واحدة، ودوحة واحدة... وليس لنا اليوم إلا واسطة القومية القوية التأثير". يقول الرصافي: "وهل هم في الديانة من خلاف.. نصارى أو يهود ومسلمونا". وبيت للأديب الشاعر محمد صادق الأعرجي: "رغم اختلاف الدين سوف يضلنا.. وطن يوحد بيننا دستوره". اذ ان من المعروف أن عوام المسلمين وخاصتهم قد لا يتوجسون من اليهود مثل توجسهم من غيرهم، فالقاسم المشترك بينهم هو تحريم لحم الخنزير وممارسة شعيرة الختان، وكثيراً ما يتم ختن أطفال المسلمين على يد جراح يهودي، بل أن تحريمات التوراة للأسماك والطيور والحيوانات الأخرى هي نفسها محرمة عند المذهب الشيعي، وهذا ما يرفع الحظر عنهم بدافع الطهارة في الدول التي يسودها هذا المذهب،يقول مير بصري في احد لقاءاته مع رشيد الخيون (نحن بالعراق فلا نعرف الغيتو، كنا نسكن مختلطين مع مواطنينا المسلمين، شيعة وسنَّة، ونصارى. وجدير بالقول أن التسامح الإسلامي بلغ أوجه في الأندلس، حيث وجد اليهود المجال الفسيح للعمل والتعاون مع المسلمين في ميادين الأدب والعلوم والاجتماع، وحتى في السياسة والحرب. لقد نبغ في الشعر إبراهيم ابن سهل الأشبيلي الإسرائيلي صاحب الموشحات الرائعة، ونقل الشعراء اليهود أوزان الخليل إلى العبرية، ونظموا بها وبرزوا فيها، وكان إسماعيل بن النغريلة القرطبي وزير صاحب غرناطة وقائد جيشه).
وكعراقي شارك ابناء قومه احزانهم وافراحهم وعاش تاريخهم ، عبر وبضمير عراقي نقي عن واقعة الطف واستشهاد الامام الحسين في أرجوزته "مواكب العصور": "أنا للحق أنا سبط الرسول.. أنا للعدل وللدين قويم.. يا لأرض قد تروت بالدماء.. وقف الدهر أسى في كربلاء.
وحتى بعد هجرته الى خارج العراق بقي وفيا للعراق وهو المتخصص في الثقافة والتاريخ والأدب والسياسة العراقية والمعرفة العامة، فعلى الرغم من كونه المسؤول الديني الأول للطائفة الموسوية للعراقيين في الخارج، فأنه بقي مخلصاً على عراقيته ووفائه للعراق وعلى انسانيته وعلى تفانــيه من أجل خدمة الحقيقة والكلمة والعراق..