جاك دريدا.. أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل

جاك دريدا.. أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل

هيثم حسين
في كتاب «أحاديّة لغة الآخر أو ترميم الأصل» المُترجَم حديثاً إلى العربيّة، يخوض جاك دريدا، «1930- 2004»؛ الفيلسوف الفرنسيّ جزائريّ الجذور، في الحديث المسهب الدقيق حول اللغة. وهو مهووس بها، بالتنقيب في بحورها، بكلّ تداعياتها، بتداخلاتها، وتشعّباتها، بتاريخ الألفاظ والكلمات وارتحالاتها، بتقلّباتها، وطبقاتها، ما تظهره وما تبطنه وما تشي به، ما تسمّيه، وما تومئ إليه من دون أن تسمّيه..

غيّر دريدا في بنية التفكير في اللغة، وسّع أفق فقه اللغة واعتبرت كتاباته ثورة فكريّة ولغويّة. وهو من أشهر فلاسفة القرن العشرين؛ حيث برز كمنشئ لمذهب جديد في علم الفلسفة دُعي بالتفكيكيّة، التي يصفها بأنّها عملية حركيّة استراتيجيّة في تحليل النصّ والنظر إليه.
الكتاب عبارة عن نصّ قدّمه دريدا أثناء مؤتمر في جامعة لويزيانا الحكوميّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وينقسم عدا توطئة المؤلّف إلى بابين رئيسين:
أحاديّة لغة الآخر أو ترميم الأصل. لجاك دريدا. – أكثر من بطاقة تعريف بجاك دريدا وشروحات إضافيّة في ضيافة جاك دريدا. لإبراهيم محمود. ينطلق دريدا في كتابه من مقترحين: "- لا نتكلّم أبداً سوى لغة واحدة. – لا نتكلّم أبداً لغة واحدة". تتبدّى أفكار وظلال المفكّر المغربيّ الذي يكتب بالفرنسيّة عبد الكبير الخطيبي (توفّي 16-3-2009)، صاحب «الاسم العربيّ الجريح» وكتب أخرى رائدة خاصّة «عشق اللسانين»، في كثير من طروحات دريدا في هذا الكتاب، إذ أنّه يكثر من الاستشهاد به، حيث يرى فيه الصورة المقابلة أو المماثلة، فهو أيضاً يستوطن لغة ليست لغته، يبدع بها، يتغلّب على أبنائها، دون أن يكون واحداً من المرتهنين لأيّ تضييق أو ارتهان مفترضين.. فهما يلتقيان في التنوّع، وهذا بالضبط ما يقوّي فكرهما ويجذّره..
عن أيّة لغة يتحدّث دريدا.؟! يقول: "لا أمتلك إلاّ لغة وهي ليست ملكي، لغتي "الخاصّة"، هي لغتي غير القابلة للانحلال. لغتي الوحيدة التي أتفاهم بها وأسمع بها، وهي ناطقة، هي لغة الآخر". ص37. هي اللغة التي يستوطنها الكاتب، تلك اللغة التي تسكنه ويسكنها، رغماً عنه أو نتيجة لظروف تاريخيّة فُرضت عليه فرضاً.. يحتفي دريدا باللغة، أحاديّتها، ثنائيّتها، ويبيّن كيف تصبح تلك الأحادية الملزمة، ثنائيّات متعدّدة، عندما ينفتح الإنسان من خلالها على المحيطين به، دون أن ينغلق على نفسه أو يتقوقع داخلها. كما يتحدّث في وسائل البعض في التخفّي خلف أسيجة اللغة، أو السكن داخلها دون أيّة محاولات اجتهاديّة في سبيل تطويرها. فأيّة لغة حيّة ـ كما هو معلوم ـ هي كالكائن الحيّ تماماً، يكون تطوّرها على أيدي المبدعين من مستوطنيها، سواء كانوا أهلها أو من أصبحت لهم وطناً.. وذلك لا يتأتّى من خلال الركون إلى القوالب الجاهزة، أو الرهان على ما هو كائن، أو الارتهان له، بل يكون في مسعى حقيقيّ لتطويعها حتّى تلائم أهدافه التي يرمي إلى تحقيقها، عن طريق ترويضها، كي تُسلس له قيادها، وتمكّنه من نفسها، بعد أن يكون قد وصل إلى درجة من الوعي بها والمسؤوليّة تجاهها.. رغم أنّ اللغة التي يتكلّمها دريدا ليست لغته، لكنّها لا تكون غريبة عنه، ولا يكون غريباً عنها، أي لا يكون الآخر، وهي لا تكون الأخرى، يكون هو المقيم فيها، يغدو مواطنها، وتكون هي موطنه، يعيشها، ويعيش معها وبها، يسمّي دريدا اللغة مأواه، يستشعرها، يتنفّس بها وفيها، ينوجد بها ومعها، لا ينازعها ولا تنازعه، كونها هي ذاته، أي أنّها تشكّل له كينونته. بالنسبة له. هو هي. يقول: ".. أحاديّة اللغة التي أتنفّس فيها بالذات، هي بالنسبة لي المادة. ليست مادة طبيعيّة، ليست شفافيّة الأثير، إنّما وسط مطلق، أحادية لا يمكنني تجاوزها، لا تقبل المنازعة، لا أستطيع مقاطعتها إلاّ حين أثبت حضوري الكلّيّ في داخلي. كانت تسبقني في كلّ وقت. ذاك أنا. أحاديّة لغة الآخر هذه، بالنسبة لي هي ذاتي".
من ضمن ما يمكن أن تعنيه أحادية لغة الآخر بالنسبة لدريدا هو ارتباطه متعدّد الأشكال بالفرنسيّة، يعتبرها أحياناً "حسّاسة"، حيث يشعر بالضياع خارج الفرنسيّة، لأنّه لا يستوطن اللغات الأخرى التي يقرؤها بلا مهارة أكثر أو أقلّ، يحلّلها، يتكلّمها، يقول في التوطين ذاك: "هنا حيث التوطين يعني شيئاً ما بالنسبة لي. ويعني البقاء، أنا لست فقط تائهاً، بائساً، محكوماً خارج الفرنسيّة، لدى إحساس بتكريم أو خدمة الاصطلاحات، بكلمة واحدة بكتابة "الأكثر" و"الأفضل" عندما أثير مقاومة فرنسيّتي، مقاومة التطهير السرّيّ لفرنسيّتي، تلك الفرنسيّة التي كنت أتحدّث بها عالياً، مقاومتها إذاً، مقاومتها العصيّة على الترجمة في كلّ اللغات، بما فيها الفرنسيّة ضمناً" ص87، حيث يبرّر ذلك يبحث فيما لا يمكن ترجمته. يلتقي في ذلك مع كثير من الكتّاب والمفكّرين الذين يستوطنون لغة ليست لغتهم، يبدعون بها، يضيفون إليها، يضفون عليها خصوصيّاتهم، يحضر هنا الكثير من الكتّاب العرب الذين يكتبون بالفرنسيّة، كما يُستذكَر اسم إدوارد سعيد الذي حقّق حضوراً لافتاً على الصعيد العالميّ.
كما أنّ المترجم يبدو وكأنّه يردّ على الآخرين في تأكيد كينونته، لاسيّما عندما يردّد، بنوع واضحٍ من المحاكاة والتماثل أو المشابهة والتماهي، أكثر من بضع مرّات تشابه حالته أو تماثلها وشريكه في الترجمة «عزيز توما» بدريدا والخطيبي، حيث هو كرديّ مسلم والآخر سريانيّ مسيحيّ.. يأتي ذلك كتحدٍّ على الوجود، والتعاون والتواصل، لكنّه مع التأكيد المستمرّ، ربّما بدا انطلاقاً من رغبة تماهياتيّة، أو بدا ردّاً أكثر منه توضيحاً..
"أحاديّة لغة الآخر أو ترميم الأصل" لـ: جاك دريدا، كتاب غنيّ بمضامينه وأفكاره التي لا يكون القبض عليها بمتناول القارئ البعيد عن معجم دريدا الثريّ، ببساطة، فكلّ كلمة أو فكرة تنفتح على أخريات، وتتكامل معها في سياق عامّ، من خلال لغة دقيقة محسوبة، لا تبقى اللغة مجرّد أداة تواصل بل تغدو كينونة قائمة بذاتها.. هي لغة أخرى؛ طريقة تفكير دريديّة، تنقّب في هموم سكّان اللغات ومستوطنيها، بفكر منفتح ووعي مسؤول..