سامي خوندة : كنت في قلب الأحداث

سامي خوندة : كنت في قلب الأحداث

رشيد الرماحي
صحفي عراقي راحل
سامي خوندة.. واحد من بقايا جيل عاصر كل الاحداث التي شهدها قطرنا منذ ما يزيد على نصف قرن بدءاً من الاحتلال البريطاني للعراق، مروراً بتنصيب فيصل الاول، انتهاء بكل الانتفاضات والثورات التي ساهم فيها حتى قيام ثورة 14 تموز 1958.. لكن ذاكرته مازالت تختزن الشيء الكثير من الاسرار عن تلك الفترة الحاسمة عن تاريخنا وهو اليوم يكتب مذكراته معتمدا على ذاكرته اولا ومجموعة من الوثائق تنشر لأول مرة!

شاهد عيان يتحدث!
* ولكن من هو سامي خوندة؟
- انه من الرعيل الاول من شباب العراق الذين مهدوا وساهموا في الثورة العراقية الاولى (30 حزيران 1920) التي اندلعت ضد الاستعمار البريطاني وقواته المحتلة على مختلف المستويات والاصعدة، فقد كانت جريدته (الرافدان) الى جانب نظيرتها (الاستقلال) للمرحوم عبد الغفور البدري، اللسانين المعبرين عما كان يمور في نفوس المواطنين من غليان وحقد على المستعمرين وعملائهم كما كان في طليعة المساهمين بالجمعيات السرية والمحضين للاجتماعات والمواليد التي انعقدت في جوامع بغداد لحث الجماهيرعلى مقارعة المستعمرين. وقد كلفته جهوده الوطنية الكثير من المشاق، فكان في طليعة من تفاهم (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني، والحاكم بامره في العراق في جزيرة (هتجام) بالهند مع عدد كبير من المجاهدين، ولكن السجن والاعتقال والملاحقة لم تصرفه عن مواصلة الاتصالات بالاوساط الوطنية في الايام الاولى لقيام الحكم الملكي وان كانت (الوظيفة) قد حدث من نشاطه، الا انها لم تؤثر على مشاعره الوطنية واهتماماته بالقضايا العامة، فهو اذن شاهد عيان لفترة طويلة يكشف النقاب عن اسرارها عبر مذكراته التي بدأ بكتابتها منذ فترة لتصدر في القريب العاجل.
من مقهى المصبغة!
* حين بدأت حواري معه، كان من الصعوبة ان نحدد نقطة البدء فالرجل يحتفظ بتاريخ طويل يتشعب بالتأكيد ليلتهم معظم صفحات (الف باء) لكنه هو بالذات اختار السنة والمناسبة لينطلق منها..
- قال: في سنة 1919 عاد من اسطنبول المرحوم احمد عزت الاعظمي الصحفي المعروف وصاحب مجلة (اللسان) التي بدأت تشق طريقها ويتحلق حولها مجموعة من الشباب المثقف الواعي.
وكانت اجتماعاتنا تعقد في ادارة هذه المجلة القريبة من مقهى المصبغة و(اللسان) وان كانت ادبية الا انها كانت تنشر الوعي القومي بين الشباب من خلال مقالاتها وقصائدها الوطنية التي كانت تنشرها بين حين واخر، واذكر بهذه المناسبة ان المرحوم محمد مهدي البصير، ولم يكن حينذاك معروفا في الاوساط البغدادية بعث اليها بقصيدة مطلعها.
ليس العراق سوى بيت تقيم به
وانما اسرتي ابناؤها العرب
وما بنو الضاد في كل البلاد سوى
سراة ابناء عمي حين انتسب فتلقفتها ايدي الشباب وكان لها وقع كبير في نفوسهم عززت مكانة المجلة وزادت من انتشارها وسلطت الاضواء على الشاعر الجديد!
هؤلاء عرفتهم!
* ومن هم ابرز الشباب الذين كانوا يجتمعون في ادارة مجلة (اللسان)؟
- مجموعة من الشباب امنوا بحق وطنهم في الحرية والاستقلال وطالبوا لشعبهم النصر المؤزر، واذكر من بين هؤلاء "صادق حبه، عبد الغفور البدري، احمد نيازي وعلي غالب العزاوي (شقيق المؤرخ عباس العزاوي) وجعفر ابو التمن الذي تعرفت عليه لاول مرة عندما كنا نزور عمه المرحوم الحاج سلمان ابو التمن في الخان الذي يحمل اسمه!
* وعندما بدأت تلوح في الافق (الحديث مازال للسيد خوندة) بوادر ثورة عارمة ضد الاحتلال البريطاني للعراق نتيجة ازدياد مظالمه وطلب العراقيين الملح في تشكيل حكومة وطنية ازدادت اجتماعاتنا واتخذنا من بعض المدارس واجهة لتاجيج الشعور الوطني وقد قررنا تقديم روايتين تحملان نكهة وطنية خاصة تخدم الغرض المطلوب الاولى باسم (وقود النعمان الى كسرى) وقد قدمت على مسرح سينما (سنترال) مقابل محلات حافظ القاضي، مثل دور النعمان ابن المنذر المرحوم قاسم العلوي ودور كسرى جسده المرحوم جميل قبطان وهو ضابط في الجيش كان يسكن محلة (سوق الجديد) في الكرخ، اما الرواية الثانية فكانت عن (طارب بن زياد) وقد مثل دور طارق المرحوم احمد زكي الخياط وقد رصد ريع هاتين الروايتين للمدارس الاهلية وليس هذا المهم، انما الاهم استقبال المواطنين اوعجابهم والمعاني التي خرجوا منها بعد اسدال الستار، فقد كنا نرمي الى بعث الروح الوطنية والقومية في نفوسهم، وتجسيد بطولات العرب عبر التاريخ بوجه الغزاة، ولعل من المفيد ايضا ان نؤرخ حركتنا الفنية من تقديم هاتين المسرحيتين ايضا!
شباب الحرس السري
* وحياتك الحزبية متى بدأت؟
- لقد انتميت الى حزب (الحرس السري) الذي ولد وتأسس في مدرسة (التفيض) ولعب دورا بارزا في بلورة الوعي الوطني والمشاركة والاسهام الفعال في ثورة العشرين ويمكن اعتبار (الحرس السري) ثاني حزب تأسي في العراق اما الاول فهو حزب (العهد) الذي تشكل في اسطنبول سنة 1909 وضع العديد من الضباط العراقيين الذين كانوا في الجيش العثماني وقد ذهبوا الى سوريا بمعية الملك فيصل الاول وهم يحملون هوياتهم الحزبية (العهد).
وعندما جاءوا الى العراق كان معظمهم يروج لاهداف حزبه، اعود فاقول لقد كنت مع المرحوم علي محمود الشيخ علي من اوائل الشباب الذين انتموا الى (الحرس السري) الذي ناضل على عدة جبهات بما فيها نشر اللغة العربية يوم كان لايتحدث بها الا نفر قليل من المثقفين والكسبة. وبعد ان انتهت ثورة العشرين وتمخضت عن اعتقال معظم القائمين بها وكنت احدهم حين نفينا الى جزيرة (هنجام) وامضينا فيها فترة من الزمن حتى عدنا الى بغداد عام 1921 لننضم جميعا الى الحزب الوطني الذي اجيز رسميا وتراسه المرحوم جعفر ابو التمن.
* وماذا تذكر خلال هذه الفترة؟
- بعد تنصيب فيصل الاول ملكا على العراق سنة 1921 وبمناسبة مرور سنة على تتويجه القي القبض علينا ونفينا الى جزيرة (هنجام) مرة اخرى بعد ان ضاق الانكليز بنا: ولكنهم نسوا او تناسوا ان معظم الشعب العراقي كان من اعضاء الحزب الوطني وان لم ينتموا اليه رسميا وبواجهات مختلفة مادامت دعوته وطنية صادقة.
* قاطعته: ولكن ثمة حادثا فجر غضب الانكليز اثناء الاحتفال بمرور سنة على تنصيب الملك فيصل، الا تذكرون ذلك؟
-اذكره تماما، وان اختلفت الروايات حول ذلك لكنني اميل الى صحة ما كتبه الدكتور محمد مهدي البصير عن هذه الحادثة بالذات وقد بدأت حين القى ممثلا الحزبين المعارضين وهما الحزب الوطني وحزب النهضة كلمتيهما وهما تطالبان بالغاء المعاهدة العراقية – البريطانية وكان المرحوم فهمي المدرس رئيس امناء البلاط الملكي ينصت الى الخطب باهتمام فاذا بالحضور يسمعون ضجة وتصفيقا خارج السراي فنظرنا جميعا فاذا بالسير (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني يدخل ليقدم التهنئة التقليدية الى الملك فاستفز مشاعر المواطنين وتعالت الهتافات بسقوط الانتداب وبعدها القي القبض علينا واود هنا التأكيدان المرحوم المدرس امره الملك فيصل بسماع الخطاب فيمثله شخصيا وليس برغبة منه، لكن المندوب السامي اعتبر ذلك تحقيرا لحكومته اما حسون ابو الجبن (بائع الجبن في رأس الجسر) الذي هتف بسقوط الانتداب البريطاني خلال الاحتفال فقد اتصلت به بعد سنوات وعرفت منه انه كان يجهل نتيجة اعماله وقد اعلن امامي ان جهات رسمية طلبت منه ان يهتف حال وصول المندوب السامي ففعل دون ان يدري!
الوزير: الخزينة خاوية!
* لقد قبل الشيء الكثير عن (جعفر ابو التمن) ومواقفه، فماذا تقول عنه انت؟ اجاب:
- اذكر عن ابي التمن مواقف عدة، فبعد استيزاره للتجارة سنة 1921 استقال بعد ثلاثة اشهر، ولكنه عام 1936 ومع انقلاب بكر صدقي صار وزيرا للمالية فاذا به يخطب عبر الاذاعة ليعلن للناس ان (الخزينة خاوية على عروشها) فكانت سقطة تناظلها الناس عن وزير مالية كشف اسرار وزارته، لكنه رغم ذلك ظل وطنيا صادقا ونظيفاً خدم امته في ظروف صعبة مع انه ليس رجل سياسة او تدرج في مدارس عاية وخاض تجارب عدة ليتولى مسؤوليته الا ان مظالم الاستعمار البريطاني قادته الى هذه المناصب رغما عنه!
* ويسكت سامي خوندة فجاة وهو يجمع شتات افكاره وعندما اطلب منه المزيد، يقول بصراحة، لتترك ذلك للمذكرات التي ستجد فيها جوابا لاكثر عن سؤال وتساؤل، ولكنه وقد عاصرتك الاحداث، لاينسى وهو يودعني عند عتبة بابه ان يذكرني بالامانة في نقل ما روى فقد كان صحفيا مثلي ولكن قبل 58 سنة اما اليوم فهو على اعتاب شيخوخة وفي عهد حقق المعجزات، معجزات حلم بها جيله في العشرينات فجاء حلم بها جيله في العشرينات فجاء البعث ليحيل الحلم الى حقيقة وما اكبرها واوسعها.
عن مجلة الف باء 568
15 آب 1979