بين مير بصري وانور شاؤول

بين مير بصري وانور شاؤول

الدكتور رشيد الخيون
رحل قبل أسابيع شاؤول ساسون خضوري، ابن رئيس الطائفة اليهودية ببغداد، وتبعه قبل أيام الأديب مير بصري، آخر رئيس للطائفة. ظل الراحلان يعيشان خواطرهما، ويودان استعادة ولو لحظة على شاطئ دجلة. كان هذا حلم المنتزعين من أرض ألفوها منذ حوالي ثلاثة آلاف عام. إجراءات رسمية صدرت ضد توظيفهم، وتعليم أولادهم، ومطاردتهم، وتحشدت القوى القومية،

المسايرة للنازية ضدهم، وكان في طليعتها حزب «الاستقلال»، حتى بلغت الذروة بفرهود 1941 ببغداد، يوم نهبت محلاتهم ودورهم، وسَّن قانون إسقاط الجنسية عنهم. وعلى خلاف الموقف القومي وقف علماء المسلمين والقوى الوطنية العراقية، موقفاً مشرفاً من قضيتهم. أصدر السيد محمد الصدر (ت1956)، رئيس الوزراء، تعليمات إلى وسائل الإعلام للتمييز ما بين الصهيونية وبين يهود العراق. وأصدر المرجع الشيعي السيد محسن الحكيم (ت1970) والمفتي السُنَّي نجم الدين الواعظ (ت1976) فتاوى تحرم الإساءة لهم. ووقف الحزب الشيوعي العراقي ضد تكريس الكراهية ضدهم، وبادر اليهود في الحزب إلى تشكيل «عصبة مكافحة الصهيونية» 1945، التي أجازها وزير الداخلية سعد صالح (1950)، ثم ألغيت وقُدم أعضاؤها للمحاكمة إثر بيان لها ضد وعد بالفور. ورد في أحد بياناتها: «تريد الصهيونية حل المشكلة اليهودية بإفناء الشعب العربي الفلسطيني، وتريد أكثر من ذلك أن تغزو البلاد العربية بأسرها»(الصافي، كفاحنا ضد الصهيونية).
وقال وجهاء الطائفة اليهودية لوكيل الحاكم البريطاني ببغداد، عندما بشرهم بوعد بالفور (1917): «وطننا هذه البلاد، التي عشنا في ربوعها آلاف السنين، وعملنا بها، وتمتعنا بخيراتها، فإذا رأيتم أن تساعدوا هذه البلاد، وتحيوا اقتصادياتها وتسندوا تجارتها وماليتها» (نزهة المشتاق). كانت وراء هجرة يهود العراق، على حد عبارة مؤرخ المقام العراقي قوجمان «قوى هائلة أجنبية وصهيونية وعراقية» (الشرق الأوسط، 17أيلول 1999). وبعد الهجرة جمدت أملاكهم. ومن المفارقة أن تلجأ عائلات فلسطينية من سكنة دور المهجرين، إلى جارها مير بصري لمساعدتها، الذي قام بواجب الجيرة بمدهم بالماء والكهرباء، ومراجعة الدوائر لهم، فالرجل رغم كل ما حدث ظلت مكانته محفوظة. ومن المفارقة أيضاً أن يهودا عراقيين علقوا صورة الفنان الفلسطيني ناجي العلي فوق رؤوسهم، بمحلهم التجاري بلندن، ولم يصدق أحد المؤمنين بنظرية كل يهودي صهيوني، إلا بعد رؤيتها بنفسه.
كان الرابح الأول من إيذاء وهجرة يهود العراق، هي الصهيونية نفسها، التي شاركت التعصب القومي في إقلاق مضاجعهم. ومعاذ الله أن يُتهم مفتي القدس الحاج أمين الحسيني (ت1975) بالتواطؤ، لكنه خدم عدوه عندما تبنى مقالة «عدو عدوي صديقي» في موقف غير مناسب، فتورط مع مدرسين فلسطينيين وسوريين، كانوا يعشيون ببغداد، بالحث على نهب اليهود، والمساهمة في إيقاد الكراهية ضدهم (حركة السنة 1941 التحررية).
حاول مير بصري، 95 عاماً، وشاؤول خضوري، 91 عاماً، تجاوز الفواجع، والبقاء ببغداد حتى السبعينيات. لكن الفواجع توالت، وكان أفظعها صلب الجثث وسط بغداد، يومها صدرت جريدة «الثورة» بمانشيت مفزع: «إعدام وجبة جديدة من الجواسيس وتعليق جثثهم في ساحة التحرير» (21 شباط 1969). كانت ليهود ومسيحيين ومسلمين، وتبعت الوجبة وجبات من المصلوبين.
كان الراحلان معتقلين، شاؤول ناجي (اسمه المتداول) في قصر النهاية، ومير بصري في مديرية الأمن العامة. وقد حاول الأديب والمحامي أنور شاؤول الوساطة، لإطلاق سراح الأخير، فاستنجد بصديقه اللغوي مصطفى جواد، إلا أنه تنكر للصداقة في الزمن العصيب، فقياس التهم كان يجري بأعاجيب. عرض صلاح بيات، سكرتير وزير الداخلية آنذاك، على الوزير صالح مهدي عماش (ت1985)، أبياتاً لصديق أخيه أنور شاؤول (ت1984) تقول:
إن كنت من موسى قبستُ عقيدتي
فأنا المقيم بظـل دين محمدِ
وسماحة الإسلام كانـت موئـلي
وبلاغة القرآن كانت موردي
ما نال من حـبي لأمـةِ أحـمدٍ
كوني على دين الكليم تعبدي
سأظل ذيـاك السموأل في الوفـا
أسعدت في بغدادَ أم لم أسعدِ

والسموأل (القرن السادس الميلادي) شاعر يهودي، ضحى بولده من أجل حفظ الأمانة، واشتهر بلاميته، التي منها البيت المشهور: «إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه... فكل رداء يرتديه جميل». نُشرت القصيدة بأمر وزير الداخلية في جريدة «الجمهورية» العراقية (17 شباط 1969)، وأُطلق سراح مير بصري. غير أن صحفا لبنانية نشرتها مع تحريف «قبست عقيدتي» إلى «فبئس عقيدتي» (شاؤول، قصة حياتي). ولا نعلم ما سر طلب القصر الجمهوري لثياب الحاخام خضوري الدينية بعد وفاته (1971)، التي حملها إلى هناك حفيده زهير شاؤول. وخلافاً للعادة، في زمن دولة البعث، كان تشييع الحاخام يوماً مشهوداً ببغداد. وقيل: حصل هذا لتحسين صورة النظام في الخارج بعد الإعدامات والاعتقالات.
فبعد وفاة فيصل الأول، ارتبط التعصب ضد يهود العراق بالهيمنة القومية، لينصفهم عبد الكريم قاسم، وكان عراقي التوجه، خالياً من التمييز الطائفي والقومي، أُلغيت ضدهم الإجراءات التعسفية، ومنها إسقاط الجنسية، وانحسرت هجرتهم تماماً. قال بصري: «تمتع اليهود بكل حقوقهم المدنية والدينية والطائفية» (رحلة العمر من ضفاف دجلة إلى وادي التيمس). ثم عادت المضايقات شديدة في عهد عبد السلام عارف والبعث.
لم تألف بغداد الغيتوات (مناطق عزل) ضد يهودها، بل عاشوا حياة مريحة في محال مختلطة، لا يسأل فيها الجار جاره عن ديانته أو مذهبه. دخلوا الجيش والشرطة وتوزروا الوزارات. ومن بقايا فضلهم أن وزير المالية ساسون حسقيل (ت1932)، أصر أن يصبح العراق شريكاً في شركة نفط العراق، وأن يسترد ريع النفط بالذهب، لأن قيمته ثابتة. لقد ربحت إسرائيل بتهجيرهم إليها خبرات تراكمت ببابل والكوفة وبغداد العباسية. ذكر المسعودي أن الإمام علي بن أبي طالب، اعتمد أحد أجداد بصري وخضوري مبعوثاً إلى الخوارج. قال: كان «رجلاً من يهود السَّواد»(مروج الذهب).
حضر العراقيون المسلمون، بينهم أصحاب عمائم، تأبين الراحلين بلندن، وألقيت الكلمات بالعربية، التي ظل يكتب بها بصري، وخضوري، ونقاش، وسوميخ، وبولص وغيرهم. حضر المسلمون التأبين وسط نظرات رجال ونساء شاكرة، فثمة مواطنة ما زالت حية في الذاكرة، أرخها جميل صدقي الزهاوي (ت1936) بالقول:
عاش النصارى واليهود ببقعة والمسلمون جميعهم إخـوانا.
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية