انور شاؤول من رواد القصة العراقية

انور شاؤول من رواد القصة العراقية

جعفر الخليلي
ولد انور شاؤول في الحلة سنة 1904 كما يقول تسجيل نفوسه وكما تنص عليه شهادة جنسيته الرسمية وعلى رغم هذه النصوص الرسمية فان هنالك اختلافا في تاريخ ميلاده، ولو لم يكن مثل هذا الاختلاف في تاريخ المواليد والوفيات ذا اثر قد يكون كبيراً بعض الاحيان في دراسة الشخص وبيئته وظروفه

وما يتوقف علىتلك الدراسة من امور ذات علاقة بالمجتمع، نقول انه لو لم يكن ذلك ذا اثر في دراسة الحياة دراسة كاملة لما تطرقنا اليه ولما سعى المؤرخون الى التثبت من هذه التواريخ في معرض الدرس والاستنباط، اما هو اعني انور شاؤول فلم يقم لهذا الاختلاف وزناً كما يظهر ذلك مما كتبه لي اذ يقول:
«كم اسخر من نفسي عندما احاول احيانا التثبت من تاريخ ولادتي اهو عام 1904 كما يؤخذ من الوثائق الرسمية التي لدي ام 1907 كما يؤكد اهلي، ولكم تساءلت وما اهمية هذا الاختلاف حول تعيين عام ولادتي؟ بل ما قيمة ذلك بالنسبة للاخرين وحتى المعنيين منهم بتقصي دقائق الامور وتوافها؟ ليكن عام 1904 او 1907 او قبل ذلك بعشر سنوات او بعده بعشرين سنة فماذا يهم الناس ذلك؟ ماذا يهم البشرية؟ بل ماذا يهمني انا بالذات؟»
تأثير المحيط
وانور شاؤول يهودي عراقي نشأ في الحلة، وترعرع في محيطها، فاختلفت طبيعة اليهودية فيه عن طبيعة اليهودية عند اليهود الذي عاشوا في المدن الكبيرة كبغداد والبصرة، ذلك لان اقلية اليهود في مدينة الحلة كانت تحتم اندماج اليهود مع المسلمين هنالك اكثر مما تقتضيه الحواضر الكبيرة التي يزداد فيها عدد اليهود والتي تعطي اليهود استقلالا ذاتيا في محلات سكناهم وبيعهم وشرائهم وتجارتهم ودراستهم واسلوب حيلتهم العامة والخاصة وان الفروق الناشئة بين يهود قلائل يترعرعون في وسط يسوده الاسلام وبين يهود كثيرين يعيشون في اوساط مختلفة هي نفس الفروق الحاصلة مع بعض الاختلاف لاية اقلية اذا ما اختلف عددهم واختلف محيطهم ووسطهم عنهم لذلك كان هذا من اكبر العوامل في حياة انور شاؤول وفي حياة غيره من اليهود الذين اقتضت معيشتهم ان يعيشوا منفردين في القصبات والقرى النائية فكان للعادات والتقاليد المحلية بعض الاثر في نشأتهم وتكوينهم بالقدر الذي يفرضه التماس والاحتكاك والاتصال وبنسبة الزمن الطويل والقصير ومن هنا تاثر انور شاؤول بمحيط الحلة وبيئتها كثيراً.
وهنالك ظاهرة تدل على قوة تأثير المحيط في انور شاؤول وهو ان انور شاؤول كثيرا ما يكون ضيق الصدر وبعض الاحيان يثور في وجه متحديه بجراة وبدون مبالاة كما يفعل الحلي على وجه التقريب وبخلاف ما هي عليه طبيعة اليهودي في الحواضر الكبرى تماما والسبب في كل ذلك يرجع الى عمق اندماجه في محيط الحلة وهو طفل صبي يافع.
يهود القرى والمدن الصغيرة
قص علي صديق قال: حينما كنت صبيا في العهد التركي كنت العب مع الصبيان ببغداد وكنت كثيرا ما استغل انا واياهم ضعف اليهود الساكنين في محلة ابي سيفين والقابعين على انفسهم فاهاجم بعض من يمر بنا منهم على ملعبنا الواقع بالقرب من محلتهم فيعدون هاربين منا، وذات يوم مر من هناك يهودي (واليهودي يومذاك معروف من لغته وهندامه ولباسه) فجرينا نحن الاطفال متخذين من استطراقه على ملعبنا ذريعة لمهاجمته ولكننا لم نكد ندنو منه قليلا حتى مد يده بين طيات قبائه فاخرج سوطا لا ازال اتمثله للان ثم حمل علينا فلم يتركنا حتى الهب ظهورنا به ونحن نكاد نطير عدوا من الخوف.
وحين كبرت قال الصديق: الفيت طائفة كبيرة من اليهود الذين تسنى لهم ان يولدوا في المدن والقرى الغاصة بالمسلمين والتي ليس فيها من اليهود الا بضعة بيوت او اقل كانوا قد اندمجوا اندماجا كبيرا في لعبهم وسموهم وبيعهم وشرائهم مع المسلمين حتى لقد كان البعض منهم يأكل من قدور المسلمين وقد رأيت – قال الصديق – معظم هؤلاء تختلف امزجتهم بعض الاختلاف عن اليهود الاخرين بحيث لا استبعد ان يكون ذاك اليهودي الذي الهب ظهورنا بالسوط واحدا ممن نشأ في قرى المناطق الكردية في الشمال او المناطق القبلية في الجنوب.
وكان لهذه العوامل، عوامل الاندماج الكلي في المحيط اثرها في تعلق انور شاؤول بمسقط رأسه وحبه للحلة وحنينه للوطن بحيث طغى هذا الحب على شعره ونثره فكان ذلك من اجود ما غنى به من قصائده كقوله:
يا ديارا حبها تيمني
لك في قلبي غرام ابدي
بلدي افديك ان عز الفدا
بفؤادي والحشا يا بلدي

عامل آخر
وهنالك عامل آخر لبيئة الحلة في تكوين مزاج انور شاؤول وطبيعته وهو انه نشأ في حضن امرأة حلية مسلمة، فرضع من ثديها، وتغذي بحليبها، وآخي ابنها المسلم، فكان اخاه في الرضاعة وفتح عينيه في عينيها لان ام انور كانت قد ماتت وهو لايزال وضيعاً وظل لا يذكر من الوجوه الا وجه تلك المرأة التي رضيت ان نشركه وولدها المسمى عبد الهادي حليبه حتى تم له ان يفطم.
الادب في الحلة
وليس من شك ان ملكة الادب كانت موجودة في فطرته ولكن نشأته في وسط كالحلة التي آلت اليها زعامة الشعر في العراق مدة سنين طويلة قد عجلت بصقل ملكته ومواهبه كما طبعت أخاً له اكبر منه سناً بطابع الذوق الادبي، فلقد كان الشعر في الحلة – الى ما بعد الحرب العظمى الاولى بقليل - متلواً على فم كل كبير وكل صغير في الاندية والمجالس والبيوت، وكان بيت زعيم الحلة الروحاني السيد محمد القزويني في اوائل القرن العشرين منتدى ادبيا تاريخيا وديوان شعر لا تطلع عليه الشمس الا بجديد في عالم الشعر والادب، ولا تغيب عنه الشمس الا بجديد في عالم الفن، فيتناقل اهل الحلة ما كان يدور في هذا الديوان والدوواين الاخرى وظلوا يتناقلونه الى ما قبل وما بعد الحرب العظمى الاولى، والناس الى هذا اليوم يروون الكثير من النوادر الادبية التي تخص الحلة.
ومما ينقلون عن السيد جعفر الحلي المتوفى سنة 1315 هـ انه مر ذات يوم فالفى السيد محمد القزيوني الى جانب السيد محمد الطباطباني وهما يتناظران في الادب ويتناقشان في مورد شعري معين وحين سئل السيد جعفر عن رأيه في «المحمدين» الطباطباني والقزويني قال:
شتان بين محمد ومحمد
ذا طبطباني وذا قزويني
انا اعرف الرجل المفضل منهما
بالله لا تسأل عن التعيين
انهم ينقلون هذين البيتين كلون من الوان براعة التخلص ثم يروون الشيء الكثير من ادب المناسبات والمناظرات التي كانت تجري على سبيل الجد والهزل بين قبيلة واخرى، وطائفة وثانية، اما الزبد منه فكان يذهب جفاء، واما ما ينفع الادب فيبقى دائراً على الالسن وثابتاً في الكتب، ومن تلك النوادر الادبية المرسلة على سبيل التورية قول السيد صالح الحلي الخطيب المتوفى في العقد الرابع من هذا القرن قوله عن السيد كاظم اليزدي – وهو احد الزعماء الروحانيين الذين ناهضوا الحرية والحركة المعروفة بحركة (المشروطة) يقول السيد صالح مندداً به:
وفتاة تقول وهي تصب الماء
قلدت «كاظماً» قلت (صبي)
والمعنى ان الرجل (صابئي) فلا يجوز تقليده والاقتداء به، ومن المزاج الادبي المروي في مثل هذه التواريخ انه كان بين احد ولاة العثمانيين المتبحرين في الادب وبين السيد محمد القزويني مودة، وكان السيد محمد القزويني يشكو وجعاً في احدى اسنانه ادى به الى قلعها فبعث الوالي يسأل عن صحته وكان السيد محمد شيعياً بالطبع والوالي سنياً فكتب له السيد محمد رسالة يشكر له عنايته به وتفقده اياه وقد ذيلها بالبيتين التاليين على سبيل الدعابة:
ولي سن يؤلمني كثيراً
ويذهب لذة الماكول عني
قفارقني فصرت قرير عين
فلا اتأسفن فراق (سني)
ولقد انست حلاوة الفكاهة والدعاية مناقشة الصياغة من حيث تذكير السن وتأنيثه.
وعلى ذكر السيد محمد القزويني زعيم الحلة الروحاني نذكر انه قال له احد ادباء النجف مرة على سبيل التعريض بالحلة:
- ان خيار النجف احسن من خيار الحلة
وقد قصد بذلك التورية في كلمة «الخيار» من الخضر، والخيار من الناس فاجاب السيد محمد:
- ولكن خس الحلة احسن من خيار النجف
والتورية في «الخس» هنا واضحة جلية لا تحتاج الى شرح.
وسال احد مشايخ آل كاشف الغطاء ذات يوم السيد محمد القزويني وكان في ضيافته في الحلة لقد ساله على سبيل الاستفهام قائلاً:
- من العلويين مطعون في نسبه التاريخي؟
فاجاب السيد محمد على سبيل الدعابة قائلاً:
- أنا...
والنكتة هي ان آل كاشف الغطاء هم اخوال لطائفة من آل القزويني... وجمعت الصدفة مرة (عاكف بك) القائد التركي المشهور بوقعة الحلة والسيد (عارف) والشيخ (حبيب) والاخيران من الوجوه والشخصيات المعروفة لقد جمعتهم الصدفة في بيت السيد محمد القزويني وهم في زيارته فالتفت السيد محمد الى غرابة هذه المصادفة التي جمعت بين هذه الاسماء في بيت الشعر المشهور:
سرى يخبط الظلماء والليل (عاكف) (حبيب) باوقات الزيارة (عارف) وداعبهم قائلا:
- اي بيت هذا الذي جمعكم الشيطان فيه معاً؟ (يريد به بيت الشعر) المذكور.
اجاب الشيخ حبيب:
- بيت مولانا السيد.. (يريد به السيد محمد القزويني) فكان السيد محمد اول الضاحكين والمصفقين لهذه النكتة.
ومر ذات يوم السيد جعفر الحلي على جمع قد توسطهم (سماور) من تنك وكان الناس قريبي عهد بالسماور والشاي في ذلك اليوم فنوى صاحب السماور ان يحرم السيد جعفر من الشاي، فصب وشرب الاصدقاء، وصب وشرب هو دون ان يقدم للسيد جعفر قدحا ولم يقف الامر عند هذا الحد وانما تحدى الجمع السيد جعفر وسالوه بم تستطيع ان تشبه مجلسنا؟
قال ليس معي قلم ودواة وحين جيء اليه بالقلم كتب هذين البيتين:
سماور جاء يحكي ثدي مرضعة
لكن اهل اللحى في دره اشتركوا
سماور جاء يحكي عقل صاحبه
كلاهما ان تفتش عنهما تنك

والسيد جعفر الحلي من سادات «العذار» والعذار قرية من قرى الحلة اتهم سكانها بالغباوة والبلادة على سبيل التنكيت وقد عرض ذات يوم احد الادباء بالسيد جعفر وهم في ندوة من ندوات التسلية والدعابة قائلاً:
«من العذرات سادات العذار».
فالتفت السيد جعفر اليه مشيراً واجاز صدر البيت قائلا:
«اتسمع ما يقول ابن الحمار»
ان مثل هذا كثيراً ما كان يحدث اذا لم يكن يحدث كل يوم في تلك المجالس والدواوين وكثيراً ما تؤدي المساجلات الادبية بين شاعر وشاعر وبين زمرة وزمرة وقبيلة وقبيلة وطائفة وطائفة الى انبثاق ادب جديد نسبيا يساعد كثيرا على صقل القابليات وبعثها من مكمنها لذلك كان عدد شعراء الحلة وادبائها الى ما قبل قيام الحرب العظمى الاولى كبيرا، وكان وسط الحلة وسطاً ادبياً لا يقل عن وسط النجف في كثير من الاحيان.
مجاملة المسلمين
وكانت المآتم الحسينية التي تعقد في البيوت والمحلات العامة والتي تقوم على سرد القصص التاريخية والمرائي الشعرية عاملاً كبيراً في خلق الاجواء الادبية في الحلة ثم كانت المقاهي التي يقعتد تخوتها القصاصون الذين يستأجرهم بعض ارباب المقاهي ليجمعوا حولهم الناس، كما كان الدراويش والشحاذون الدوارون والطائفون بالاسواق والمقاهي والشوارع الذين يتخذون من تلاوة الشعر ورواية القصص مكسبا، هي الاخرى عوامل ذات اهمية في خلق الاجواء الادبية.
وكان يهود الحلة يحضرون الكثير من هذه المجالس على سبيل المجاملة ومجاراة المسلمين الشكلية كما يحضرها اليهود الذين يسكنون القصبات والقرى العراقية كطويريج والشامية والديوانية فكان لها اثر بين في امزجتهم وطبائعهم وكان الكثير من اولئك اليهود في مدن الفرات يرتادون تلك المجالس وفي جيوبهم فناجين القهوة ليشربوا بها مراعين عواطف الاكثرية وممعنين في مجاراة المحيط ومجاملته.
قصص وحكايات
ويعزو انور شاؤول نشاته القصصية الى بعض هذه العوامل فيقول لي: «على شاطيء الفرات الذي يخترق مدينة الحلة الفيحاء تنبث بعض المقاهي البدائية كل ما فيها مقاعد من القصب وارائك من الخشب البالي يتجمع فيها الناس لارتشاف القهوة وتدخين السكياير والنراكيل وقضاء فترة من السمر تمتد احيانا الى ساعة متاخرة من المساء وعلى بصيص الاضواء الخافتة يستمع القوم الى رواة قصص الابطال والمغامرين كحكايات «عنتر بن شداد» و» ابي زيد الهلالي» و»علي الزنبق بن حسن رأس الغول». كنت اذ ذاك في اواخر العقد الاول من حياتي وكنت اصر على اخي الاكبر ان يصطحبني لسماع هذه الحكايات وعندما لا يتيسر لي الذهاب او لا يسمح لي به كان على شقيقتي ان تسرد لي بلباقة خاصة قصص: «العنقاء بنت الريح» و»السعالي الخمس» و»وابنة السلطان والجان» وغيرها فانصت الى هذه الحكايات حتى يداعب النعاس جفوني ويحملني الكرى على جناحيه».

اثر اللغات الاجنبية
وشب انور شاؤول في ذلك المحيط ميالا الى الادب، والى ادب الشعر، وادب القصة بصورة خاصة فكان لابد ان يتأثر بمحيطه من حيث لون ادبه ومن حيث اهدافه واتجاهاته، اما اللون فقد كان كلاسيكيا في شعره يتمشى مع الزمن بمقدار، واما القصة فكانت اكثر انطلاقا عنده واكثر تمشيا مع تطور الحياة، واصطبغ ادبه بناء على تلك الدواعي ومقتضيات البيئة بدون يقرب من اللون الانساني العام فلم يخل الكثير من قصصه من لون المحبة والمروءة والرحمة مسبوكاً سبكاً لطيفاً بعيداً عن التعقيد، وحين تمكن من الانكليزية والفرنسية زادت اللغات قابليته القصصية امعاناً في تلك الاتجاهات التي ورثها من بيئة الحلة فكانت معظم قصصه المختارة للترجمة عن تلك اللغات هي الاخرى ذات طابع انساني روحي.
وهنالك عوامل اخرى عملت في صهر انور شاؤول قد فقد امه وهو طفل رضيع، وقد فعل ذلك في نفسه فعله حين بدأ يكتب القصص، وحين بدأ يفرض الشعر، وكان منه ان قال يخاطب امه في احدى قصائده:
اماه عيني بك ما متعت
ولم يجز منك فمي قبلة
وعيشتي بعدك ما اينعت
والقلب يا أم شكا علة
فان جفوني من جوى ادمعت
ليلا وروحي اطلقت انّة
فمن ترى يا ام لي يسمع؟


طفولته.. قصة
وليس هذا وحده الذي ساعد على صهر انور شاؤول على تلك الطريقة وصبغ قصصه بذلك اللون وانما مرارات اخرى لم تخل من تأثير كبير على نفس هذا الاديب فقد فقال لي فيما قال:
«وكانت طفولتي نفسها قصة.. وعندما اصبحت في الخامسة من سني تزوج ابي من سيدة شرسة لم تحمل لي ولا لاي من اشقائي الثلاثة او شقيقتي اي عطف فكانت تضطهدنا جميعا وقد هربت من البيت مرة لاشكوها الى ابي وحدث وانا اركض على الدرب ان سقطت في طريق قطيع نافر من الجاموس كاد يدعني لو لم يبادر بعض المارة لانتشالي وانقاذي باعجوبة وقد حملت هذه الحادثة ابي على طلاق تلك المرأة».

سعادة وبؤس
ثم قال لي في موطن آخر:
«لقد رأيت الواناً من السعادة والواناً من البؤس فانا اتذكر ثراه ابي وهو يتاجر بالحبوب في لواء من اكثر الوية العراق رخاء، واتذكر فقرنا اثر انتقالنا الى بغداد وخسائر والدي المتلاحقة في التزامات الاعشار الحكومية، اتذكر شقيقي الاكبر يتلو عليّ قصص والشعر ويلقنني الكتابة ويحدب عليّ، واتذكره قبيل نهاية الحرب العالمية الاولى وهو يساق على رغم مرضه العضال من الحلة الى بغداد في عربة مكشوفة اكتظت بعدد كبير من الحليين مما اورثه ازمة حادة في مرضه الصدري الذي اودى بحياته.

يحب النكتة
هذه المرارات بالاضافة الى المحيط الذي ترعرع فيه انور شاؤول قد وجهت ادبه القصصي هذا التوجيه المطبوع بطابع انساني رقيق وكان من الطبيعي لمن ينشأ مثل هذه النشاة ان يشب حزينا كئيباً بعيدا عن المرح وتفتح النفس ولكن انور شاؤول نشأ ضحوكا يطلق الضحكة ملء الصدر، وملء الفم، وملء الفضاء، وهو يحب النكتة ويبحث عن مواطنها، والسبب في ذلك هو الآخر عائد الى محيط الحلة الضحوك الذي لم تخل ملاعبا الصبيان فيه، ولا مراتع الشباب، ولا ملاذ الشيوخ، من الطرائف والنكت والتنادر على الطريقة التي المعنا اليها بايجاز في وصف محيط الحلة قبيل قيام الحرب العظمى الاولى فاذا ما وجد الهم طريقه الى النفس هناك وعشش فيها فلن يستطيع ان يحتل كل زوايا النفس مثلما يحتلها في المحيط الذي يخلو من هذا اللون من التندر والتبسط والانشراح الروحي ويظهر ان انور شاؤول قد سد النقص الذي احدثه الهم في نفسه بشيء غير قليل من المرح الذي عرف به مسقط رأسه فكان صورة من صور محيطه وبيئته واسلوب نشأته والا فاين اليهودي – لولا البيئة والمحيط – من الشعر والادب واللذائذ الروحية؟

يلعبون لبيدة
يروي رجل – وقد يروي ذلك على سبيل النكتة وليس على سبيل الواقع – انه كان ماراً ذات ليلة في احد ازقة الحلة قاصداً زيارة صديق فاذا بعدد من الرجال المتفاوتي السن وبينهم شيخان كبيران قد اشتعل رأس احدهما شيبا بينما كان الثاني اقل قليلا منه في بياض لحيته، وقد تقدما الجمع في عدوهما بمسافة ثلاثة امتار او اكثر، قال الرجل – فخلت ان هناك امراً قد وقع، ولكن لم كل هؤلاء حاسرو الرؤوس؟ ولم يجري هذا الركض بدون استغاثة او ولولة؟ وحين بلغت ديوان الصديق المقصود وقصصت على الجمع ما رأيت صحكوا وقالوا انهم كانوا (يلعبون لبيدة) بدون اي شك.
قلت.. والشيوخ الشيبة الذين رأيت؟
قالوا – وما الضائر ان يلعب الشيوخ؟ اترى انهم لم يجبلوا من طينة بني آدم؟
ويعتبر انور شاؤول من اوائل ممارسي ادب القصة الحديثة وعلى انه كتب اول قصة سنة 1927 ولكنه كان من المبشرين بادب القصة ومن الداعين الى قراءتها وتفهمها والمشجعين على كتابتها فقد زاول انور شاؤول مهمة التدريس في المدارس الاسرائيلية ببغداد فكان من المعلمين الناجحين كما زاول الصحافة واصدر مجلة «الحاصد» فملأها ادباً ومن طريق الحاصد عرف القراء الشيء الكثير عن مزية القصة الحديثة واهميتها في عالم الادب كما عرف القراء عن طريق الحاصد – عدداً من ادباء اليهود العراقيين الذين لم يكونوا معروفين بهذه السعة من المعرفة قبل قيام الحاصد.
وتم «للحاصد» او الصحيح ثم لانور شاؤول ان يخدم ادب القصة بما ترجم، وما وضع من قصص استوعبت الشروط الفنية للقصة المقروءة فاذا كانت كلاسيكيته قد اكتسبها من قصص الاغاني ومقامات الحريري وبديع الزمان وجرجي زيدان ومعروف الارناؤوط وذلك بحكم البيئة الكلاسيكية فقد تأثر لحد كبير بقراءته لويلز ديكنز، وزولا، وموباسانن وادكار الن بو، وكوركي، وتشيكوف كما يقول هو، فكان للفن طابعه في قصص انور منذ اول ظهورها، وحين اتيح له ان ينهي دراسة الحقوق اصاب سهماً ىخر من الثقافة، وقد اسهم في كثير من الاعداد القصصية التي كانت تخرجها جريدة – الهاتف – في رأس كل سنة، وليس من الممكن للمؤرخ اليوم ان يتناول تاريخ القصة العراقية الحديثة دون ان يمر على انور شاؤول وقد يطيل الوقوف عنده.

مؤلفاته وقصصه
لانور شاؤول من الاثار الادبية المطبوعة مجموعة قصص تحتوي على احدى وثلاثين قصة باسم – الحصاد الاول – ثم مجموعة قصصية حديثة صدرت له اخيراً باسم «في زحام المدينة»، وديوان شعر باسم – همسات الزمن – اما اثاره القلمية المترجمة فهي «قصص من الغرب» وهي مجموعة قصص نموذجية من الادب الانكليزي والفرنسي والروسي وقد ترجمها عن اللغتين الانكليزية والفرنسية ثم مسرحية باسم (وليم تل او في سبيل الحرية) و «اربع قصص صحية» وهي تدور حول مشاكل صحية كثيراً ما يتعرض لها الناس في حياتهم.
والقصة التالية قصرة مختارة من مجموعة قصصه الحديثة تثبتها على سبيل النموذج لادبه القصصي.


عن (القصة العراقية قديما وحديثا)