جيفارا رجل عادي لكنه مجنون بالثورة والحب

جيفارا رجل عادي لكنه مجنون بالثورة والحب

عرض منارات
لو كان السؤال عن اهم ما في كتاب "أحلامي لا تعرف حدودا" للمؤلفين "هـ.أ.غروس" و"ك.ب.فولف" لكانت الإجابة على الفور: معرفة كيف تحول صبي يلقبه ذووه بـ"تي تي" الى رمز للثورة ومجابهة الطغيان في العالم. بل إن ذكر اسم جيفارا، مجردا، يوفر، حتى اليوم، شحنة عاطفية هائلة من الحماسة والاغتراب في آن واحد.

هذه سيرة ذاتية اخرى عن أرنست تشي جيفارا، وبرغم انتقالها بين محطات تاريخية من عمر الثائر الارجنتيني – الحالم أول الأمر بوحدة لاتينية – فأن المؤلفين حاولا، كثيرا إظهار قاسم يجمع تلك السنوات المتتابعة، انه ذلك السخط، الذي لم يعرف الخذلان، على ظواهر الظلم في العالم.
هكذا يدخل غروس وفولف مباشرة في ثيمة عملهما المتقن عن سيرة جيفارا، ولا يخرجان عنها مع انتقال الرواية بين عوالم سرد مختلفة تارة، وجعلا جيفارا يبدو في أحايين غير قليلة رجلا متناقضا، بل لنقل رجلا عاديا، لكنه يحلم بالتغيير.
يتخرج جيفارا في كلية الطب في بوينس آيريس ويجد نفسه، بعد ان انهى الامتحانات النهائية، طبيبا. وفكر في ان يبدأ بصياغة دوره في هذا العالم، لكنه بحاجة الى دافع، بل الى حافز..
في حانة ما "يلتصق جيفارا بصديقه كاليكا" وهناك يقترفان المتعة مع شرب النبيذ، وكان الامر مسليا بالنسبة لارنست سوى انه اكتشف، لاحقا، افتراقه، فكريا، عن شريكه الجديد.
دور كاليكا في مطلع الرواية مهم للغاية، فهو نقيض ارنستو، ما يعني ان الحوارات التي ستجمعهما مليئة بالاستفزاز، على الاقل من ناحية ارنستو:"اتعرف يا ارنستو.. اول عمل ساقوم به هو تجميع الثورة .. البناء في فنزويلا يفوق الوصف، الناطحات تحيط بكاراكاس، سنبني حتى لو انتهت الارض، سنهدم تلك البيوت الحقيرة".
كاليكا مهندس يحلم بالتحول الى شخص ثري يجمع الاموال راكبا ثورة البناء في بعض المدن اللاتينية، لكن ارنستو يرى غير ذلك ويلمح الى شخص يحلم بثورة من نوع اخر:"ما عسانا نفعل بأولئك الذين يعيشون في هذه البيوت الصغيرة؟ أيذهبون معكم لبناء هذه الناطحات؟ وهل سيعيشون فيها أيضا؟".
صورة جيفارا
يبدو هذا الكتاب فرصة ذهبية لاضفاء تواصل فريد مع جيفارا، وهنا لابد من القاء عين لامة على طبيعة التأثر بشخصيته، إذ لم تكن سيرته سوى محض مقولات ثورية مشحونة بالحماسة يجري بذلها في أفاق تعبوية في مراحل تاريخية معينة، لم يكن هذا التواصل مقرونا بضوء وفير على حياة هذا الرجل، لطالما كان جيفارا، بالنسبة لاجيال نشأت في فترات لاحقة من اعدامه مجرد صورة شهيرة تزين قمصان الفتيان. الامر بهذا القدر، او ربما أقل، كان على هذه الشاكلة التواصل المعاصر مع جيفارا.. وهذا تحريض علني للاتيان بما سطره غروس وفولف في كتابهما الذي نشرته دار الفارابي ونقله الى العربية نبيل الخطيب.
بيد ان هذا الكتاب يتميز من ناحية اخرى بكونه يوفر مجموعة من الصور عن "تشي"؛ المؤلفان تعمدا الخروج عن اطارين بذلا في شان حياة جيفارا، مرة يظهر قائدا ثوريا ورجل دولة، ومرة يظهر على انه راديكالي متهور، هذا الكتاب يجمع الصور جميعها ويترك لنا تجميع حياة جيفارا في انسان، هذه الطريقة تبدو أقرب الى الواقع، فكل منا فرد بمجموعة صور وانطباعات.
وكانت صورة تشي تتغير من عقلاني فوق العادة، متناقض، ثوري حالم بنصرة المزارعين الفقراء، مجرد مراهق فضولي يعيش حالة اغتراب عارمة.
ويواجه هذا الكتاب سيلا من الشهادات والمذكرات والأساطير، والأحداث الميدانية والتاريخية المتعلقة بأرنست، وهو يقدم الأسئلة عن سر اختيار إرنستو جيفارا لهذا الخط في الحياة، وسر اختياره لهذا المصير.
أتذكرون مقولة جيفارا الشهيرة:"أنني احس على وجهي بألم كل صفعة توجه الى مظلوم في هذه الدنيا". بالنسبة لهذا العرض – التعليق فانه لم يتمكن من تجاوز وصف المؤلفين لبواكير صباأرنست، من دون ان يعود أليها، من دون ان يربطها ويتخيل التنشئة الاولية لهذا الرجل.
غروس وفولف يعودان بنا الى الوراء"كان ارنست يلاعب اخاه الصغير روبرتو، والملل باد على وجهه". يفصح لاخيه عن عدم رغبته في اللعب اكثر ويقترح عليه الذهاب الى منزل الجيران، حيث العادة ان يعقد اجتماع للسكان هناك.
" كانت الاصوات التي تخرج من المنزل لا تدل على جو مرح وضحك"، جيفارا في تلك الفترة لم يكن قد تجاوز السنوات الخمس وكانت تشده قضايا تؤشر الاحتجاج والرفض، وكان السكان يناقشون زيادة أسعار الكهرباء، وقرروا تحطيم أعمدة الإنارة في المدينة كي تضطر شركات الكهرباء الى اصلاحها ودفع الغرامة المالية، في تلك الاثناء كان جيفارا يستمع الى تلك النقاشات الحامية وهو يتمدد تحت أريكة والده. في هذا المفصل من الكتاب يحسن غروس وفولف اظهار شغف أرنست بمعرفة قضايا الافراد.

دونكيشوت
لم يكن جيفارا فضوليا ايجابيا وحسب، كان مهووسا بالمعرفة، التوق الى عبور حدود المجتمع الصغير نحو عوالم اخرى، لم يكن يعرفها.
لقد مل من لعبة "رنين الزجاج المحطم" وانتقل الى ممارسة هواية جديدة. اخذ أرنستو يقرأ كتابا ضخما من مكتبة والده وكان عن دونكيشوت.
وكانت رغبة غروس وفولف واضحة في اظهار هذا الفضول:" جيفارا متعلق بالثقافات القديمة اكثر من أي وقت اخر (الزمان: عقب تخرجه في كلية الطب) إذ انه يرى في دراستها امكانية التعرف على امريكا اللاتينية وتاريخها، كان يرغب في فعل ذلك وكانه في تنافس مطرز بالاحتجاج، اذ يقول لصديقه كاليكا:" علينا فعل ذلك.. ما رأيك بالسفر، لنقم بذلك معا".
وكان هذا ما حدث فعلا لجيفارا الذي جاب امريكا اللاتينية بدراجة نارية، وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أميركا الجنوبية وبالظلم الكبير الواقع على المزارع اللاتيني.

جيفارا يكره الطائرات
يبدو مثيرا للاهتمام ما تناوله غروس وفولف في اعدادهما لقصة سفر جيفارا فقد استهلا هذه الرحلة بإظهار لطف جيفارا الذي لا يخلو، أيضا، من الاحتجاج، فارنست يرفض السفر بالطائرة، ويضع هذا الرفض كشرط لشراكة الرحلة مع الصديق كاليكا، يقول ارنست:"عندما عدت من الولايات المتحدة الى هنا (بوينس ايرس) اخذت الطائرة تدور كعقارب الساعة، ولكثرة التحليقات الدائرية التي قامت بها فوق الدرج، هرعت سيارات الاسعاف والاطفاء، تخيل حالتي حينها.
وبقدر ما يتعلق الامر ببساطة أرنست وحكاياته الشخصية، فانها لا تخلو من روحه الثائرة:"أسوأ ما في الامر ان الواحد منا كان عبدا للظروف، لا يستطيع القيام بأي شيء".

مغامرة تشي الأولى
في الطريق من بوليفيا الى الاكوادور، تعرف جيفارا على نفسه كثيرا، واكتشف طموحه في عبور اطاره المحلي، في قرية صغيرة على الحدود اضطر تشي واصدقاؤه الى المكوث فيها لحين تسهيل امر خروجهم من البلاد لاكمال الرحلة، وفي مطعم صغير قرروا الاستراحة حتى الصباح. وكانوا ينتظرون المساعدة من احد المحامين، انهم بحاجة الى المال ليكملوا رحلتهم، وقد استثمر تشي إن احد شركاء رحلته يملك رسالة سلفادور الليندي، وهو قائد اشتراكي تشيلي، الى المحامي اياه.
تحقق المراد، وخرج الجميع، رفقة أرنست، من مكتب المحامي وهم يطيرون من الفرح، اخذوا يرقصون حتى صاح أرنست:"كل شيء على ما يرام .. ست تذاكر مدفوعة الثمن إلى سفينة الموز – وهنا يقصد الإكوادور – أريد كأسا من النبيذ حالا، أريده مثلجا كالجليد.
أفصح أرنست عن رغبته في السفر إلى غواتيمالا للقاء صديقه غرانادوس، هناك يريد ان يصبح طبيبا، غير ان كاليكا ذكره بما يجري تحت سلطة اليانكي الذي بدأ، في وقتها، بفقدان سلطته، فيما تتهيأ الأمور لثورة حقيقية.
في هذا المقطع من الرواية يجيد غروس وفولف إظهار الروح المراهقة الحقيقية لتشي، لكنها تميل الى الثورة بكثير من الحماس.
كاليكا وبحديثه عن الثورة، وهو الرجل الطامح الى المال بميول رأسمالية أحرج تشي، لكن هذا الأخير يعود الى أحلامه:" أرجو الانتباه.. التهرب من رؤية الثورة الحقيقية شيء مخجل. وعلى صديقي غرانادوس ان ينتظر، فالى غواتيمالا".

جيفارا مترجماً
من المثير ان نعرف ان الثائر الذي "داخت" من جولاته أحراش العالم، له فضائل ابداعية أخرى، انه مترجم وشاعر وكاتب مقالات سياسية. هذه المرة يهم بترجمة كتاب عن الماركسية الى الإسبانية:" ماذا تفعل يا جيفارا؟" تسأله "إلدا" الباحثة في معهد اقتصادي بغواتيمالا. "اترجم كتابا عن الماركسية للغة الاسبناية".
وكان ارنست قبل ذلك يقرأ بطريقة حماسية؛ شفتاه تتحركان وكأنه يتحدث مع نفسه، ومن حين لآخر يلقي بالكتاب جانبا ويسجل ما قرأه مترجما.
وهنا يفتح غروس وفولف الباب واسعا امام اظهار عقيدة تشي:" مؤلف هذا الكتاب أثارت الرأسمالية غضبه، وهو يريد ان تكون الدنيا مختلفة تماما عما هي في بلاد اليانكي، وهذا ما شدني اليه".

جيفارا المريض
هذه الرواية أخرجت تاريخ جيفارا من القالب التقليدي، الذي لطالما بذل من اجل اقنية تعبوية، من دون ان يفسح المجال لتلمس شخصية جيفارا.
ففي الطريق من المكسيك الى كوبا، وكان عدد من المقاتلين يقودهم فيدل كاسترو صحبة ارنست يتجهون الى الدولة الثائرة على متن سفينة، وكانوا يخططون لتهريب السلاح.
لكن أرنست يلوم نفسه على مرض الربو الذي صاحبه منذ الطفولة:"بالقرب من الحمام راودته فكرة الاغتسال، كان متسخا بعد سفر طويل، لكن النوبة لازمته حينها وبدا صوت الاستفراغ يوقظ المقاتلين النائمين، شعر أرنست بالغضب وبدأ يلوم نفسه". حتى ان فيدل حين اراد ان يتلو بيانا عن الثورة في كوبا لم يتمكن تشي من إكماله للسبب نفسه.

النهاية المثيرة
تنتهي الرواية بشكل غاية في الروعة، على الصعيد الفني، أذ يستدرجك من دون لبس او تلاعب في الشكل الفني للسرد، الموضوع جد واضح منذ فقدانه السلاح بمعركة في بوليفيا. كان كل شيء يستدرجك منذ دخول تشي غرفة الأسر في مدرسة بمقاطعة بوليفية حيث دارت قبل ذلك بساعات معارك طاحنة بين الثوار والجيش, وكان جيفارا يتحاور مع عناصر المخابرات الأمريكية في غرفة الاعتقال، بلهجة فيها الكثير من الكبرياء، ورغبة عارمة في التحدث معهم عن "الإمبريالية الأمريكية" وحقيقة اهداف الثوار، كان يرغب، بينما يتلقى لكمات عنيفة من الجنود، ان يتحدث معهم عن محو الامية والاصلاح الزراعي وهموم الفقراء. لكنه شعر بفشل مثل هذه المحاولات فتحول الحوار الى سؤال تهكمي وجواب مزدر. ظل أرنست يطاول في شكيمته حتى دخل احد الكوبيين المهاجرين وكان ثملا ليمطر بطنه بوابل من الرصاص، لم يمت، لكنه نزف وشعر بالإعياء، فهدأ الالم، سوى ان نوبة الربو عادت إليه وأفاقت كل الجروح، عاد الثمل الخائف الى الغرفة، ووضع الفوهة في صدغه، أفرغ الحمولة فمات جيفارا.
أتذكر هنا مقولة شهيرة اخرى لتشي:"فعلاً، أنا مغامر، لكن من طراز مختلف عن المغامرين الساعين وراء نزوات فردية عابرة، إذ إنّني أضحّي بكلِّ شيء من أجل الثورة والنضال المستمرّ".تفسر كلمات تشي تطور وعيه منذ صباه حتى يوم مقتله بطريقة دراماتيكية مثيرة. وبرغم ان الكتاب فلت من اللغة التعبوية، وحاول ان يظهر ان لتشي سمات اعتيادية فهو ايضا رجل بعيوب، لكن هذا العمل لم يستطع إغفال حقيقته القوية، رحيل جيفارا، وهو ذات الامر الذي انتهت اليه الرواية، شكل بداية مثيرة لأحلام أجيال عديدة، كما كان هو أيام نضاله. هذا الكتاب، نجح في ايصال فكرة الاحلام التي لاتموت، برغم تلك الميتة المؤلمة التي عاشها تشي.