جسور بغداد .. قديماً وحديثاً ..

جسور بغداد .. قديماً وحديثاً ..

صفاء الحيدري
الحديث كثير في التاريخ عن مدى الرقي العمراني والتوسع الحضاري اللذين بلغهما بغداد ايام العباسيين، اما قبل ذلك فان المظنون ان مدينة بغداد كانت مجرد قرية من القرى القديمة، احدثت قبل الاسلام، تقع حيث تقع الصالحية الآن، وتحيط بها البساتين والمزارع التي كانت تستقي من ماء الفرات. وقد تطاحنت عليها مختلف الاجناس وانصهرت فيها مختلف التيارات – دينية وفكرية وعقائدية وحضارية – فجعلت لها شأناً واي شأن في تاريخ العالم.

وبقدر ما تسرف هذه المصادر في التحدث عن قيمة بغداد التاريخية، تشح في ذكر التفاصيل التي نحن بصددها الان، ونقصد الوسائل التي كان يتم بواسطتها اتصال الناس عبر نهر دجلة. فالمعروف بصورة قاطعة ان مدينة بغداد في كل مراحلها التاريخية كانت تمتد شرقي دجلة وغربيها. وان معظم الحكام الساسانيين والمماليك السلجوقيين كانوا يبنون قصورهم على ضفتيها وان المزارع والبساتين والقرى كانت تمتد الى ما وراء هذه القصور مسافات شاسعة، وان الناس بين الضفتين كانوا يتزاورون لاسباب شخصية او معيشية، فكيف كان يتم هذا الاتصالا؟ ابواسطة القوارب والطوافات ، ام بواسطة اخرى ، كالجسور مثلا؟
مما لاريب فيه، ان الزوارق والعوامات وغيرها وسائط لا غنى عنها للناس. ولكنها ليست ذات مفعول كالجسور. وقد ذكرت المصادر ان اول جسر عقد ببغداد قبل العباسيين كان جسرا ساسانياً انشئت قاعدته امام دار الحاكم الساساني نيسابور (وهي الدار التي عرفت ايام العباسيين بالقصر العباسي وتقع مكان المدرسة الثانوية بالكرخ الان) وقد كان او قائد عربي عبر عليه ودمر الفرس هو "النسين بن ديسم" احد قادة خالد بن الوليد عام 12 هـ 633م. وقد استفاد العباسيون من كرسي هذا الجسر الشرقية والغربية فعقدوا عليه عام 383هـ (693م) جسرا هو الذي نزل عنده فيما بعد الرحالة الشهير ابن جبير سنة 580 هـ (1184م) وتعددت الروايات بعد ذلك عن جسور بغداد. فمن قائل ان عددها ثلاثة، ومن قائل انها خمسة، ومن ذاكر ان من هذه الجسور ما كان للرجال. ومنها مما كان مخصصا للحريم وهذا شيء جديد في التاريخ اذ لم يسبق ان عقدت جسور خاصة بالنساء في الدولة العباسي. وقد جاء في كتاب "مناقب بغداد" لابن الفرج الجوزي (المتوفي سنة 597 هـ) ان اول من عقد الجسور ببغداد كان المنصور. فانه لما بنى قصره الخلد في سنة 59 هـ عقد الجسر عند باب الشعير وروى انه عقد ثلاثة جسور احدها للنساء ثم عقد لنفسه وحشمه جسرين بباب البستان وعقد الرشيد بعده عند باب الشماسية جسرين آخرين فلما قتل الامين عطلا وبقي منها ثلاثة، ثم عطل واحد آخر.
وروى ان ابا علي بن شاذان قال – انه ادرك بغداد وفيها ثلاثة جسور الاول يحاذي سوق الثلاثاء والثاني بباب الطاق والثالث عند الدار العزبة، وقيل ان الذي كان عند الدار الغزبة نقل الى باب الطاق. فصار هناك جسران يمضي الناس على احدهما ويرجعون على الآخر.
ثم لم يبق غير جسر واحد عقد عند مشرعة الروايا من الجانب الغرب ولم ير في زمان الخليفة المسترشد ومن بعده من الحلفاء غير جسر واحد كان عند نهر عيسى ثم نقل الى باب القرية ثم عملت المرأة الملقبة "بنفشة" جسرا جديدا جعلته مكان هذا الجسر العتيق ورد ذلك الى مكانه من نهر عيسى وذلك في زمن الخليفة المستضيء بامر الله. فصار للناس جسران.. والذي يتضح من هذه السطور ان بناء الجسور لم يقتصر على الخلفاء.
وانما تعداه الى الاشخاص بل والنساء. ولكن ما جاء في المنتظم لابن الجوزي (570 هـ) يفسر ان بناء بنقشة للجسر كان نتيجة أمر من المستضيء بامر الله ومما رواه معظم المؤرخين ان بغداد فيها دائما جسران على الاقل وان بلغ عدد هذه الجسور في عصر الخليفة هارون الرشيد الذهبي الى خمسة.
وان هذه الجسور كانت توضع دائما تحت امرة موكلين كالجسور الذي عمله عضد الدولة ونصب السيد محمد بن الحسن الاسعد السامرائي متوليا عليه. وان منها ما كان له ايضا صاحب كأسحاق بن ابراهيم صاحب الجسر في شارع الحدادين وان قسما من هذه الجسور تعرض للحرق. كما حدث عام 308 هـ حيث شجع غلاء المعيشة على خروج الناس وحرق مجالس الشرط والجسور وان منها ما حمله التيار بكليته وقذفه بعيدا هو ومن عليه كما حدث عام 430 هـ حيث ارتفع دجلة 10 ذراعا بين يوم وليلة وقذف بالجسر ومن كان عليه.
وقد جاء في صبح الاعشى للقلقشندي ان بين الجانبين على دجلة جسرين منصوبان شرقا بغرب على سفن وزوارق اوقفت في اماء ومدت بينها السلاسل الحديد المكعبة الثقال وفوقها الخشب الممدود وعليها التراب وتقوم على ضفتي دجلة قصور الخلافة. فلا عجب اذن في ان يحمل التيار هذا الجسر ومن عليه كما حدث عام 316 هـ اذ زادت دجلة زيادة مفرطة قطعت الجسور ببغداد وغرق من الجسارين جماعة. فقد كانت جسورا لا تتحمل قوة التيار الا الى حد معين.
ويقول الرواة ان الجسور كانت مواضع للنزهة بالاضافة الى كونها وسائل للعبور فقد كانت الناس تجتمع لديها بعد العصر من كل يوم وفي الايام المقمرة ليلا على الاخص على اعتبارها متنزهات وقد جاء في رحلة ابن بطوطة انه كان ببغداد جسران اثنان معقودان والناس يعبرونهما ليلا ونهاراً رجالا مع نساء فهم من ذلك في نزهة متصلة، وقد كان ابن بطوطة قد زار بغداد عام 727 هـ (1326م) ثم عاد اليها سنة 748هـ (1347م).
اما جسور بغداد اثناء العهد العثماني فكانت جسرا في الاعظمية يسمى جسرا الاعظمية والجسر القديم قرب سوق السراء.
كلاهما مصنوعاً من الواح الخشب المحدود الى شعائن خشبية مربوطة بالسلاسل وقد مد على الضفتين تحتها مجال للمقاهي وبائعي السكاير والمأكولات لنزهة الناس. وكان الناس يقصدونها مساء وكلما انقطع الجسر واعيد اتصاله احتفلوا بذلك احتفالا كبيرا فخرجت الزفة بالطبول والمزامير والراقصين وخلفهم الاطفال وكلما سمع القوم في بيوتهم صوت الطبول في غير ايام رمضان عرفوا ان هناك احتفالا بمد الجسر. وقد احرق العثمانيون هذا الجسر عندما انسحبوا من بغداد وظل يشتعل طيلة النهار.

وعندما دخل الانكليز بغداد انشأ جسرا مكان هذا الجسر وجسرا آخر سموه "جسر مود" كذكرى للقائد الانكليزي الذي فتح بغداد، واتخذوا عوامات حديدية له بدلا من الخشب ثم سكبوا عليها القير وبلطوها وكذلك فعلوا جسر الاعظمية. كما مدوا جسرا آخر اثناء الحرب العالمية الثانية في الزوية من الكرادة الشرقية يربطها بالوشاش لتسهيل انتقال الجيوش. وبانشاء الحكومة 1937 -1938 م جسريها الحديدين جسر المأمون وجسر الملك فيصل الثاني الذين كلفا (720) الف دينار نقل جسر مود الى جوار عمارة فندق سميراميس ثم لم يلبث ان نقل الى سامراء. وبذلك اصبح عدد جسور بغداد اربعة. اثنان منها متحركان والاخران ثابتان، ثم لم يلبث الانكليز ان رفعوا جسرهم من الكرادة بانتهاء الحرب العالمية الثانية فبقيت ثلاثة جسور في بغداد فانشأت الحكومة العراقية عام 1949 جسرا حديديا لوسائط النقل والقطار في العيواضية قرب البلاط الملكي كما بوشر بعد انشاء مجلس الاعمار ببناء جسرين ثابتين آخرين يستغرق احدهما وهو الذي بالباب الشرقي زهاء (32 شهرا) . وسينتهي اول العام القادم.
ويستغرق الثاني وهو جسر الاعظمية (38 شهرا) وسينتهي في نهاية هذا العام. وقد كلف انشاؤهما مليونين وربع مليون دينار وبذلك سيكون عدد الجسور في بغداد خمسة كلها ثابتة عدا جسر الاعظمية العائم الذي سينقل الى جهة اخرى للاستفادة منه في مكان آخر.
اما الجسران الجديدان فسيكونان اعرض من الجسور السابقة واجمل واحدث تخطيطا منها. وبذلك يتحقق لبغداد قسم آخر من الخطة التي ستجعل منها عاصمة عصرية تليق بدولة حديثة تواكب سير الحضارة في القرن العشرين.
عن مجلة اهل النفط
آب 1955 - العدد 49