جذور السنديانة الحمراء في كتاب محمد دكروب

جذور السنديانة الحمراء في كتاب محمد دكروب

قبل عشر سنوات من كتابة حسين مروة لتلك القراءة في الطبعة الثانية من كتاب "جذور السنديانة الحمراء"، كان قد كتب مقالا عن الكتاب نفسه في طبعته الاولى، عام 1974، يحمل في كلماته وهج الاحتفالات الحماسية في الذكرى الخمسين لنشوء الحزب الشيوعي اللبناني..

وقد رأينا الحاق هذا المقال القديم، بتلك القراءة الجديدة، الامر الذي نعتقد انه يساعد الباحث في المقارنة بين قراءتين اثنتين قام بهما الكاتب نفسه في الكتاب نفسه، تفصل بين الاولى والثانية فترة عشر سنوات.
(الطريق)
قد تكون المسافة الزمنية بيننا الآن وبين احتفالات العيد الخمسين لحزبنا الشيوعي اللبناني، قصيرة لا تزال.. ولكنها كافية ان تضعنا امام مسافة غير قصيرة للرؤية والاستيعاب، اي رؤية هذه التجربة التاريخية البكر عندنا واستيعابها.. فنحن، بعد شهر زمني، نجد هذه المسافة تتجاوز مقاييسها الحسابية المحدودة الى مقاييس كيانية، فكرية ووجدانية معاً، غير محدودة.. إن التجربة تتحول فينا الآن من معانقة الفرح يتأجج في دمنا لهب حماسة عارمة، إلى معانقة الفرح يتوهج في كياننا الفكري والوجداني رؤية هادئة مبصرة واستيعابا كليا شاملا.. بفعل هذا التحول الكياني، نمك الآن وسائل العودة إلى تجربتنا تلك بنظرة قادرة على الذهاب الى مختلف ابعادها، الى مختلف منجزاتها، دون ان نخشى سيطرة الفرح الحماسي على هذه النظرة.
منجزات الايام الاحتفالية، في عيدنا الخمسين، جمعت الى كثافتها الكمية وتنوع هذه الكثافة ذاتها، سمات نوعية لا تبعد عن الواقع إذا قلنا إنها تحتوي في أبعادها سمات ثورية.. كان يمكن أن تكون هذه المنجزات أجود تقنية واتقاناً.. هذا صحيح، غير أنها التجربة الأولى، فهي إذن – بهذا المقياس – انجاز ابداعي ثوري..
إن الرؤية المبصرة والاستيعاب الشامل لهذه التجربة، يقضيان – حتماً – ان تكتشف الأرض والجذور لكل من المنجزات التي اعطتها التجربة.. لم تولد هذه المنجزات في الهواء، في الفراغ، في الجدب.. لم ترتجلها ايامنا الاحتفالية ارتجالاً من "هنيهة" الحاضر، منقطعا عن "استمرارية" الماضي، اي عن المسيرة الطويلة الذاهبة من الاعماق الى الاعالي، دفعات دفعات، حتى هذه الايام الاحتفالية ذاتها، حتى هذه الذروة في الحاضر المشرئب الى ذرى الاتي.. ان كفاح حزبنا وكفاح شعبنا طوال عقود من الزمن على طريق التحرر من الواقع السياسي والواقع الاجتماعي والثقافي والايديولوجي، في مختلف مراحل هذا الواقع وذاك، هما الارض التي ولدت ونمت ونضجت فيها هذه الظاهرات المعبرة عن ذاتها في ما سميناه "منجزات" ابرزتها التجربة الباهرة في العيد الخمسين لحزبنا، وهو في حقيقته – عيد لمرحلة متقدمة من مراحل الكفاح الوطني والاجتماعي لجماهير شعبنا، جماهير عماله وفلاحيه وقواه الوطنية والديمقراطية والتقدمية ومثقفيه الوطنيين والثوريين والطليعيين.. إن السنوات الأخيرة، من نهاية الستينيات الى عامنا هذا في السبعينيات، كانت سنوات انضاج هائل ومذهل لنتاج كل الجذور الكفاحية الذاهبة في عمق هذه الارض وفي فضائها، على مدى اجيال متداخلة متفاعلة دون انقطاع.. الى هذه السنوات الاخيرة، بكل ما انجزته من متغيرات في طبيعة كفاحنا الشعبي والحزبي، ترجع الاصول المباشرة لنجاح التجربة الاحتفالية في عيد حزبنا الشيوعي اللبناني.
***
هذا التحليل الواقعي الحقيقي للتجربة، هو تعبير موجز مكثف ومجتزأ عما اراد ان يقوله رفيقنا العزيز محمد دكروب في كتابه "جذور السنديانة الحمراء".. كتابه هذا الذي قدمته لنا التجربة الاحتفالية نفسها كمنجز من اروع منجزاتها وامتع وابقى.. لقد جاء هذا الكتاب يشق زحمة الفرح الحماسي، خلال ايامنا الاحتفالية، لا ليثير فينا المزيد من فرح التجربة وحسب، بل – كذلك – ليكشف لنا عن تلك الجذور التي كانت هذه التجربة ثمرة شهية من ثمارها المتجددة ابداً على مدى الفصول والمواسم.. جاء هذا الكتاب إذن، خلال التجربة، ليقول لنا، ليؤكد لنا، ان لا شيء من منجزاتها ولد في الهواء، في الفراغ، في الجدب.. ان ليس من طبائع "الاشياء" ان تنطلق ظاهرة كهذه الظاهرة بقفزة ارتجالية لا قاعدة لها من أرض صلبة تكونت مادتها "تاريخا" مصهوراً في لهب المعارك، معجونا بالدم والعرق ولحم الاكتاف والسواعد، متوهجاً بحرارة الممارسة العملية للفكر النظري الثوري.. "تاريخا" بدأ منذ نصف قرن كجزء عضوي من "تاريخ" هذه الارض اللبنانية..
**
مهمة الكشف عن "جذور السنديانة الحمراء"، عن "حكاية نشوء الحزب الشيوعي اللبناني"، تبدو مهمة سهلة، لآن زمن هذه الجذور، هذه الحكاية، ليس بالزمن البعيد كثيرا عنا.. ان نرجع الى نصف قرن مضى، ايسر جدا على الباحث من ان يرجع الى قرون عدة بعيدة بحثا عن تراثنا الفكري مثلا.. هذا، بمقياس الزمن المجرد، صحيح. ولكن المسألة هنا تتجاوز هذا المقياس.. بعضنا يعرف، وكثيرون في هذا الجيل لا يعرفون العوامل الذاتية والموضوعية التي كان من شأنها ان تخفي الكثير من الحقائق عن نشأة هذه الجذور، هذه الحكاية، وعن كيفية مسيرتها وامتدادها في عروق هذه الارض، ارضنا اللبنانية، وفي شرايين الحياة العامة لشعبنا اللبناني.. تحت وطأة الظروف الذاتية والموضوعية وتراكمها، خلال المراحل الاولى من تاريخ حزبنا الشيوعي اللبناني، ومرحلة ما بين عامي 1924 – 1931 بالاخص، فقدت وثائق، وانطمست واقعات وحقائق، واطلق العنان لأوهام باطلة أثار غبارها المستعمرون والاعداء الطبقيون في الداخل حول نشأة الحزب واهدافه ونضالاته، حتى التبست الحقائق بالأوهام، بل ابتلعت الأوهام والاراجيف انصع الحقائق واكثرها نقاء واشراقا.
إذن، لم تكن المهمة التي تصدى لها رفيقنا محمد دكروب سهلة، كما تبدو لمن ينظر الى الزمن نظرة مجردة ومطلقة.. إنها مهمة عسيرة ليس يكفي للوفاء بمتطلباتها ان يمتلك احدنا بعض الطاقات المعينة، بل يقتضي ذلك ان تتناسق هذه الطاقات تناسقا صارما يستند الى ناظمين رئيسيين:
اولهما، حماسة ثورية تشحن قدراته كلها بالاندفاع الذاتي في البحث والتنقيب عن المصادر المكتوبة او المحفوظة في ذاكرات الذين شاركوا في احداث تلك المرحلة او شهدوها او كانت لهم صلة ما بأحد ينابيعها.. إن هذه الحماسة الثورية تمنح صاحبها لا قوة الجلد والمثابرة والاقتحام والمغامرة فحسب، بل تمنحه – الى ذلك – قوة الحدث الثوري في كشف هذه المصادر، والتفطن الى نوع الاشخاص والاماكن والوثائق والكتب والصحف وكل ما يشير اليه هذا الحدس النفاذ للتصيد منه مادة للبحث، مهما يكن شأن هذه المادة في إضاءة الطريق الى الهدف..
ثانيهما، قدرة على الاستفادة من كل ما تتكشف عنه المصادر المكتوبة والمحفوظة من نصوص او روايات او معالم، واضحة ام غامضة.. نعني بهذه القدرة ان تكون للباحث المنقب قاعدة نظرية ثورية يمتلك اداتها التحليلية امتلاكا داخليا كيانيا يجنيه مزالق الافتعال والاعتباطية، كيلا ينتهي الى استنتاجات تخرج على المنطق الداخلي لمسار الاحداث والواقعات، او لمؤشرات النصوص والروايات والاقوال.. ثم نعني بهذه القدرة ايضا ان تكون لهذا الباحث – مع ذلك – ملك التركيب بعد التحليل، اي تلك الطاقة الخلافة في التأليف بين المعطيات التحليلية تأليفا منطقيا جدليا حيا متحركا يتولد منه ذلك الايقاع المنسجم القادر على الغاء الفواصل بين التحليل والتركيب، حتى ينصهرا معا في عملية واحدة تؤدي مهمة الكشف عن "الجذور" في نسق واحد يمضي مع تلك الجذور في مسارها الواحد الى الصيرورة المتكاملة.
**
الكتاب الذي قدمته لنا أيام العيد الخمسين باسم "جذور السنديانة الحمراء – حكاية نشوء الحزب الشيوعي اللبناني 1924 -1931" (دار الفارابي، بيروت 1874) يؤكد: اولا، ان مؤلفه محمد دكروب يجمع، الى طاقاته الابداعية، تناسق هذه الطاقات على أساس من كلا الناظمين السابقين.. ويؤكد ثانيا، ان إقدام المؤلف على انجاز هذه المهمة العسيرة، في فترة زمنية قصيرة، هو بذاته اقتحام ثوري، مغامرة ثورية ما كان يمكن ان تنفتح لها آفاق النجاح المحقق فعلا لولا انها اعتمدت تلك الطاقات المنظمة وفقا لثوابتها الاساسية: الحماسة الثورية، الاندفاع الذاتي، الحدس الثوري، الاستشفاف النظري بادواته التحليلية والتركيبية المرهفة.. اقول: المرهفة، واعني قدرة المؤلف على نسج المنطق الجدلي لهذه الادوات داخل نسيج شاعري مفعم بحرارة الوجدان الشيوعي.. وليس الوجدان الشيوعي، بجوهره، سوى تعبير عن تحول الاقتناعات الفكرية والموقف الطبقي معا الى توهج كياني وجداني هو – بدوره – يتحول في العمل الفكري – كما في العمل الجسدي – الى دفقة شاعرية تفعل في الاخرين فعل الشعر الأرفع والاصدق.
**
يبقى، هنا، السؤال الأهم: ماذا كشف كتاب محمد دكروب من حقائق، وماذا بدد من اوهام واراجيف؟
ان انصع الحقائق واكثرها نقاء واشراقا، في نشأة الحزب الشيوعي اللبناني وفي مسار نموه وصيرورته المتكاملة المتصاعدة، كونه حزبا شيوعيا لبنانيا.. تلك هي الحقيقة الاصيلة الاولى التي جهد المستعمرون والاعداء الطبقيون الداخليون جهدا هائلا مسعورا، على مدى النصف قرن بكامله، لاخفاء وجهها الناصع تحت ركام من الاوهام والاضاليل.. إن كونه حزباً شيوعياً لبنانياً، بهذه الصيغة التكاملية، يعني انه نابع من صلب الطبقة العاملة اللبنانية في قلب الظروف الموضوعية التي آذنت ببدء تكونها كطبقة لذاتها، وانه موصول النسب بالتراث الكفاحي لجماهير الفلاحين اللبنانيين في مرحلة السيطرة الاقطاعية العثمانية والاقطاعية المحلية، وانه – إذ نشأ في عهد سيطرة الانتداب (الاستعمار) الفرنسي على لبنان – كان نشوؤه وضرورة تاريخية للدفاع عن مصالح الكادحين والنضال من أجل تحريرهم السياسي والاجتماعي"، وكانت هذه الضرورة مرتبطة بكونه الحزب الوحيد القادر "على بث الوعي الاشتراكي العلمي في صفوف الشغيلة وتنظيمهم وقيادتهم الى الاشتراكية.. ففي ضوء الماركسية – اللينينية، من حيث هي أداة تحليل وتفسير، بات بالامكان فهم الظاهرات والاحداث السياسية والاجتماعية، وردها الى الأسباب الحقيقية التي تولدها سيطرة الاستعمار والنظام الاستثماري القائم".. ثم أن كون الحزب حزبا شيوعيا لبنانيا بهذا المعنى الوطني والطبقي – وهو معناه الجوهري الجذري، نظريا وتاريخيا معا – مؤاده بالضرورة والواقع ارتباطه – في آن واحد – ارتباطا عضويا وموضوعيا، بقضايا التحرر القومي العربي وبحقيقته الاممية البروليتارية..
لنبانية الحزب الشيوعي، التي تعني تجذر اصوله ونشأته، وطنيا وطبقيا، بالارض اللبنانية، أي بالأرض العربية حكماً، هي الوجه الآخر لحقيقته الواحدة، أما الوجه الأول لهذه الحقيقة الواحدة فهو أمميته كحزب شيوعي، وانه لأمين كل الأمانة لوجهه الأممي هذا، بقدر امانته لوجهه اللبناني الأصيل.. لقد توجهت اراجيف الاستعماريين والأعداء الطبقيين في لبنان بالاخص – اكثر ما توجهت – الى الفصل بين وجهي هذه الحقيقة، بل الى طمس الوجه الآخر (اللبناني)، لخدمة تحالف الاقطاع السياسي – البرجوازي المسيطر في لبنان، ولخدمة مصالح التبعية، تبعية هذا التحالف للامبريالية العالمية (الاميركية منها الآن بخاصة)..
جاء كتاب محمد دكروب عملا تكامليا مع احتفالات العيد الخمسين، في سبيل تبديد تلك الاراجيف، واضاءة حقيقة الحزب بكلا وجهيها المتلازمين.. هذه الاحتفالات ، بكل طبيعتها وطابعها اللبنانيين، وبكل خلفياتها النضالية في الساحة اللبنانية خلال معارك الاستقلال الوطني والمعارك التالية لها منذ الاستقلال حتى الآن، وخلال السنوات الاخيرة بوجه خاص – هذه الاحتفالات انتزعت من أيدي كل الأعداء كل وسائل الايهام والتضليل حول الحقيقة الوضاءة لحزبنا الشيوعي اللبناني في حاضره.. أما كتاب "جذور السنديانة الحمراء" فقد اذاب كل الجليد المتراكم على تلك الجذور الأصيلة العريقة المنبت والنشاة في أرض لبنان، في تراثه الكفاحي: الفلاحي والثقافي، وفي طبقته العاملة وكادحيه المضطهدين والمستغلين كافة.. من هنا قلت إن هذا الكتاب الذي قدمته لنا احتفالات العيد الخمسين هو من اروع منجزاتها وامتع وابقى... كشف حقيقة الجذور "جذور السنديانة الحمراء" بضوء الحقائق التاريخية الدامغة، بشهادات الواقعات الحية القاطعة لكل لسان كذوب، بمنطق الحياة المتشيع دماً من دماء الشهداء وعرقا من عرق المناضلين ووعيا وطنيا ثوريا من وعي الشيوعيين اللبنانيين جيلا بعد جيل..
إن كتاب "جذور السنديانة الحمراء" لا يزيد – مع ذلك كله – عن كونه مفتاحاً الى التاريخ الكامل لحزبنا المجيد، واننا بانتظار اليوم الموعود لهذا التاريخ الكامل..
(جريدة "النداء" – تشرين الثاني ، 1974)