فوزي كريم: أنا ستيني .. لكنني أصغرهم عمرا

فوزي كريم: أنا ستيني .. لكنني أصغرهم عمرا

حوار/ إعتقال الطائي
لقد أسرع الزمن ولم نعد نقوى على اللحاق به، وكأننا بالأمس جلسنا معا في ستوديو التلفزيون نتحاور في موضوع فلم جيد. وبالرغم من ثقل السنين والغربة فها نحن اليوم نتحاور وكأننا نكمل ذاك اللقاء،. لكني اليوم أود من خلال هذا الحوار أن أقدمك لأبناء شعبنا بالدرجة الأولى كما أنت، ولنحاول بلغة بسيطة بالرغم

من عمق المعنى والمعرفة والخبرة أن نوصلها لهم. لن أخوض معك في حوار معقد من خلال ما كتب عنك وعن كتبك ودواوين شعرك، لأنني أفترض أن عددا كبيرا من الجيل الجديد الذي وُلد ونشأ بعد مغادرتنا العراق لم يطلع على أعمالك أو حتى لم يعرفك. لن أتحدث عنك كما اعتاد إعلاميو الوقت الحاضر عن ضيوفهم في مقدمة أنتَ في غنى عنها. ولأدع القراء يتعرفون عليك من خلال كل كلمة تقولها. لأبدأ إذن بما اعتدت سؤاله:
* في أي مدينة عراقية نشأت؟
* بغدادي النشأة. «الصاية» و»الچراوية» و «اليمني» عناصر ثابتة في زي أبي. ولكن محلتنا البغدادية كانت تستكين في طرف معزول نسبياً عن أحياء قلب بغداد التاريخية. «العباسية» جزء صغير من محلة «كرادة مريم»، قد لا تتجاوز بيوتها المئة إلا بقليل. لا تخلوا من طبيعة شبه ريفية: النخيل، وزراعة محلية للخضار، وصيد الأسماك. إلا أن معظم شبانها طلبة مدينيون وموظفو دولة. أبي كان يملك مركباً بخارياً مع حاملة نقل قبل ولادتي، ثم عاملاً في إدارة هذا المركب في سنوات بناء جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية لاحقاً) في طفولتي، ثم بائع فاكهة وخضار في محلة العباسية، في سنوات صباي ومراهقتي. قبل سنوات استعدت هيئته في لوحة بورتريت زيتية ملحقة بهذا الحوار.
إذا توقفت في منتصف شارع أبي نؤاس (الرصافة) ستكون «العباسية» في الواجهة تماماً، على الضفة الأخرى (الكرخ). بيوت معظمها متواضعة ومن طابق واحد، يظللها النخيل، وتحجب شاطئها الزوارق. الزوارق كانت وسائل عمل للصيد، للأجرة، لعبور النهر، أو لمهمات الشبان التي لا تخلوا من المغامرات الشخصية. أجمل مهماتها هو العبور المبكر في الربيع الى الجزر الرملية التي تطلع كالجنيات في منتصف النهر القريب من الرصافة. هناك تُبنى الچوادر من الحصران، وتُزرع القثّاء واللوبيا. ضرب من احتفاء سحري بالطبيعة والحياة جملة. كل هذا انطفأ مع مجيء حكم البعث. تحولت حرية الاحتفاء بالطبيعة الى واجب الاحتفاء بالسلطة، بالحزب، وبالقائد. تحول الاحتفاء بالإنسان الملتبس الغامض الى الاحتفاء بالفكرة اليقينية.
ولأن الكتاب، والتساؤلات، والحيرات المراهقة لم تكن مألوفة في محلتنا، وأنها حلّت في كياني أول الصبا بصورة غامضة، لا قدرة لي على استعادة لحظات نشأتها ونموها، فإن الظن يذهب بي الى أن هذا التحول من الانسان الى الفكرة (التي بدت في أبسط أشكالها: وطنية، قومية، أممية، أو دينية، طائفية...) هو الذي قادني اليها، أو هو الذي ربط كياني بها هذا الربط المصيري المحكم. أذكر أن الكتاب كان يحتل مكاناً في صباي لا يبدو ذا صلة ظاهرة بالتساؤلات والحيرات. لأنني كنت أحرص على اقتناء كتب التراث وحدها، أقرأ واحتفي بعثراتي على أسطرها، وبعدم إدراكي لمراميها. كنت أحتفي بالصوت الموسيقي، الذي يصدر عن شفتي من بوحها ووحيها. وكانت محاكاتي لهذا الصوت المبهم في درس الإنشاء مصدر تندر من قبل طلبة الصف، في المدرسة، ومصدر معاتبة حانية من قبل مدرس العربية. إنها لم تكن تمنحني معنى، وتثبت لدي موقفاً، يلتحمان في الظاهر على الأقل مع التساؤلات والحيرات. ولكن هذا الكتاب (هذا الشيء الذي يمنح رائحة وملمساً وشكلاُ أعمق تأثيراً من معناه) كان يبعث بي تنهدات كتلك التي تصدر بفعل التساؤل والحيرة. أو بفعل الحب.
كنا، أنا وأخوتي، مثل كل أبناء المحلة نعيش عملياًً خارج جدران البيت، ولكن داخل جدران المحلة. خارج دائرة العائلة، ولكن داخل دائرة عائلة المحلة الكبيرة. وكل ما في المحلة من نخيل وأشجار توت وسدر، وأسماك كان مباحاً لنا، وبصورة مشتركة. سرقة النارنج عبر أسوار البيوتات الكبيرة، وسرقة الباذنجان من مزروعات علوان الهندية، كان مباحاً بصورة أكثر لذاذة، لأنه أكثر سرية وأخطر مغامرةً. لم أكن عفريت أبناء جيلي. كنت على العكس موضع ثقة، وعلى شيء من السكينة. لكتاب الذي صرت أُقرن به كان أشبة بحاجز بيني وبين الآخرين: قد يُطل أحدهم علي عبره متعاطفاً، أو مرتاباُ، أو ساخراُ. يعتمد الأمر على موقف هذا الأحد من أمر الانشغال بالقراءة والمعرفة لدى الصبيان. لأن شاغل المعرفة لدي لم يرد إليهم معززاً بختم المدرسة الرسمي. وإلا لكنت مقبولاً دون شرط من الجميع. ولكن شاغل المعرفة جاء من الكتب الغريبة، التي كنت أجمع لها الفلس فوق الفلس لشرائها، من سوق السراي البعيد!

* هذا بالنسبة للكِتاب. وماذا عن عالم الرسم وكيف دخلته؟

- مع دخول مملكة الكتاب السحرية كنت دخلت مملكة الرسم والنحت. الحجارة التي أنتخبها من سد ضفاف دجلة، وقد رُصفت صيانة لمنحدرات محلتنا من الفيضان، كانت أكثر من كافية لنحت وجوه وأشكال تمنحني مسرة استثنائية. أما الرسم فكنت أطرز به حواشي كتبي المدرسية بصورة ملفتة للنظر. ولم تكن الموسيقى غائبة عن مملكتي السحرية آنذاك. قراءات الشعشاعي وأبي العينين الشعيشع للقرآن لا تني تتداخل مع رابسودي «فرانس ليست» (ما كنت أعرف المؤلف آنذاك) الذي اعتدت سماعه مقدمة لتمثيلية الأسبوع في راديو بغداد. هذه الأعمدة الذهبية لمملكتي السحرية مازالت تحيطني حتى اليوم. الفضل في معمارها يعود الى «العباسية» و»لندن» وحدهما. وما أحاطني بينهما من سنوات بغداد والعراق والعالم العربي لم يكن غير وعيد وتهديد دائم بالتخريب والهدم.

*ولكن لابد من تأثير للعائلة عليك، أخص بالذكر أولا الأبوين، خاصة وأنهما لم يغيبا عن قصائدك؟
في سنوات الابتدائية الأولى عادة ما أبدو في الصباح محشوراً بواجب لم أنجزه. تأخذ أمي من يدي القلم والدفتر. تحاول، بعد تأمل الحروف والكلمات والفقرات الواجب نقلها وتكرارها، إعادة رسم ما تراه، وتكراره. وأنا أجلس الى جانبها برضا القانع دون حرج. كانت لا تُحسن القراءة والكتابة. ولكنها تحسن الاستنساخ الحرفي، مدفوعة بضرورة أداء الواجب المدرسي بنفسها، حين تعجز في الليل عن استثارتي اليه، أو إجباري عليه. لم أر أمي منذ انتباهتي الأولى إلا بالچرغد والفوطة الأسودين. كنت السادس من أبنائها. الخامس الذي سبقني مات بحادث سيارة. ولعل أمي نذرت نفسها للون الأسود منذ ذلك اليوم، إذْ لم أرها خارج ردائها الأسود حتى وفاتها. كانت غاية في الرضا والقناعة ومرونة الطبع. هادئة تدب في البيت لغرض الرعاية وحدها. ظل ابتسامتها الدائمة يخفي أسى دفيناً، هو أسى المسؤولية التي تشعر أن كيانها يعجز عن الوفاء لها كفاية. أو أن قدراً لا يُطمأن اليه لا يترك للكيانات الجافلة غير الانقياد راضية قانعة.
أبي، الذي لا يُحسن القراءة والكتابة هو الآخر، كان لا يقل حرصاً عن أمي على تواصل أبنائه الدراسي. ولكنه طالما عجز عن ذلك مع أبنائه الكبار. أراه بالچراوية والصاية واليمني الأحمر في صباح خروجه الى العمل، وعند عودته منه. وفي البيت يكتفي بالدشداشة والعرقچين. وبالرغم من أنه مات في أواخر الخمسينات من عمره، إلا أنه كان يبدو لي، بفعل اللباس وهالة الوقار، مسناً منذ طفولتي المبكرة. مهابته لم تكن نتاج قسوة في طبعه. لا أذكر أنه ضربني يوماً، أو ضرب أحداً من أخوتي وأخواتي، فهو يكتفي بالتوبيخ. بل هي نتاج مران مع الرجولة المبكرة، تُلقي على الكائن مسحة من الصمت والأسى الدفين. ولعل خير دليل على رغبته القصوى بالاتزان أن زواجه من امرأتين داخل جدران بيتنا الطيني الصغير لم يترك على الأبناء ظلاً، مهما خف ثقله، من تناحر وتنافس. أذكر أني، حتى بعد أن تجاوزت سن العاشرة، لم أجدني مضطراً للتساؤل عن أمي الحقيقية بين الزوجتين المؤطرتين بالسواد. فقد عشنا تحت رعاية الزوجة الأولى، التي لم تنجب لأبي إلا ولداً واحداً، الأمر الذي اضطره للزواج الإضافي الذي منحه ثمانية أبناء. أخي الذي يصغرني، بفعل تعلقه بها، غادر معها الى بيت إقامتها الجديد مع ابنها البكر يوم زواجه.
هذه الاستعادة تعني أن علاقتي بهما لم تكن إلا علاقة بيدين حانيتين، وقلب مُشفق. كلاهما توفيا في وقت مبكر من عمرهما، وأنا في ذروة المراهقة وأول الشباب. المجموعة الشعرية الأولى «حيث تبدأ الأشياء» تكاد تشكل أصداء التكوين الأول. التي ترددت من حدث موت أمي. صورة أبي الغائب وجدتها عائدة بشيء من الإلحاح في قصائد السنوات المتأخرة، في المنفى.

* ماذا عن المدرسة والأقران أو الأصدقاء وهل بينهم من المعروفين في الوسط الثقافي: كتاب رسامون الخ..؟ وذكرياتك معهم.

* ربما كنت الوحيد (الى جانب أخي الفنان صادق طعمة)، من بين إخوتي، الذي واصل دراسته حتى الشهادة الجامعية. سنوات الجامعة (كلية الآداب، اللغة العربية) كانت أكثر سنوات الدراسة ضحالة في المعرفة. ولعلي اخترت اللغة العربية هرباً من الدراسة الجدية، لا رغبة بتعميق وعيي بها. فقد كنت قبل الالتحاق بها وثيق الصلة بتراث العربية، وبالشعر وأوزانه. وأنجزت أكثر من دراسة في حقل التراث، نشرت شيئا منها في كتابي النقدي الأول «من الغربة حتى وعي الغربة»(وزارة الثقافة، 1972).
من بين صحبتي في «العباسية» الذين تركت فيهم أثراً دفعهم الى حقل الفن: أخي صادق طعمة، وصديق الصبا والشباب، رسام الكاريكاتير الراحل عباس فاضل. وممن يكبرونني في «العباسية» من المثقفين ذوي الصلة كان الأخوان هادي العلوي وحسن العلوي من أبرزهم. في مرحلة النضج كانت صحبتي لا تقل تأثيراً على أسماء بارزة: مثل عبد الستار ناصر، محمود جنداري، أحمد خلف، سعيد فرحان، خزعل الماجدي...وآخرين.
ذكرياتي معهم تؤرخ لمرحلة الستينيات والسبعينيات في الأدب العراقي المعاصر. وهي كما ترين مرحلة لا سبيل الى استعادتها في حوار كهذا. على اني استعدت شيئا منها في كتابي «العودة الى كاردينيا» (دار المدى 2004).

* دراستك الجامعية. ماذا أضافت إليك كشاعر، وهل من الضروري أن يدرس الشاعر اللغة العربية وبحور الشعر بشكل علمي، في الوقت الذي أرى فيه أن الكثيرين لا يعرفون شيئاً عنها؟.

- لم تُضف الدراسة الجامعية الكثير. لقد كنت شاعراً، أنشر في المجلات والصحف المحلية، ثم العربية، قبل دخولي الجامعة. أذكر أني في معظم امتحانات البلاغة الثقيلة الدم، كنت أؤلف الشواهد الشعرية المطلوبة في ورقة الامتحان لساعتها. كان الأمر أهون لدي من أن استذكر شواهد من الشعر العربي. أردت بهذا أن الموهبة الشعرية هي بالأساس موهبة في الإحساس باللغة وموسيقى اللغة. ما من موهبة شعرية تكتشف هذه الحساسية فيما بعد. إنما تعمقها وتجذّرها وتطورها فقط. لعل هذه الحقيقة هي واحدة من أكبر مشاكلنا في تحديد الموهبة الشعرية، في حياتنا الأدبية المعاصرة. الكثير ممن يكتبون الشعر (أو يعنون بنقده!) هذه الأيام يتجنبون الخوض في هذا الموضوع، أو يتجاوزونه، وينكرونه عن عمد. لا لأنهم يفتقدون هذه الحساسية في أنفسهم فقط، بل يرغبون في خط مسار نظري للشعر جديد يغمط حق الموهبة الشعرية في احتلال موقعها الطبيعي. الموهبة الشعرية تشبه قدرة الحنجرة على الأداء اللحني المؤثر. كان الناقد الموسيقي النمساوي هانسلك، المنتصر لبرامز ضد فاغنر، على معرفة واستيعاب مذهلين للقوانين الموسيقية، ولكنه لا يحسن أداء لحن على لسانه. واليوم يجد كثير منا موقفه من فاغنر واهياً، وخاليا من الأصالة. المواهب الشعرية تتفاوت بالتأكيد، وهذا أمر جد طبيعي. ولكن شعراء اليوم ليسوا بالضرورة مواهب متفاوتة. بل هناك الشاعر بينهم، والدخيل على الشعر. وهي ظاهرة تكاد تكون جديدة تماماً.

* سؤال بسيط وعادي. متى بدأت كتابة الشعر؟

- لا أذكر. المرحلة المبكرة تكاد تكون غائمة بفعل اختلاط المسعى الأدبي، الشعري، بالمسعى الفني: نحت، رسم، موسيقى. كنت شديد الولع بالتراث، كما قلت. ثم صرت أطلع على القصيدة الحديثة، التي تترك بياضاً آسراً في الصفحة لم تكن تحققه القصيدة العمودية. البياض يلغي الشكل الهندسي الذي يُقبل على العين بهيئة بلوكات حادة. القصيدة الحديثة بتفاوت أبياتها تمنح البياض فرصة لمزيد من التداخل، التساوق، والتعارض الشكلي. حين صرت أقلد القصيدة الحديثة كنت أباشر اللعب مع البياض. لم أكن أفهم الحرية الشعرية الجديدة إلا عبر الحرية البصرية. ثم أني صرت أتعامل مع الكلمة وصوتها، ولأول مرة، باعتبارها ذات قيمة في ذاتها. مستقلة مثل كوكب. كان هذا يتم بصورة جدْ بدائية بالتأكيد. حين جاء السياب، وكان أول الوافدين على صباي الشعري، حقق صلة الوصل السحرية بين الكلمة الشعرية وأختها، وبينها وبين خبرة كياني الداخلية. أكثر من مجموعة شعرية كتبت، بالشكل العمودي والشكل الجديد، قبل أن أجمع قصائد «حيث تبدأ الأشياء» وأنشرها عام 1968.

* يقال أن الموهبة في الجينات، فأنت الشاعر والرسام، ولأخيك صادق طعمة موهبة فائقة في الرسم. لذا يتبادر إلى ذهني في الفور هذا السؤال: من سبقكم في العائلة بذلك، خاصة وأن أغلب أمهاتنا من الأميات اللاتي طمرت مواهبهن الظروف الاجتماعية القاسية مثلا، لكنهن سعين من أجل أبنائهن ليكملوا الدرب؟

- لا شك أن هناك موهبة ما كامنة في الجينات. وأن فاعليتها منذ وقت جد مبكر تبدو مقطوعة عن تأثيرات المحيط تماماً. وبالرغم من أن الغرب المتحضر يحفل بمواهب تعجيزية، في حقل الموسيقى الكلاسيكية خاصة، وبالرغم من أن هذه المواهب عادة ما تطلع داخل عائلة ليست عارية تماماً من المناخ الموسيقي، إلا أن هذه الموهبة أو تلك تكاد تطلع وحدها، متميزة عن بقية الأبناء الذين ينتمون للتربة ذاتها، وللمناخ ذاته!
ولدت ونشأت في بيت لم يألف الكتاب. ولم يألف مجلات الأطفال المزينة بالرسوم والألوان. هذا إذا ما استثنينا الكتاب المدرسي. نعم، أذكر في طفولتي أنني شاهدت أحد أخوتي الكبار وهو منشغل برسم بورتريت لعبد الناصر. ولكن حدث ذلك بعد أن كنت قد شغلت هوامش كتبي المدرسية وغير المدرسية بالرسوم. ثم كيف حلت الحجارة بين يدي جاهزة للنحت؟ ونحن نعرف أن النحت يلي الولع بالرسم بعد مسافة قصية. ثم كيف استحوذ الكتاب ومحاكاته على اهتمامي، وطوى الرسم والنحت بين دفتيه؟ ولم كتاب التراث، الذي يستعصي على فهمي، وحده؟ وما معنى اللذاذة في القراءة المصوّتة، التي تصحبني عادتها حتى اليوم؟ وما معنى الحساسية الملهمة بملمس الورق، ونسيجه، ورائحته؟ كانت كتب طه حسين وحدها التي تلت كتب التراث في القراءة المصوّتة. كتب طه حسين بطباعة دار المعارف، دار المعارف آنذاك، وحدها. حتى أنني، في إحدى سفراتي الى القاهرة، وقعت على كتاب «الفتنة الكبرى» في طبعته الأولى، فخاب ظني في ملمس الورق ورائحته. بقيت تلك النشوة الروحية عالقة دونه في ذاكرتي وحدها. لم يتغير الورق ملمساً ورائحة بالتأكيد. بل تغير الزمن الفاصل بيننا وحده.
لو سألت أخي الفنان صادق طعمة السؤال ذاته، لوجد إجابته جاهزة، في أن موهبته وجدت مناخاً خصباً بالكتب والرسم والموسيقى، هيأه له أخوه الذي يكبره بسنوات.

* لقد غادرت العراق إلى لبنان في نهاية الستينات لماذا، حدثنا عن تلك التجربة وما الذي أضافته لك؟

- بيروت، كانت تبدو لنا النافذة الوحيدة المضاءة، ولكن عن بعد. هناك تصدر مجلة الآداب، مجلة شعر، ثم مجلة مواقف الأدونيسية، نافذتنا على أدبنا العراقي والعربي والعالمي. وهناك الملاذ العربي الوحيد للهارب من قمع النظام العربي، وقمع الرقابة الفكرية العربية. وهناك كل ملامح الثورة الفلسطينية في مرحلة فتوتها. وهناك انتشت أسماؤنا كشعراء وكتاب، وتوزعت إلي العالم العربي. ومن هناك كانت تصلنا رسائل إعجاب حارة من شعراء وكتاب، كانت أسماؤهم ترتبط برياح الجديد والطليعي المنعشة.
كنت قد عُينت مدرساً بعد تخرجي من كلية الآداب. وبالرغم من أن مذاق التدريس كان حلو الطعم، بعد مرحلة تلمذة طويلة، إلا أن مرارة حادة بدت تتسرب فيه، وتفسده. مرارة اقتحامات سلطة البعث واتحاده الوطني. وبالرغم من أني لم أُحسب على طرف سياسي، واكتفيت بصفة الشاعر الذي لا انتماء له، إلا أن ثانوية المحمودية لم تخل أسبوعاً من رجل أمن يقتحم الإدارة، محققاً بشأني. كنت أيامها قد أصدرت ديواني الأول «حيث تبدأ الأشياء». وبهذا صرت موضع نظر من قبل مرحلة لم تترك حيزاً لكيان إنساني لا منتمٍ. بدا الأمر لي حينها مريعاً. وبدوت نبتة عارية من أية حماية في أرض بوار.
كان هذا العامل الشخصي حاسما، بالإضافة إلي العامل الثقافي الموضوعي السابق، لأن يجعلني أكثر جرأة للمغادرة. ولم أترك خبر هجرتي عند أحد، حتى الأهل. لعل القلة التي سبقتني إلي بيروت من الستينيين كان عمران القيسي وشريف الربيعي. ثم بدأت موجة الهجرة الجماعية لعشرات ممن انتسبوا للثورة الفلسطينية.
كانت هجرتي محض فردية. وما كانت لي صلة تُذكر بأي فاعلية سياسية فلسطينية. وربما لهذا السبب بقيت طوال مرحلة المنفى البيروتي دون عمل محدد، غير الإسهامات النقدية والشعرية في مجلات: الآداب، شعر، مواقف، شؤون فلسطينية، الهدف، ملحق النهار (باسم مستعار هو نبيل توفيق)....
كان أدونيس أول من عرف مني رغبتي في البقاء. وكان أول يد حانية للعون والدعم. وبقي طوال منفى السنتين والنصف كذلك. وكان كرم ومحبة أدباء بيروت لا تقل عن كرم ومحبة أدونيس. كانوا ظاهري الإعجاب بهذه الكيانات الإبداعية الضاجة، المتعارضة الطباع.
عرفونا بالاسم قبل مجيئنا، ثم أُحيط ظهورنا على ساحتهم بمشاعر خليطة من الإعجاب والدهشة والحذر.
في بيروت كتبت قصائد ظهرت في مجموعة «أرفع يدي احتجاجاً». هذا الاحتجاج الذي ما كان له أن يتحقق لو كنت بقيت في بغداد. كان هذا الاحتجاج ينطلق من موقف أخلاقي ضد الشر، وجمالي ضد القبح، وميتا فيزيقي ضد القدر الأعمى. ولقد منحتني الحياة البيروتية الإحساس بمشروعية موقفي، بالرغم من أني كنت دائم الشك بقدرة، أو رغبة، مثقف المرحلة (المنتمي والملتزم) باستيعاب مشروعية هذا الموقف! ولقد أضفى هذا لوناً حاسماً على مشاعر اليتم والتشرد
* هل تجد نفسك بأنك تنتمي إلى جيل الستينيات أم السبعينيات وهما حقبتان زمنيتان ازدهرت فيهما الثقافة في العراق؟. أرجو الحديث عنهما وعن روادهما في الأدب والفن.

- أنا ستيني بالتأكيد. على أنني من أصغر الستينيين عمراً. السبعينيون جاءوا في مرحلة مختلفة، جديدة، ومحددة. مرحلة حكم الحزب الواحد. ومرحلة المعارضة العقائدية الواحدة. أمر لم يكن لنا به عهد. نشأنا داخل مناخ تسويغ الحرية النسبية، المشوبة بالفوضى. هم نشأوا في مناخ تسويغ الرقابة، واعتقال العقل داخل العقيدة. تحدياتنا كانت لا تخلوا من عبث ضاحك. تحدياتهم لا عهد لها بالعبث، بل بالواجب الذي لا رغبة لهم فيه. الثقافة ازدهرت في مرحلتنا، ثم تواصل ازدهارها في سنوات مرحلتهم الأولى، إلي أن تمكن حزب السلطة الواحد من التحكم بمصير الأفكار والأفراد. حينها ذبلت المرحلة، وتحولت مع الأيام إلي رماد.
في مرحلتنا ازدهرت أشكال التعبير الشعري، في شتى التوجهات، التي تعتمد الأصالة، أو النزعة الطليعية. وليس غريباً أن تجد كل الأشكال لدى شاعر واحد: قصيدة البحور الموروثة، قصيدة التفعيلة، القصيدة المدورة، القصيدة البصرية، قصيدة النثر...الخ. في مرحلتهم انسحبت القصيدة، بصورة ما، إلي شكل واحد، هو شكل قصيدة النثر مغلقة في الغالب. ولم يبدُ الأمر وليد إرادة طليقة، بل وليد نزعة هرب إلي شكل قادر أن يحيط الشاعر وإرادته، وحريته، وتطلعاته داخل عبوة مغلقة، ناسفة ولكن دون توقيت. المواقف النقدية النظرية تبعت الخطوات ذاتها.

* عندما كنت مراهقة لم تفارقني كتب شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب، وبكيته عندما غادر ومازال يحز في نفسي غيابه، هل تعتقد هناك شاعر عراقي يستطيع أن يؤثر شعره بهذا الجيل بنفس مستوى تأثير السياب الذي مازال حاضراً حتى يومنا هذا؟

- أنا الآخر كنت في مرحلة الصبا والمراهقة أقرأ السياب، وبكيته يوم مات. وبالرغم من أن أحزان السياب عراقية تماماً، وقد يصعب على العربي أن يستجيب لها بالطريقة ذاتها التي يستجيب لها العراقي، إلا أنها تتطلب عنصراً شخصياً آخر للاستجابة. حساسية خاصة قد تصح عليها تسمية الحساسية المنطوية. تلك الطبيعة التي تجعل الفرد يشعر أنه فرد حقاً، وأنه في عزلة ووحدة، بالرغم من الإحاطة الحميمة للعائلة، الأصدقاء، وللناس، وان الإيمان بالأفكار الكبرى قد لا يمت بصلة للأفكار ذاتها، وأن هذه الأفكار الكبرى ذاتها نسبية وخلودها وهم. حساسية كهذه لها أن تشعر أن استجابتها للمطر، على خلاف كثيرين، استجابة تنهدات أسيانة وحزينة. المذهل لدى السياب إحساسه العميق بالذنب، وأنه أوهن وأضعف من أن يؤدي الدور الذي ألزمه القدر به. من هنا ترين أن ما من شاعر عراقي أو عربي، من جيل السياب أو الأجيال التي تلته، يضاهيه في تأثيره. لأنك ألفتِ الشعراء العرب عموماً على هيئة المتنبي، أبطالاًً، أشداء، ونبوئيين! والإنسان يرهب هؤلاء بطبعه، ويأمن الشاعر الذي يضاهيه ضعفاً، وعجزاً. إن الدموع التي يستدرها السياب من عيون قارئه ليست دموع عطف على الشاعر، ولا على النفس. بل وليدة إحساس بالمشاركة أمام قدر شرير لا يُقاوم.
لهذا السبب أفردت السياب في كتبي النقدية، مع قلة قليلة من الشعراء العرب قد يكون الشاعر الحديث صلاح عبد الصبور والشعراء القدامى المعري وأبي نؤاس من أبرزهم، في الضفة الصحية المتعافية الصغيرة من الشعر العربي، الذي تتزاحم على ضفته الواسعة الأخرى البطولاتُ والنبوءاتُ والتعاليات النفّاجة بملكية مفاتيح الأسرار.
بالتأكيد لن يستطيع شاعر من ضفة السياب أن يبلغ التأثير ذاته على قراء الشعر. وهذه ميزة الريادة على كل حال، وميزة السياب الذي حقق توازناً بين متطلبات القارئ العام للشعر، الذي تتردد فيه أصداء الموروث الشعري العربي، وبين متطلبات القارئ الخاص للشعر الحقيقي، العارف بحجم التحديات. الشعراء القلة في ضفة السياب حققوا هذا التوازن ولكن ليس بدافع رضا القارئ. لقد حاولوا الذهاب أبعد مما ذهب السياب، بفعل دوافع إضافية، مثل اتساع أفق المرحلة، واتساع الثقافة الفردية. ولذلك لن يطمعوا بتأثير كتأثير السياب، ولنْ ينشغلوا بهم كهذا، على كل حال.

* لاحظت أن ارتباطك بالموسيقى شديد جدا وحبك لموتسارت وغيره، حتى أنك خلدتهم في قصائدك، وما زلتَ تزور بيت موتسارت وتتكلم عنه. هل تعتقد أن على الفرد بشكل عام أن يتثقف موسيقيا، وهل يتم بشكل ذاتي كما في حالتك، أم على المؤسسات الثقافية أن تنمي وتطور هذا الإحساس لدى الفرد؟
- في عالمنا العربي لا يمكن أن نعول على المؤسسات الرسمية في التربية الموسيقية. ثم أن الأمر، على هدى سؤالك، يتصل بثقافة المثقف الموسيقية. أو بعلاقة الشاعر بالذات بالموسيقى.
أعتقد أن الأمر على شيء من التشعب، لا التعقيد. في الغرب تبدو الموسيقى الجدية (أو الكلاسيكية) عنصراً جوهرياً من عناصر المعرفة، ولا يستقيم مفهوم المثقف الحقيقي دونها. لا يمكن العثور على روائي، ناقد، فيلسوف، وشاعر، مهما أجهدنا أنفسنا بالتنقيب، لم يسجل انطباعات عميقة، في رسالة، أو يومية، أو مقالة، أو حوار، أو دراسة، في الشأن الموسيقي. أمر يكاد يبدو مستحيلاً. وأنا أكثر تمتعاً وانتفاعاً بنتاج هؤلاء من دراسات نقاد الموسيقى. ولذا أستطيع بيسر أن أستنتج أن الموسيقى لدى الأديب والشاعر والفنان الغربي عنصرٌ أساس، لا خيار دونه.وبما أن الموسيقى الجدية إرث إنساني لكل شعوب الأرض، فغيابها من حقل الأديب، الشاعر، والفنان العربي، يشكل أكثر من قصور، يجعلنا نرتاب بتعريف المثقف دونها ارتياباً مقلقاً. نعم، نحن لا نملك إرثاً موسيقياً جدياً متواصلاً في حياتنا التربوية والمعرفية. ولكن التراث العربي يزدحم بالفكر الموسيقي النظري بصورة مذهلة. ثم إننا لم نملك إرثاً تربوياً ومعرفياً في الرواية والمسرح والرسم والسينما! ولكن المثقف العربي، الذي شرّع أبوابه لثقافة الغرب، عرف كيف ينتفع لخلق وتنمية هذه الحقول في ثقافته.

*من هو المثقف برأيك؟ وهل الثقافة تنحصر في قراءة الكتب والتعلم والمعرفة، أم أنها سلوك، وإلا تحول الفرد إلى مكتبة متجولة؟

- أحسب أنك تقصدين بعبارة المكتبة المتجولة حين يكون المثقف مجرد كيان لعرض ما يعرف، وما يفكر به، عرضاً عضلياً. حين يحول المعرفة الى سلم منافع جاه وسلطة، وتعزيز أنا مريضة بالنرجسية؟ أمر لا اختلاف عليه. ثم أنه أمر بالغ الشيوع في ثقافتنا. ولا أريد العودة الى موضوع «ثقافة الاعلام»، فقد تحدثت عنها كفاية، هنا وفي أمكنة أخرى. ثم أني أعد لها كتاباً في تعريف المصطلح واستيعاب الظاهرة.
المثقف كيان أسهمت الطبيعة في انتخابه بالتأكيد. الثقافة التي اهتدى اليها مسعى لرفع الانسان الى النموذج الأسمى. طرق هذا المسعى لا متناهية التنوع. ثم أن هذا المسعى لا يتحدد بقواعد أخلاقية وأعراف مسبقة. إنه يتطلع الى الضوء أبداً، حتى لو كان تطلعه صارخاً، نداباً، تراجيدياً. المثقف هو الذي يحسن معرفة الكائن الانساني كشبكة تعارضات. وأنه كيان رائع بسببها. لأن هذه التعارضات وحدها هي سر ديناميكيته وتطوره. ما من كيان يسكنه الله وحده. وما من كيان يسكنه الشيطان وحده. اللون الأحمر لدى الرسام ليس لونا واحداً مطلق الدرجة. الانسان درة الأرض العزيزة. لأنه وحده القادر على السعي وسط المصطرع، ووحده الواعي لقيمة المسعى. وليس غريباً أن يعرف أن إحساسه بالعبث واللاجدوى والتمزق ليس إلا نتاج المسعى ذاته للسمو. من هنا يبدو ألم المبدع مشرقاً، أحزانه عزاءً، وليله ينطوي على إضاءات، عميقة ولكن مرئية للعين الثاقبة. ومن هنا أيضاً أن مفكري العقائد عادة ما يكفّرون المبدع في ألامه وأحزانه وليله الغامض. يريدون مسعى عضلياً، لا يقبل التعارضات. يرون الانسان عبداً عابراً للفكرة الخالدة. مجرد مطية معبأة بالأسود أو بالأبيض. بالله، أو بالشيطان. بالخير أو بالشر.
المثقف الحقيقي الذي يعرف، بالبداهة، أن الإنسان مسعى الفكرة. وليس الفكرة مسعى الانسان. قد يتعثر الانسان في مسعاه بمئات الأفكار، وينفضها نفض الرداء، حين يجدها غير صالحة. وأن الفكرة وليدة مسعى الانسان ذاته، والمثقف هو من يحذر من أن تغلب هذه الفكرة على الانسان وتستعبده. لأن الانسان، في الغريزة، يسعى الى العبادة والخضوع. عبادة إله كلي القدرة غريزة فيه، يناضل المثقف في تصفيتها من شوائب غلبة الفكرة، وما يمكن أن تتلبس به من قداسة كلي القدرة، التي تبدو قداسة إنسانية بقدر ما تتسع وترحب، اتساع ورحابة كلي القدرة. ولكي أقرب الفكرة إليك بمثال لك أن تتأملي ما يحدث هذه السنوات باسم الله والإيمان. على أنه في حقيقته يحدث مدفوعاً بقداسة العقيدة والفكرة، لا كلية قدرة الله، التي تفترض الاتساع والرحابة. إن مطاحن سلفيي السنة مع سلفيي الشيعة هي باسم الله، ولكن ليس من أجله. لقد اختفى الإله كلي القدرة وراء حجاب العقيدة ـ الفكرة الكثيف. إن مسلحَ هؤلاء وأولئك، وخطيبَ هؤلاء وأولئك لم يعد مدفوعاً بعبادة الله، وهو يطلق رصاصته على جبين عدوه الانسان المسلم، بل مدفوعٌ بعبادة الفكرة ـ العقيدة، التي ينتسب اليها. وهذا الشعور ملأ كيانه، مع الأيام، حتى في صلاته التي يؤديها، فهو يؤديها للعقيدة ـ الفكرة، لا لله، وإن اعتقد غير ذلك.
هذا الأمر ينطبق على كل الانتماءات التي تتحلى بوشاح الوعي. كان لي صديق كثير الاعتداد بوعيه في انتسابه للفكر الماركسي، وللحزب الشيوعي. وأنا لا أشكك بحسن نيته وحرارة انتفاعه. ولكني أشكك بثقته بوعيه. كنت أقول له مداعباً: «أعرف أنك ولدت في الشواكة، عزيزي، قرب سينما الأرضرملي. ولكني أقترح عليك أن تفترض، بحسن نية وموضوعية، أنك ولدت على مبعدة أمتار، في محلة الجعيفر السنية (ذات السلطة السياسية) لا الشواكة الشيعية (فاقدة السلطة السياسية)، أكنت ستضمن وعيك الماركسي هذا، وسط عائلة، جيران، أقارب ومجتمع محيط من أبناء الطائفة السنية، التي اعتادت الوله بالقومية العربية (لا الأممية)، والإسلام العربي، لا الإسلام الأممي؟
عودة الى موضوع الكتب والقراءة أضيف أن القراءة مقطوعة عن الحياة عادة ما تكون مضرة. ولكن يجب أن لا أغفل معنى علاقة المعرفة بالحياة كيف يمكن أن تكون، لأنها عادة ما تكون مصدر التباس وسوء فهم. إن سماعي واستيعابي لموسيقى باخ منحني معرفة لمعنى الإيمان الإلهي، بعيداً عن معنى العقيدة الإلهية. الإيمان سعة أفق تتماهى مع معنى «كلي القدرة». العقيدة ضيق أفق داخل اللوازم والشروط. موسيقى باخ عرفتني على معنى عاطفة بشرية بعيدة عن تلك التي لا تتولد من ردود أفعال غريزية. غريزة الانسان لها عواطف عزيزة عليه بالتأكيد، وهي مصدر كل دراسات علم النفس والفلسفة وعلم الجمال بشأن «العاطفة». ولكن ثمة عاطفة للإنسان يطلقها الفن من مكان خفي فيه. عاطفة لا تحدد، لفرط اتساعها ورحابتها، بغرض وهدف. ولذلك لا تنطلق عواطف باخ إلي من إيمانه بالعقيدة المسيحية، بل تنطلق من الشكران للقدرة الكلية على خلق القدرة الموسيقية، التي تسعى الى مضاهاتها في كليتها.
انحناءة أبي العلاء المعري الحَدِبة على الانسان الأعزل أضفت على وعيي الشعري والإنساني أكثر من معنى. ولذلك لا أفصل عن شعري حاجتي الى التأمل، وحاجتي الى المساءلة. علاقة الشعر بالإنسان لم تسمح لي أن أتقبل شاعراً كالمتنبي دون تردد. وسمحت لي أن أبحر مزيداً من الإبحار في شعر أبي نؤاس، ونثر أبي حيان. فكلاهما لم يفرّط بالحسي والأرضي، وكلاهما جعلا من الحسي وسيطاً لما وراءه. وكلاهما كتبا بدمهما، لا استجابة لدعوى نيتشة، بل لدعوى العلاقة التي تفترض البديهة الصادقة بين المعرفة وبين الحياة.
الحوار نشر على موقع الكاتب
العراقي