عبد الحميد زاهد ..مؤسس المكتبة الوطنية في سوق السراي

عبد الحميد زاهد ..مؤسس المكتبة الوطنية في سوق السراي

زين النقشبندي
ولد مؤسس المكتبة الوطنية الشيخ عبد الحميد زاهد في النجف سنة 1859م وهو من أسرة الزواهد التابعة لقبيلة المياح، ونشأ وتعلم على والده الشيخ علي، الذي أدخله الكتاتيب فتعلم القراءة والكتابة والقرآن الكريم، ثم دخل المدارس الدينية ودرس النحو والصرف وشيء من الفقه وتتلمذ نوعاً

ما على السيد محمد سعيد الحبوبي، وكان له اتصال بشباب النجف المثقف اتصالاً وثيقاً ثم ترك الدراسة وأنصرف إلى الاشتغال في بيع الكتب، فأخذ غرفة في اواوين الصحن الحيدري الشريف وجعلها مكتبة، ثم قام بتأسيس المكتبة الحيدرية التي باعها فيما بعد إلى صادق محمد الكتبي
وكانت أسرة آل زاهد ، وبخاصة والده المرحوم الشيخ علي زاهد معنية بتيسير الكتاب لطلاب علوم الدين تصدره أو تجلبه وتعرضه فتعين على نشر الثقافة بين الناس، أخذ عبد الحميد زاهد هذه الصناعة عن والده في قلق يصحبه حذق ومهارة فكان في النجف أحد الميسرين للكتب المعنيين بالترويج لها، ويصف الأستاذ علي الخاقاني المجتمع الذي نشأ عبد الحميد زاهد فيه حينذاك فيقول أن هذا المجتمع ككل مجتمع تكون فيه على الأقل أربع طبقات علماء عاملون وعلماء أشبه ما نسميهم بالحياديين ومنافقون وجهلاء ينعقون مع كل ناعق، ففي مثل هذا المجتمع الصاخب الصارم الذي تعيش فيه العادات والتقاليد السخيفة إلى جانب رجال قاموا بمدارس ضخمة كانت تنير عقول الناس وبطبيعة الحال كانت أول مدرسة بعد التدافع العقلي والاجتماعي، مدرسة أبي الأحرار الشيخ ملا كاظم الخراساني، قدمت فصائل من العلماء والرجال وكانوا يساندون هذا العظيم مجموعة من العلماء الأعلام يأتي بطبيعة الحال منهم السيد هبة الدين الشهرستاني (رحمه الله) والشيخ عبد الكريم الجزائري وآخرون كالسيد صالح كمال الدين والسيد عيسى كمال الدين وإضراب هؤلاء وفي طبيعة الحال كان من المساندين في العقل والرأي والإدارة الشيخ جواد صاحب الجواهر (رحمه الله) والشيخ عبد الحسين الجواهري والشيخ عبد الرسول وإضراب هؤلاء الذين خدموا الفكر والعقل في هذا المجتمع فريق آخر يعاكس هذه المدرسة، فريق الدجالين والمنافقين والجهلاء وهذه قوة عارمة صاخبة لا يستطيع الصمود أمامها هؤلاء العلماء المترفون في عقولهم، ففي مثل هذا الجو كان عبد الحميد زاهد يعيش، وكان ثورة بكل معناها على التقليد السخيفة وهذه الأشياء السخيفة التي غذاها المستعمر والجهلاء بطبيعة الحال، وكان الذي يقرأ جريدة في النجف لا أقول بما أساويه من الموبقات أن قراءة الجريدة في النجف كانت موبقة كبرى لا تساويها أي موبقة أخرى فإذا ما قرأ الإنسان جريدة قيل له إنك زنديق دهري متنور عصري من الألفاظ التي لا يفهمون مفاهيمها.
كان عبد الحميد في هذا الجو يعيش وكله ثورة يهدي الضال وينشد الأشياء الصحيحة وكان (رحمه الله) كثيراً ما عمل أعمال لا يستطيع أي إنسان أن يقوم بها، ففي عهد الاحتلال في عام 1919م عهد الرهبة المظلمة العنيفة، كان الوحيد بين المكتبات في النجف وكان الوحيد الذي يجلب الكتب العصرية في وقته وكان رجال العلم والأدب يلتقون في نفس المكتبة، وتدور فيها أحاديث السياسة بما يخص العرب وما يجب أن يكون، وكانت المكتبة المصدر الوحيد لنشر المنشورات السياسية وإخفائها عن السلطة البريطانية حينذاك بين مجلدات الكتب وهو الذي زود الأستاذ المرحوم محمد رضا الشبيبي بالوثائق، وقد وضعت بين طيات المقوى في المصحف الشريف وسافر فيها إلى الحجاز مندوباً عن العراق وكان صاحب هذه المكتبة همزة الوصل بين النجفيين والخارج من مدنيين وريفيين، حتى عرفت مكتبته بمكتبة الثورة العراقية وقد كان معروفاً بوطنيته لدى عناصر الاستعمار وعملائه، وقد كان عبد الحميد يختفي ليلاً عندما جاءت صورة العلم العربي ويعطيها إلى خياط كان اسمه ضياء زيني وكان خياطاً مع السيد كاظم العادلي فيخيطهما ويأخذ العلم ويستدعي رجلاً من الرجال الطيبين وأن كان عامياً اسمه حمود الحار فيطلب منه عصا طويلة فينامون في الصحن مع الزوار وقبل الفجر يأخذ العلم ويغرزه في أوضح مكان في الصحن اسمه (المسرجة) أمام الباب الكبير ويختفي ويخرج من الصحن عند فتحه في الصباح فيأتي الناس ويرون شيئاً عجيباً علم وهو أول من رفع علم العراق في النجف وكربلاء بعد أن صنعه وفق النموذج المستلم من جمعية (العهد السرية) التي تشكلت في الشام في حكومة فيصل الأول كما ذكرنا أعلاه.
كان عبد الحميد في مثل هذا الجو الرهيب ثورة على كثير من الرجال الذين يمتلكون السلاح، سلاح الجهل ويمتلكون التهم الرخيصة والشتائم الرخيصة، وكان عبد الحميد يغذي الأفكار وينميها عن طريق جلب المطبوعات العربية من آفاق أوسع من أفقنا المتردي وكان ينشرها على الناس أما بمال أو بنوع من المساعدات للذين لا يستطيعون شرائها، ويذكر الأستاذ سلمان الصفواني (صاحب جريدة اليقظة) عندما كنا شباباً وطلاباً نؤم مكتبة الفقيد العزيز في الصحن الشريف في النجف وذلك أثناء الاحتلال البريطاني وكان رحمه الله يشغل إيواناً وحجرة في الصحن، وكانت مكتبته نادياً وطنياً وملتقى المثقفين الأحرار نتبادل فيها الآراء ونقرأ فيها الصحف والمجلات والكتب الحديثة التي لم يكن لنا بها عهد من قبل ولم يكن أحد من قبله يجلبها إلى النجف في ذلك الحين وكنا نطل فيها على آفاق جديدة من الفكر الوطني والسياسي والأدبي والاجتماعي والعلمي وكان الذين لا يوافقوننا كثيرون وكانوا يرموننا بشتى التهم ويطلقون علينا أسم الفرمستونية أي الزنادقة والله يعلم أننا لسنا كذلك وإنما كنا نتطلع إلى المعرفة بشتى ألوانها وكنا ننفلت من الجحر التقليدي المفروض على عقولنا المنفتحة لنكون أكثر فهماً لمشاكل عصرنا وبلادنا ولنكون أقوى على الوقوف في وجه الشبه والتحديات وكان هناك من يستنجد على المنبر بصاحب الزمان لأن (الشمندفر) أي القطار أخذ يسير في العراق على قضبان الحديد وكان هناك من يلف يديه بالجريدة أو بالمجلة لئلا يتنجس، وكان هناك من يعارض فتح المدارس عامة، وتعليم البنات خاصة فأي مهمة صعبة تواجه عبد الحميد زاهد ورفاقه من الطلاب والشباب المتحرر في ذلك الجو المحموم.
أما الدكتور عبد الرازق محي الدين رئيس المجمع العلمي العراقي فيذكر عن مكتبة عبد الحميد زاهد في الصحن الحيدري (لم أكن من رواد تلك الحلقة لأنها كانت تكبرني سناً ومكانة اجتماعية ولكنني الحظها من دائرة دونها سناً ومكانة وكانت تبدو لي وكأنها خلية نحل تغشاها اليعاسيب، كان من رواد تلك الحلقة أن لم تخني الذاكرة أستاذنا الشيخ الجليل المغفور له الشيخ الشبيبي والمغفور له الشاعر الشيخ علي الشرقي ومن طلابها الأوائل الشاعران احمد الصافي ومحمد مهدي الجواهري، كما كان من رعاتها السيد سعد جريو والأستاذان السيد سعيد والسيد حسين كمال الدين.
وكان عبد الحميد في تلك الحلقة قطبها الذي تدور عليه والمفاعل الصامت يشيع الحركة من حوله وأن بدا ساكناً ويثار الجدل والنقاش وأن لم يكن من أهل الجدل والنقاش ومن هذا أستطيع أن أسجل في غير حرج أن غريزة حب التجدد فيه فعلت فعلها القوي في التغيرات التي حدثت في الأدب النجفي وفي تطلعاته إلى آفاق أوسع الحياة).
ولما هبت رياح الثورة العراقية الكبرى في عام 1920م كان الفقيد من جملة المعتمدين الثقاة في مهمة الاتصال بين العلماء الأعلام في النجف وكربلاء وزعماء القبائل في الفرات وأنحاء العراق ورجال الهيئات الوطنية في بغداد، وكان رحمه الله يخبئ الرسائل في أغلفة الكتب التي كان يصنعها بيديه ويبعث بها إلى من أوكل بها لإيصالها إليه فلا يشك أحد بها فبذا تنجو من أعين الرقباء، وهكذا يكون الفقيد قد ساهم في الإعداد للثورة وفي الثورة نفسها وبديهي أن الثورة أي ثورة لا تقوم بالبندقية فحسب وليس الثوار هم حملة السلاح فحسب وإنما تعتمد الثورات على الأفكار والعقول والأقلام.
وعندما أجهضت الثورة فر السيد عبد الحميد زاهد إلى خارج العراق خوفاً من السلطة المحتلة وبقي مدة من الزمن ثم رجع إلى النجف وبعد ذلك أنتقل إلى بغداد حيث انشأ عام 1923م/ 1924 م في سوق السراي (المكتبة الوطنية) وذلك بعد تأسيس الحكم الوطني ليكون مجال عمله أوسع وأرحب حيث صارت مكتبته ملتقى الوطنيين في بغداد كما كانت في النجف وكان حريصاً على نشر الكتب المثيرة للحماسة والنخوة والرجولة، ويذكر الأستاذ سلمان الصفواني، أن عبد الحميد زاهد طلب إليّ أن أقوم بتحقيق كتاب (حرب البسوس) المعروف فقمت بذلك وطبع الكتاب في عام 1928م على نفقته باسم: (تاريخ الحروب العربية) ولما رأى أن الطبعة الأولى من المسرحية التي ألفتها في عام 1924م باسم (الزرقاء) لمنفعة مدرسة المفيد في الكاظمية قد نفذت تبرع بإعادة طبعها في عام 1925م وكان يود أن يطبع كل كتاب يقوي العزيمة ويحث على الفضيلة، وفي عام 1933م سافر زاهد إلى القاهرة وفتح فرعاً لمكتبته الوطنية ولكنه عاد بعد فترة إلى بغداد واستمر يعمل في مكتبته حتى وفاته.
وفاة المجاهد الشيخ عبد الحميد زاهد
وفي صبيحة 23/11/1970 انتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى وبإعلان نبأ الوفاة علمت وكالة الأنباء العراقية وبدورها أذاعته من دار الإذاعة العراقية ما نصه:
(انتقل إلى رحمة الله عبد الحميد زاهد وهو أحد أقطاب ثورة العشرين).
بعض ذكريات الرجب عن صاحب المكتبة الوطنية
أما عبد الحميد زاهد صاحب المكتبة الوطنية- فكان يجلس عند بعض النواب بالمجلس النيابي من شيوخ العشائر وكذلك محمد مهدي الجواهري وسعد صالح وعلي الشرقي.
وفي أيام الجمع كانت تقام سوق للمزاد تباع فيها الكتب بطريقة الهرج ويتبنى هذا البيع عبد الحميد زاهد بصوته ونبراته اللطيفة حين يقول (حبيع صالح هرج) إلا أن ما يعرض في هذا المزاد لم يكن في الغالب إلا من سقط المتاع وما يبور عند أصحاب المكاتب فيدبروا مؤامرة على الزبائن في إقامة هذا المزاد، وفي سنة 1933م وفد إلى السوق محمد جواد حيدر وأشترك مع عبد الحميد زاهد في إدارة المكتبة الوطنية، وكان معه رأس مال لا بأس به، إذ قلما وجدت صاحب مكتبه جاء برأس مال لعدم أهمية الكتب والمكتبات برأي الناس.
وترك عبد الحميد زاهد العراق معتمداً في إدارة مكتبته على محمد جواد حيدر وذهب إلى مصر فافتتح مكتبة في القاهرة بميدان العتبة الخضراء، وأخذ يشترك مع الناشرين بنشر بعض الكتب، وأول كتاب شاهدت أسمه مطبوع عليه كتاب (الأوراق للصولي) قسم الشعراء، حققه ونشرة المستشرق الإنكليزي (جورج هيورث دون) الذي أشهر إسلامه بعد سنوات وتسمى بإسم جمال الدين، ولكنني عرفته فرأيته مشعوذاً دجالاً جاهلاً، وقد زار العراق سنة 1957 واقترض مني مبلغاً، ولما غادر العراق أثر قيام ثورة 14 تموز طالبته بالمبلغ فأنكره، ومن الغريب جداً أن يحصل هذا من أجنبي، ورجع عبد الحميد زاهد إلى بغداد بعد سنتين قضاهما في مصر التي لم يستطع البقاء فيها، وأنفصل عنه محمد جواد حيدر وفتح له مكتبة سماها مكتبة المعارف. بعض مطبوعات المكتبة الوطنية/ عبد الحميد زاهد
1.الأبطال الثلاثة (الملك فيصل- الغازي مصطفى كمال-البهلوي رضا شاه)، بقلم محمد الهاشمي،88 صفحة، مطبعة المعارف، 1933م.
2.تاريخ الحروب العربية أو حرب البسوس، المؤرخ الشهير محمد بن أسحق صاحب المغازي المتوفي سنة 151هـ، 191 صفحة، مطبعة دار السلام، 1928م، عني بتصحيحه سلمان الصفواني صاحب جريدة المعارف.
3.ذكرى السعدون، علي الشرقي، 142 صفحة، مطبعة الشعب، بغداد، 1929م.
4.ذكرى سعد زغلول في العراق، خلف شوقي أمين الداودي، 182 صفحة، مطبعة دار السلام، 1927م.
5. جزء من ألف باء من (القرآن الكريم) طبع سنة 1304هـ/1927م.