سطوح (أيام زمان)

سطوح (أيام زمان)

عادل العامل
من الأمور التي كانت تميِّز الحياة العراقية الوديعة، أيّام كان هناك تميّز، لا تمييز، النومُ ليلاً على سطوح المنازل في وقت الصيف. و النوم على السطوح لم تكن له فقط ميزة الراحة البدنية و النفسية، و الاستمتاع بجوّ ذلك الزمن الهاديء،

و الانسياب مع خَدَر النوم و نسائم الليل العذبة في شعاب اللاوعي المجهولة. فقد كان طقساً يومياً متعدد الفعاليات و الأبعاد و الصور، تقوم به بوجهٍ خاص النساء وصغار الأسرة في العادة. فكان هذا يرشّ السطح عصراً بالماء بعد تنظيفه طلباً للبرودة، و هذه تفرش و تضع الشراشف النظيفة الناصعة البياض، و ذاك يملأ " التُنكة "، و هي جهاز تبريد الماء آنذاك، و يضعها في مهب الريح أو النسيم، و تلك تنصب الكِلل أو الناموسيات و تتأكد من توفر مستلزمات قضاء الليلة في نومٍ مريح و أحلامٍ هانئة. و كان هناك على كل وسادةٍ في بعض البيوت تطريز وردة أو حمامتين أو عصفور على غصنٍ أخضر، و تحايا و أدعية و تمنيات .. تصبح على خير، نوم العافية، أو يرعاك الله .. إلى آخره!
أما الرجال، و كبار الأولاد، فكان عليهم النوم فقط! و ربما فعلوا خيراً أحياناً إذا فتحوا للأسرة رقّيةً حمراء أو بطيخة " صيفي " و وضعوها في صينيةٍ على سياج السطح كي تبرد قبل التبرّد بها و الاستلقاء في الفراش و الدخول في نومٍ طويل مع كل ما هناك من نشرات اخبار! هذا إذا لم يكونوا عشاقاً أو عازبين، فيقضون عندئذٍ سهرتهم هائمين نائمين على صوت أم كلثوم و تأوّهاتها الارتوازية و هي تعبّر لهم عن هموم الغرام و بلاويه .. بالأوِّلة آه .. و سهران لوحدي .. و أروح لمين!
كان ذلك أيامَ لم يكن الجو دافئاً في الشتاء يغلي في الصيف، و الدار أمان، و الكهرباء وطنية حقاً و لديها حياء و مروءة و غيرة أيضاً، و الزبالة مستقرة الحال في أماكنها لا تغادرها إلاّ بصحبة زبّال، و الليل ساكن إلا من غناء سكران عائد إلى البيت وهو نشوان سعيد، أو من صفير حارس يتبختر في الشارع أو دروب القرية كأنه سلطان، أو من صوت كلبٍ مطمئن يعلن عن وجوده في نباحٍ رتيب! و كان الناس يستغربون إن ثارت طلقة في سكون الليل، وأول ما يخطر في بالهم أن حرامياً خائباً قد سطا على بيت و لم يكن بمستوى لصوص اليوم من الخُبث و الدعم و الهمجية. و كانوا يصحون عند الفجر على صوت المؤذّن الهاديء العذب يترقرق كماء الساقية و كأنه يخشى الله في أن يُفزع عباده النائمين بصوتٍ متشنّجٍ متهدرجٍ أجشّ، و هو يدعوهم للصلاة لا أكثر و لا أقلّ، بلا زيادة أو إلحاح و تعذيب!
كانت سطوحاً لها ما بعدها، كما يُقال. و كانت للنوم هناك تجلياته على مختلف المستويات. فكانت فضاءً للالتقاء عن بُعد بالنسبة للعشاق و المتحابّين من أبناء البيوت المتجاورة و بناتها، و لهذا ربما لم تكن نسبة العنوسة عالية آنذاك كما هي حالها اليوم! و كانت ملتقىً للجارات عند الحيطان الفاصلة يتبادلن أخبار المحلة و حديث المطابخ و مستجدات الأسواق! و إذا كان الواحد كاتباً أو شاعراً أو فنّاناً، راح يسرح بعيداً في هدأة الليل مع جنّيات الخيال و عرائس الفكر، ليتحفنا في صباح اليوم التالي بقصيدة عصماء و لا قصائد النثر اليوم، أو بقصةٍ ممتعة و لا قصص أبي زيد الهلالي أو غارسيا ماركيز! و من هنا كان هناك الجواهري، و السيّاب، و البيّاتي، و غائب، و لميعة، و مردان، و نزار، و كبّة، و ناصر حكيم، و أنوار عبد الوهاب، و جواد سليم، لا كما هي الحال الآن، التي لا يمكن أن تفرز بطبيعتها إلا ما هو باهتٌ و غثّ .. و غثيث! و أظن أن المتنبي كان ينام على سطحٍ حين قال قولته الشهيرة :
[ أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها
و يسهرُ الخَلقُ جرَّاها و يختصمُ ]!