الجسر الحديدي (الجسر العتيق) والجسور المعلقة

الجسر الحديدي (الجسر العتيق) والجسور المعلقة

د. سمير بشير
يعد الجسر الحديدي أو الجسر العتيق معلماً حضارياً وصرحاً تاريخياً لمدينة الموصل الحدباء يربط ضفاف نهر دجلة ويتوسط المدينة والجسور الخمسة. أنشيء في العقد الثالث من القرن الماضي من قبل شركة انكليزية وهو من الحديد الخالص وطوله 260متراً وعرضه 9 أمتار وارتفاعه 6 أمتار.

صمم الجسر ليكون ثابتاً ويستند إلى دعائم مصنوعة من السمنت المسلح ذات الشكل البيضاوي حسب مواصفات هندسية دقيقة وحسابات رياضية دقيقة توصل الجسر بباطن الأرض.
أنا متأكد أن كل موصلي له ذكريات رائعة مع هذا الجسر حيث كنا نعبر عليه يومياً مشياً على الأقدام متوجهين نحو حديقة البلدية التي تقع في الجانب الأيسر من الجسر قاصدين الدراسة في الحديقة لتميزها بمناخ طيب هادئ يصلح للدراسة.
وأثناء العودة نمر من قهوة البلدية التي تقع يمين الجسر وأحيانا نستكمل الدراسة في القهوة بعد استراحة محارب وشرب الشاي أو الحامض. في الحقيقة الذكريات مع هذا الجسر تحتاج إلى مقالة مستقلة أو أكثر.
لنعد إلى موضوعنا الأساسي وهو الجسور الثابتة مثل الجسر الحديدي في الموصل الحدباء وجسر الصرافية في بغداد وهي أكثر الجسور أمناً واستقراراً، في حين سنتناول بشيء من التفصيل الجسور المعلقة ومخاطرها وتعرضها للاهتزاز ثم السقوط.
أختلف العلماء والقضاة في تحديد مسؤولية سقوط جسر عملاق في الولايات المتحدة الأمريكية، هو جسر تاكوما ( Tacoma) في ولاية شيكاغو.
من المسؤول: الرياضياتيون أم المهندسون؟
ففي تمام الساعة السابعة من صباح يوم 7/11/1940م بدأ الجسر بالاهتزاز المطرد المنتظم ولمدة ثلاث ساعات أخذ خلالها إحد مقاطع الجسر بالارتفاع والانخفاض بشكل دوري منتظم حتى بلغ الارتفاع إلى حد ثلاثة أقدام عن مستواه المحدد.
وبعد الساعة العاشرة صباحاً بدأ الجسر بالاهتزاز الواسع ، وفي تمام الساعة العاشرة والنصف وخلال لحظة معينة وصلت إحدى نهايتي الجسر إلى ارتفاع (28) قدماً وبعد لحظة لاحقة وصلت تلك النهاية إلى انخفاض (28) قدماً ثم سقط الجسر في الماء. ولحسن الحظ كانت سيارة واحدة تروم العبور في تلك اللحظة بقيادة مراسل صحفي ومعه كلبه، وقد نجا السائق من الموت في حين أن الكلب قد لقي حتفه والسيارة تحطمت تماماً، علماً بان الجسر يعد من اكثر الجسور ازدحاماً بالعبور.
ومن الطرائف التي رافقت ذلك الحدث هو أن معظم البنوك وشركات التأمين كانت تنشر في الصحف والمجلات المحلية والإعلانات أن تأمينها يقترن بالأمان الذي يتسم به جسر تاكوما!! كأفضل مثال، لثقة الناس به في ذلك الوقت. وبعد سقوط الجسر سارعت هذه المؤسسات إلى رفع نشراتها وإعلاناتها من محلها. كما أن حاكم الولاية التقى السكان بعد سقوط الجسر مباشرةً وألقى فيهم خطاباً حماسياً لرفع معنويات الجمهور وذكر في حديثه، متحدياً الرياضيات والهندسة وكلَّ الظروف التي أدت إلى سقوط الجسر، انه سيعيد بناء الجسر بالطريقة نفسها التي شيد فيها الجسر الساقط.
وفي اليوم التالي سارع أحد المهندسين من الذين اشرفوا على تنفيذ الجسر وإنجازه، بإرسال برقية إلى الحاكم يذكر فيها انه إذا أعيد بناء الجسر ثانيةً بالطريقة الأولى نفسها فسوف يسقط الجسر بالطريقة نفسها التي سقط فيها في المرة الأولى!
إنَّ ظاهرة سقوط جسر تاكوما معروفة لدى الرياضياتيين والمهندسين وخاصة الذين يتعاملون مع المعادلات التفاضلية وهذه هي إحدى الظواهر العديدة المعروفة، مثل: اصطدام سريان الماء بدعائم الجسور، واصطدام الهواء بأجنحة الطائرة، واصطدام الهواء بأعمدة الهاتف، وكذلك تقابل سيارتين تسيران بسرعة عالية بطريق السير السريع.
إنَّ هذه الظواهر تدخل ضمن ديناميكا الهواء (Aerodynamic) حيث تحدث اهتزازات سريعة لا يمكن السيطرة عليها للأجسام الثقيلة والجسور، تدعى “ Stall Flutter” التي يمكن تفسيرها علمياً كما يأتي: إذا وجدت إعاقة كجسم صلب في تيار هوائي أو سائل، عندئذٍ تنشأ حزم هوائية دوّارة ذات قوة فائقة لا يمكن السيطرة عليها مجاورة لذلك العائق أو الجسم الصلب تدعى " “ Vortex Street و تسير بشكل دوري محدد “ Definite Periodicity" اعتماداً على شكل ذلك الجسم وأبعاده وعلى سرعة الهواء أو السائل الذي يحيط به، وبالنتيجة فإن الحزم الهوائية المتولدة على جانبي الجسر تولّد قوة دورية عمودية على اتجاه الحزم الهوائية تعتمد على شكل الجسر، وعندما تكون القوة كبيرة فإن زاوية الإزاحة للقوة تكون كبيرة أيضاً .
ولتوضيح ذلك بمثال آخر، نجد أنَّ الحزم الهوائية التي تصطدم بأجنحة الطائرة تكون بزاوية صغيرة جداً وعليه تكون ملساء لأن أجنحة الطائرة مصنوعة بزاوية صغيرة جداً وبهذه الحالة فإن قوة الاهتزاز تكاد تكون معدومة وبالنتيجة فإن القوة المتولدة لا تؤثر في سير الطائرة. ومثال إضافي لتوضح هذه الفكرة أكثر، نلاحظ سريان الماء (عند اصطدامه بدعائم الجسور) من الجهة الخلفية للدعامة فنشاهد حزماً مائية دوارة تسحب الأجسام إليها بقوة كبيرة.
من الطبيعي أن نتوقع في حالة الجسور المعلقة، أي التي يكون جزءٌ كبيرٌ منها في الهواء، أنَّ الحزم الهوائية تولد قوة عمودية ذات إزاحة عالية وهذه بدورها تولد اهتزازات قسرية (Forced Vibrations) . وأنّ الخطورة تحصل عندما يكون الاهتزاز الطبيعي قريباً جداً من الاهتزاز القسري، وعندما يكونان متساويين فإن الكارثة ستحصل. ولهذا السبب يفرض على الجنود أثناء الخدمة العسكرية السير بشكل غير منتظم (مخالفة للتعليمات) عند عبورهم الجسر، كي لا يكون هنالك أدنى احتمال لوقوع كارثة كسقوط الجسر، وهذا ما حصل فعلاً خلال الحرب العالمية الثانية حيث أن كتيبة دبابات باكملها سقطت وهي تعبر جسر على نهر في مدينة برايتون جنوب انكلترا.
لذلك نخلص إلى القول، أن "الرياضيات" لم تكن مسؤولة عن سقوط جسر تاكوما وإنها بريئة من ذلك للحسابات والأمور المنطقية العلمية التي ذكرناها.
اكاديمي عراقي مقيم في دبي