الدرس الكبير الذي تعلمته من الأديب العظيم خيري شلبي

الدرس الكبير الذي تعلمته من الأديب العظيم خيري شلبي

راضي شحادة
شرطان لا بدّ من تحقيقهما كان قد ألزمني بهما مدير دار 'مصرية للنشر'، ناشر روايتي 'الجراد يحب البطيخ' في القاهرة: الشرط الأول هو انه على استعداد لنشرها اذا لاقت إعجاب أهم ناقد مصري في الأدب والشعر، الا وهو الناقد المعروف 'ابراهيم فتحي'،

وإن أعجبته فمن المفيد أيضا ان يَكتب عنها مقدّمة نقدية يُقتبس منها لتظهير الكتاب، فهو اسم معروف سَيُلفِتُ انتباه القراء الى أهميتها ويساعد على ترويجها، بينما انا لست معروفا في هذا المجال، وهذا ما كان.
والشرط الثاني ان نقدّم نسخة منها للأديب والكاتب المصري 'خيري شلبي' كي يكتب عنها بعد صدورها، وهذا ما كان.
والصراحة راحة، فأنا كنت أجهل من هو 'ابراهيم فتحي' وكنت أجهل من هو 'خيري شلبي؟ وينطبق عليّ المثل القائل ' الذي لا يعرفهما يجهلهما'. شعرت بالخجل، فكيف لي ان أكون كاتبا روائيا وأنا لا علم لي بهذه القامات السامقة، بينما قبلت بشرطيّ الناشر من دون ان أسأله عن سبب إصراره على تحقيق شرطيه، وبدا لي انه أكثر معرفة وثقافة واطلاعا مني على الحركة الأدبية في مصر، وبخاصة انّ مهمته كناشر تتيح له المجال كي يكون قريبا منها.
رافقني الناشر الى مكتب الاستاذ 'خيري شلبي' كي نهديه نسخة عن روايتي وهي لا تزال 'طالعة من الفرن'. والصراحة راحة، لم أكن أتوقع ان ارى امامي انسانا بسيط المظهر، يجلس خلف مكتبه المليء بالصحف والمجلات والكتب بشكل فوضوي، وحالة البساطة التي هو فيها لا تشبه بأي شكل من الأشكال أصحاب المكاتب المرفّهة والمكيّفة والمهندمة، ولم يكن مهندم الشكل والملبس كما قد تتخيّل شكل العظماء. كان بكل بساطة بلا مزّينات او مغيّرات لـ'اللوك الأصلي' الطبيعي الذي تطوّر معه مع الزمن ومع كبر سنّه.
استقبلني كمن يستقبل مندوبا عن كل فلسطين، بحماس منقطع النظير، مع انّ هدوءه الذي ينمّ عن تواضع مبالغ وغير مصطنع يجعله يبدو قليل الحماس لأي شيء، فشخصيته الهادئة وردّ فعله الذي يوحي بإنسان رصين وتأملي وكابت لثورته الداخلية يجرفك الى هدوئه الخارجي المريح فيعديك به.
تأثّرت كثيرا عندما فاجأني الناشر بعد أيام من زيارتنا للأديب الكبير بنسخة عن مقالة الاستاذ 'خيري شلبي' المكتوبة بكرم منقطع النظير ومزّينة بصور عن الانتفاضة الاولى التي تدور حولها روايتي، والممهورة بكلماته السلسة التقييميّة الصادقة، والتي اتّخَذَتْ شكل ريبورتاج طويل مزيّن برأي ناقد متمكّن من أدواته.
هذا المعلم المبدع خيري شلبي، الذي علّمني من خلال لقاء يتيم معه في مكتبه المتواضع في القاهرة، انّه مهما تقدّمنا في العمر فلا بدّ أن نعرف اننا لا زلنا صغارا في المعرفة، واننا لا نزال نجهل الكثير من أمور الثقافة والحياة، وحتى ان كان ذلك في مجالات تخصصاتنا. علّمني ان الإنسان مَهما كبر اسما وأخلاقا وشهرة وفكرا، فهو يكون كبيرا في كل ذلك لدى مُقدّريه، ولكنه يبقى صغيرا جدا في تواضعه الإنساني وشكله الآني اليومي، وهذا النوع من التواضع هو الذي يجعلنا جاهزين للمزيد من التعلم والمعرفة، لأنّ الشعور بالعظمة والتكبّر قد يعمي قلوبنا عن حقيقة اتساع المعرفة والتجربة، أكثر بكثير من مدّة حياتنا على الأرض. تعلّمت ان العظمة انّك كلما زدت شهرة تشدّ في شخصيتك الى المزيد من البساطة والتواضع، وأنّ السطحية ان تصطنع العظمة شكلا بينما انت لا زلت لا تفقه من الثقافة والمعرفة الكثير.
ترى ما الدافع الذي جعل هذا الكاتب الكبير يقرأ رواية لشاب غير روائي غير معروف مثلي لم يسمع عني أكثر من انني قادم من فلسطين؟ أية رِفعة هذه التي تجعله يعرفني ويتعرّف على كتابتي الروائية الأولى بينما هو صاحب الروايات والكتب والمقالات والأبحاث كنت أجهله طوال هذه المدّة ولم أكن قد قرأت له اي شيء من كتاباته؟
سيبقى خيري شلبي خالدا في قلوبنا، وسيبقى أرشيفه منارة يتعلّم منها الناس الإنسانية وحب المعرفة وفهم الحياة بشكل أصفى وأفضل وأرقى وأكثر جمالا وذوقاً.