محمد غني حكمت..عشرة مشاهد لسندباد عراقي

محمد غني حكمت..عشرة مشاهد لسندباد عراقي

عاصم عبد الأمير
(1)
كان الراحل محمد غني يرغب بلقائي، والمصادفة وحدها هيأت الأجواء لذلك، عند مدخل (مركز الفنون)، ربما كان ذلك في عام 1999. باغتني بوجهه الباسم، ولهفته أيضاً، مما جعلني في حرج لا أُحسد عليه. بدا لي متحمساً لقول شيءٍ ما، عندها دعاني إلى مشغله في شارع 14 رمضان/ حي المنصور، وعرفت أنه مغتبط لما كتبته عنه ذات مرة، ضمن ملف النحت العراقي المعاصر، في دراسةٍ طويلة نُشرت يومها في مجلة آفاق عربية بجزئين، وأظهر لي شعفه بالتواصل معي.

كان خاطري يذهب إلى بدء مشوار الكتابة عن تخطيطاته الغزيرة، وهو ميدان لم يتعرض له ناقد من قبل، وقد دُهش لطلبي هذا، لكنه استجاب وحمّلني مئات التخطيطات المصورة، مع طائفة من اللقاءات والمقالات التي كُتبت عنه وعن فنّه، مع طائفة من آرائه في الفن، زُد على رسالة من جواد سليم إلى الفنان مؤرخة عام 1961، يُظهر فيها الأول إعجابه بمراحل تعليق النصب الأولية، ورغبته في أن يكون محمد غني معه.
من جانبي قمت بفرز تلك التخطيطات على كثرتها الكاثرة إلى محاور، وانتهيت من الدراسة في وقتٍ مبكّر. كانت به رغبة في أن تكون الدراسة بمثابة تقدمة، وكنت أميل إلى جعلها دراسة طويلة، لكنني استجبت لرغبته، مما ترك في داخلي أسفاً بعد أن طُبع الكتاب عن دار الشؤون الثقافية عام 2001 بعنوان (تخطيطات محمد غني.. حداثة نسب لا حداثة حائرة).
(2)
جرياً على العادة، كنت أجول في أستوديو عالي السقف، بما فيه من منحوتات كثيرة، وكان إلى جواري متحدثاً عن انشغالاته النحتية هذه المرة. أتذكر تماماً أنه قال لي على سجيّته، تعرف يا عاصم، لا أشعر أنني نحات. أجبته، ومن يا ترى يكون إن لم تكن أنت؟ قال: حين كنت في إيطاليا، كان أستاذي (بيكين) قد أنجز يومها ما يربو على عشرة آلاف عمل نحتي، في حين أنني وبهذا العمر لم أتجاوز الألف قطعة نحتية، فيا لروعة روحك الهائمة في العمل. لم يحدث أن دخلت الأستوديو دون رؤيته وهو يعمل.. جذبني هذه المرة إلى منضدة متّسخة بنثار الجبس والغبار، وعليها أعمال نحتية كان قد انتهى منها قبل أيام، وأخرى نُحتت من زمن، وبالمُجمل وُضعت دون إعدادٍ مُسبق. قال: هذا اليوم عندي لك مفاجأة. كانت يديه تسحب جرار المنضدة، وعيناني ترنو إلى ما في جوفها، ليس ثمّة ما يوحي بمفاجأة، قلتها مع نفسي، إذ ليس هناك سوى مطرقتان خشبيتان، إحداهما متآكلة بشكلٍ شبه كلّي، حتى أنها لا تنفع للعمل. أما الأخرى بوضع شبه سليم، إلاّ من كشط ترك انبعاجاً طفيفاً في بطنها الإسطواني، إلى جانب مقاشط وعُدد نحتية أخرى. وقعت يده على المطرقة شبه السليمة، قال لي: هذه المطرقة التي عمل بها جواد سليم أعماله الخشبية، امسكها بيدك. قلت وأنا ذاهل: لا أجرؤ على فعل ذلك. قال: لماذا؟ قلت: أخشى أن أدنّسها، وهل يصح لي أن أضع يدي فوق آثار يد جواد سليم؟ بدا أشد إعجاباً بي، وقال: إذن امسك مطرقتي هذه. وفعلت، لكن عيناي ظلّت تطوف على مطرقة جواد، في حين كان محمد غني يحدثني أن جواداً كان مقلاً في عمله النحتي، في حين أن مطرقتي قد تآكلت من جرّاء الطرق المتواصل عليها.
(3)
في جلسة حديث بغرفة المشغل الصغيرة، وبعد أن فرغنا من شرب القهوة التي يحبها كثيراً، اصطحبني إلى مجموعة من القوالب الجبسية مستطيلة الشكل، وعددها 14 لوحة عُلّقت على جدار المشغل وبقياس يقارب 50سم × 70سم، وتصور بمجموعها سيرة السيد المسيح من الولادة حتى الصلب، وحملت عنواناً مؤثراً (درب الآلام للسيد المسيح). كنا سوية نقترب منها، ولمحت يده تحمل عصا تمرّ على القطع واحدة بعد الأخرى، شارحاً لي هذا السيناريو التراجيدي. كانت عصاه قد توقّفت عند القالب السابع الذي يصوّر حياة السيد المسيح بعد إنزاله من الصلب، وثمّة مجموعة من الحواريين وشخص يُرى من القفا يشارك هو الآخر في إنزال السيد المسيح، لكنه حاسر الرأس.
قال لي: هل تعرف هذا؟ قلت: ومن أين لي أن أعرف؟ قال: هذا أنا. وحين نُفّذ المشروع بالمرمر الطري الذي جُلب من مدينة (كارارا) جنوب إيطاليا وعُلّق في إحدى فضاءات الفاتيكان، ودُعيتُ مع كريمتي لحضور الافتتاح المهيب، وعلى رأسه البابا بولص الذي كان جالساً في عربة. شرحتُ له فحوى المشروع، وحين وصلت إلى القطعة ذاتها، قلت له: هذا أنا أحمل السيد المسيح. كان البابا مبتهجاً جداً لهذا الموقف، مع إعجابه بالعمل. اقترب مني وربت على كتفي قائلاً: بارك الله فيك، هذا أفضل دليل على حوار الأديان.
(4)
أتذكر أني عرضت عليه ذات مرة إنتاج كتاب آخر عن الأبواب حصراً، بدا لي بحاجة لتأمّل الفكرة، ربما كان وقتها يفكر في تكليفي بإصدار كتاب عن أعماله النحتية المدوّرة، وهي فكرة لم ترق لي يومها، لكنه أظهر بعد حين دهشته من اختياري للأبواب، لغرض دراستها نقدياً، لكني قد كسبت الجولة، وبالفعل فقد جلب لي كيساً كبيراً فيه ما يربو على 850 صورة موثّقة للأبواب. كانت غنيمة قد فتحت شهيتي لمراجعتها وتصنيفها، ثم تحليلها نقدياً. ولم تمر إلاّ أيام، كنت قد انتهيت من المشروع. وهاتفني مظهراً إعجابه، وقد تبنى شخصياً طباعة الكتاب بدار الأديب في عمان، وخرج إلى النور عام 2009، وهو بُحلّة طباعية فاخرة. كانت مكافأتي جرّاء ذلك أن ضيّفني في نادي العلوية على مأدبة غداء، وكنا فرحين حين أضيف للمائدة الدكتور بهنام أبو الصوف وكريمته.
(5)
في زيارة لداره القريبة من المشغل، كانت أم ياسر جدُّ كريمة معي أدباً وضيافة، وفي الصالة، باغتني النحات محمد غني بمفاجأتين دفعةً واحدة، الأولى عبارة عن ماكيت أصلي لجدارية نصب الحرية المنحوتة بمادة البرونز وبقياس يقارب متر ونصف في سبعين سنتمتراً، ومذيّل بتوقع جواد نفسه. كانت دهشتي تتضاعف، وفي الوقت الذي كنت سارحاً بالجدارية المصغّرة، متفحصاً الأداء الفذ، والتراتبية الرائعة للحدث، والمعالجة الشخوصية لأبطال الملحمة، وأنا كذلك، جلب لي تخطيطاً مائياً نادراً للورنا سليم بحجم ورقة A4 تقريباً، كان جواد قد رسمها، وبدت كلُقية فاتنة لا تُضاهى، خُيّل لي يومها أن جواداً أراد أن يكتب نصاً شعرياً، وكانت النتيجة هذا البورتريه المُدهش.
(6)
تحدثنا ذات مرة عن الأوضاع التي يمر بها البلد، كان ذلك في عام 2001، وقص عليّ الحكاية التراجيدية الآتية التي تمثّل تفصيلاً من تراجيديا العراق.
قال: كتبت (عريضة) إلى وزير الثقافة (حامد يوسف حمادي) الذي كان تلميذاً عندي، طالباً منه الموافقة على منحي إجازة قصيرة للذهاب إلى سوريا لعمل (قناع) جبسي أولي للشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) وهو طريح الفراش هناك. كانت الأيام تمر بلا رد، وطلبت لقائه للاستفهام عن التأخير. بدا لي كأني أقترف جرماً من نوعٍ ما، بعد أن تكلم الوزير قائلاً: أستاذ محمد، أخشى أن أحداً قد عرف فحوى طلبك، أنا لا أوافق عليه.
قلت: ما السبب؟ قال: ألا تعرف أن الجواهري هجا الرئيس؟ وموافقتي تعني كارثة عليّ وعليك. قلت: وما شأني بذلك؟ أنا أرغب بعمل قناع لشاعر العراق الكبير، وهو بنزعه الأخير. كان جواب الوزير هذه المرة رمزياً حاداً، إذ مزّق الطلب ورمى به في سلة المهملات. وكان هذا التصرّف سبباً في حرماني بعمل شيءٍ ما للجواهري رمز الشعرية العراقية.
(7)
كنّا نتحدث عن النحت وشجونه، وبعد استعراض أهم انشغالات الفنان، أطلعني على سبعة تماثيل من الجبس، نُحتت بمزاج شديد الوطأة، موضحاً لي أن هذه النماذج تمثل أيام الأسبوع للفرد العراقي. لم تكن الشخوص سوى حاملي صخور ثقيلة على ظهورهم، بتنويعات فيها ألماً مُمض، وهم يمضون بأيامهم في متوالية من التعاسات.
(8)
كنّا سوية في مشغله، تعاطينا شراب (الكامباري) الإيطالي عالي الجودة، متحدثاً عن محاولة اغتياله، حين ضرب أحدهم جرس المشغل، وخرجت لاستقباله، قائلاً: هل هذه السيارة لك؟ كانت كرونا بلون أبيض، قلت: نعم. قال: أعطني مفتاحها على الفور.
كنت ألمح مسدساً بين يديه، وقد تمكّن من السيارة ورمى باتجاهي طلقتان، مرقتا بالقرب من وجهي، وتركتا آثارهما على جدار المشغل. وحين ذهبت للإبلاغ، قال لي الضابط: أستاذ محمد، أنت فنان، هل تستطيع أن ترسم لي ملمحاً تقريبياً للص؟ أجبته: هات ورقة وقلم. ورسمت دائرة كبيرة وأخرى صغيرة في مركزها تماماً. ضحك الضابط وقال: ما هذا؟ أين اللص؟ قلت: لم أرَ شيئاً لحظتها سوى فوهة المسدس.
(9)
رحيله في زمن الخسارات، يعني استحضار خيال العراقيين مجدداً بتراجيديا هذا البلد الذي كثيراً ما كان يطمح محمد غني ليراه مرفهاً، لكنه، وبعميق الأسف، لم يوفر لهذا السندباد حتى حلم العودة.
(10)
مرحى لروحك العراقية المتدفّقة إنجازاً لا كلاماً عابراً، لهذا كنت مورقاً وكثيف الأغصان.