محمد عبده في أعماله المجهولة..

محمد عبده في أعماله المجهولة..

عرض مازن لطيف
يثير الحديث عن المصلح الإسلامي الإمام محمد عبده شجون الباحثين في الجانب الذي يبحث حول رواد التنوير، ومهما كتب عن هذه الشخصية يظل شيقا وغير ممل، لأسباب كثيرة، منها ارتباطه بعلاقات وصداقات مع مؤرخين ومستشرقين أجانب،

وكذلك أحدث نقلة نوعية في التفكيرالإسلامي، ولقد قيض للتراث الثقافي لهذه الشخصية الحفظ، على يد تلميذه محمد رشيد رضا الذي استطاع أن يحفظ الكثير من تراثه، وتراث جمال الدين الأفغاني شيخ الإمام محمد عبده، حيث ضمت أعداد (مجلة المنار) كماً كبيراًً من تاريخ هذين العلمين المصلحين، وهناك كتاب آخر لرضا بعنوان (تاريخ الأستاذ الإمام) ضم جانبا من تاريخه الثقافي، وبعده قام الباحث د. محمد عمارة بجمع تراث عبده، وظهرت المجموعة الكاملة لأعماله في خمسة مجلدات، تضم كتبه ومقالاته ورسائله،

ومع ذلك بقي ما هو غائب ومنطمس من تاريخ الإمام عبده، فجاء الباحث المصري علي شلش ليقدم ما تبقى من أعمال مجهولة للإمام، وهي أعمال من الأهمية بمكان، لأنها تضيء جانبا من تفكيره، وتوضح طبيعة العلاقة التي كانت تجمعه مع المؤرخ والمستشرق الإنكليزي (ويلفرد بلنت)، حيث نشر شلش مذكراته معه.
وضمت الأعمال المجهولة في الإصدار مقالات عبده التي كتبها في جريدة (أبو نظارة)، ومقالتين أخريين بعنوان (الحق المر)، و(الدين النصيحة)، إلى جانب ذلك نشر رسائله التي كتبها إلى جمال الدين الأفغاني، وحفني ناصف، والمؤرخ (ويلفرد بلنت)، كما نشر حواراته الصحفية لصحيفة إنكليزية، وذكرياته مع ويلفرد بلنت، كما ضم الكتاب وثائق مهمة، تضم صوره الفوتوغرافية التي التقطت له، ونسخاً من رسائله إلى الثلاثة المذكورين، صدر الكتاب عن دار رياض الريس ببيروت، ويقع في 155 صفحة من الحجم الصغير.
في المقدمة التي ابتدأ بها علي شلش كتابه يوضح دور محمد رشيد رضا في حفظه لتراث الإمام محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني، حيث يرى أنه أتاح للباحثين خطوة مهمة في سبيل التحقيق العلمي لتراث المصلحين، مهما كانت أخطاؤه، ومهما كانت وسائله في الجمع والحفظ وتغليبه للجانب الأخلاقي على أمانة العلم، ويرى شلش أنه منذ 1931م، وهو العام الذي صدر فيه كتاب (تاريخ الأستاذ الإمام)، لم يتصد أحد لجمع تراث محمد عبده، حتى جاء محمد عمارة فأصدرعام 1972م الأعمال الكاملة للإمام، وقد صنع عمارة ذلك بعد تجربة سابقة في جمع تراث الأفغاني، وإذا كان جمعه لتراث الأفغاني قد اقتصر على المشهور والمتواتر من أعماله، فقد كان جمعه لتراث عبده أشمل وأوسع، ويرجع ذلك في الأساس إلى يسر عملية الجمع بفعل الجهد الذي بذله رشيد رضا من قبل.
ويؤكد في مقدمته أنه إذا كان محمد عبده يتشابه كثيرا مع أستاذه في تنقله بين عدد من البلدان، وتقلبه في الفكر والحياة والسياسة، فهو يختلف عنه كثيرا في غزارة إنتاجه، وهدوء نظرته إلى الحياة والبشر، ويأسه من السياسة، وتشبثه بالإصلاح والتغيير عن طريق التربية والتعليم، وكان من نتيجة غزارة إنتاج محمد عبده أن بلغت أعماله الكاملة على يد عمارة خمسة مجلدات ضخمة.
وفي سياق مقدمته الطويلة أخذ شلش يفند دور عمارة في جمع نتاج الإمام، ويوجه نقداً لعمله في الجزء الأول من الأعمال الخمسة الكاملة، وهو ضمه لكتاب (تحرير المرأة) ضمن أعمال عبده، وهو الكتاب المشهور عن قاسم أمين، والذي نشره في القاهرة سنة 1899م. كما وجه نقداً إلى تحقيق عمارة لنتاج محمد عبده، يرى أنه لم يكن أمينا، فقد جارى محمد رشيد رضا في الحذف من بعض النصوص، ومن ذلك رسالة محمد عبده إلى الأفغاني، وهذه الرسالة سبق أن حذف منها رضا الكثير من العبارات التي ظن أنها شيء إلى كاتبها، أو بعض من أشار إليهم فيها، ثم جاء عمارة فحذف منها بعض العبارات دون أن يشير إلى ذلك، ولا سيما الأسطرالثلاثة التي جاءت في نسخة رضا.
ويرى شلش أن عمارة طبق هذه الطريقة غير الأمينة في تعامله مع النصوص على كثير من كتابات محمد عبده المنقولة عن الإنكليزية، مثل رسالة عبده إلى بلنت في الدفاع عن حكومة الثورة العرابية، ومع أن المحقق قد نقل هذه الرسالة من ترجمة سبق نشرها فقد كان الواجب العلمي في التحقيق يقتضي منه الرجوع إلى الأصل الإنجليزي.
ومن هذه المقدمة الطويلة التي كتبها شلش في لندن، يريد الخلاص إلى أن تراث محمد عبده المجهول ليس محدودا، ولا قليل الأهمية، وهذا ما حاولنا أن نعالجه في هذا الصفحات التي لا نستطيع أن نزعم أنها جمعت فأوفت، فلا شك أن هناك نصوصا أخرى لمحمد عبده تائهة بتوقيعه أو بغير توقيعه، في صحف عصره، أو خزائن ورثة أصدقائه، وربما يكشف المستقبل عن بعضها، ولا سيما رسائله إلى زملائه وأصدقائه ومريديه.
يقول شلش: لقد أحسست بذلك حين وقعت على تلك الرسالة القصيرة الطريفة التي كتبها لحفني ناصف، ونشرتها مجلة (الهلال)، فهل من المعقول أن يكتب محمد عبده رسالة واحدة يتيمة لحفني ناصف الذي ربطته به علاقة قوية، لا سيما أثناء عمل الأخير بمدينة قنا، بعيدا عن القاهرة؟.. لا شك أن هناك رسائل غيرها ولكن أين السبيل إليها؟.
مقالة عبده ورسائله
جريدة أبو نظارة، أصدرها يعقوب صنوع في القاهرة عام 1877م، ثم أوقفها الخديوي إسماعيل بعد نحو شهرين من صدورها، وكانت أعداد الجريدة الخمسة عشرة التي صدرت خلال الشهرين من الاستفزاز لإسماعيل، بحيث أضطر صنوع إلى الرحيل من مصر عام 1877م، وحط برحله في باريس، وهناك أعاد إصدارها من جديد، ولكن تحت عناوين وأسماء أخرى، بحسب ما يقول علي شلش في سياق تقديمه لرسالة كتبها محمد عبده في هذه الجريدة.
أما الرسالة فكانت ساخطة جدا من الجريدة، ويرى الباحث شلش أن دوافع عبده كثيرة منها رغبته الشخصية في عدم الظهور بمظهر معادٍ لإسماعيل وولي عهده توفيق.
رسالته إلى الأفغاني
ضم كتاب علي شلش مقالتين لإمام محمد عبده، أرسلهما لجمال الدين الأفغاني، فعبده كان من أخلص تلاميذه، وكان أطول أقرانه ملازمة، وقد أضفى في رسالتين الكثير من عبارات المديح التي كالها الإمام عبده لأستاذه الأفغاني، في رسالته الأولى يكتب:
ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك، وأنت تعلم ما في نفسي، كما تعلم ما في نفسك، صنعتنا بيديك، وأفضت على موادنا صورها الكمالية، وأنشأتنا في أحسن تقويم، فيك عرفنا أنفسنا، وبك عرفناك، وبك عرفنا العالم، أجمعين، فعلمك كما لا يخفاك علم من طريق الموجب، وهو علمك بذاتك، وثقتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صدرنا .. الخ الرسالة، ومما هو جدير بالذكر أن الإمام محمد عبده كتبها للأستاذ الشيخ على سبيل التبجيل والثناء، وشحنها بجمل مجازية، وذلك حتى لا يفهم أن في ظاهرها تقديساً مفرطاً لا يليق بشخص بشر، ولكنها نفثة المحب، ووفاء التلميذ للشيخ.
وتبدأ الرسالة الثانية بهذا النص:
اليوم عرفت نفسي وكنت بها سيئ الظن، أرى ما سبق إليّ، أو يساق من الكرامة بين الناس إنما هو من أحكام البخت والاتفاق، وغرور.. إلخ الرسالة، المغدقة والمغرقة في المديح والتبجيل.
كما ضم الكتاب أربع رسائل كتبها الإمام إلى ويلفرد بلنت الذي عاش بين 1840م ـ 1922م، وكانت هذه الرسالة قد نشرت في كتب بلنت، مركزا نقله على الجانب الموضوعي منها، مجافياً لكل ما له علاقة بالجانب الشخصي، وتلقي هذه الرسائل الضوء على أحداث تاريخ «الثورة العرابية»، والاحتلال الإنكليزي، كما تلقي الضوء أيضا على تفكير محمد عبده ومواقفه من الناحية السياسية بصفة خاصة.
حوارت صحفية وذكريات
في صيف 1884م استضاف المستشرق الإنكليزي ويلفرد بلنت صديقه الإمام محمد عبده في لندن، وسجل ذلك في يومياته التي نشرها شلش في الكتاب، وقد أقام الإمام في بيت بلنت، وهناك التقى به أحد الصحفيين وأجرى معه حواراً صحفياً نشره بعد ذلك في صحيفة «بال مال جازيت»، بتاريخ 17 آب 1884م، ثم أعاد بلنت نشره ضمن ملاحق كتابه، «جوردون في الخرطوم»، لكن شلش لديه شك أن ذلك الحوار يكون قد أجراه بلنت ذاته في بيته، أو زوجته، لأنه لم يشر إلى اسم من أجرى الحوار، مع أنه نشر مرتين، مرة في الصحيفة، ومرة أخرى في كتابه السابق.
ويقول شلش محقق وجامع مادة الأعمال المجهولة لمحمد عبده: إن هذا الحديث لم يظهر بالعربية إلا في عام 1940م، حين ترجمه الدكتورعثمان أمين، ونشره في مجلة (الثقافة) في القاهرة، عدد 84 في شهرأغسطس.
لكنها ترجمة ليست أمينة كما يرى شلش، ومع ذلك نقلها محمد عمارة في الجزء الأول من سلسلة أعمال محمد عبده الخمسة، بدون الرجوع إلى النص الأصلي، وهنا نلاحظ أن علي شلش لا يفوت فرصة النيل من جهد محمد عمارة، رغم جمعه لنتاج الإمام، وهو نيل ليس بغرض التشهير والتجريح، بل لغرض التأكيد على وجوب الصدق في التحقيق، إذ الأمانة العلمية تقتضيه ذلك.
ابتدأ الحوار بعبارة: مندوبنا، أو المراسل، للإشارة على الأسئلة، فيما تبتدئ إجابات الشيخ بعبارة: (الشيخ محمد عبده)، أو (الشيخ)، أو (الشيخ ضاكا).. الخ.
أما ذكرياته مع ويلفرد بلنت فقد دونها المؤرخ الإنكليزي، جلسة جلسة، حتى لم يبق شيء لم يذكره كان قد شهده معه، وهي مذكرات تكشف عن علاقتهما وصداقتهما معا، فقد عرف ويلفرد بلنت الإمام طوال ما يقرب من ربع قرن، وربطت بينهما صداقة روحية تركت أثرا عميقا في كل منهما، وظلت موصولة حتى وفاة عبده سنة 1905م.
وفاة محمد عبده
بتاريخ 28 تموز كتب بلنت في مذكراته الطويلة ما نصه: إن الخطب العظيم الذي يعلو على سواه هو أن محمد عبده مات، إنها خسارة شخصية فظيعة بالنسبة لي، وخسارة عامة، لا يمكن حصرها البتة بالنسبة للعالم الإسلامي، ولا نستطيع أن نغالب الخوف من أن يكون في الأمر شيء، فالوفاة كانت مفاجأة للغاية ..
وقد توفي الشيخ محمد عبده بتاريخ: 11 تموز عام 1905 م بالإسكندرية عن سبع وخمسين سنة، بعد معاناة مع مرض السرطان، ودفن بالقاهرة ورثاه العديد من الشعراء، وترك العديد من المؤلفات منها: (رسالة التوحيد)، وشرح (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) للجرجاني، و(الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية)، و(العروة الوثقى) مع معلمه جمال الدين الأفغاني، وغيرها مما جمعه محمد عمارة في أعمال محمد عبده الكاملة.
وضم الكتاب وثائق مهمة، منها صورة فوتوغرافية للإمام محمد عبده الشخصية وهو يصلي في لندن، وكذلك نماذج من رسائله بخط يده.
الجدير بالذكر أن د. علي شلش له أكثر من 20 كتابا في الأدب والنقد وتاريخ الصحافة والفكر العربي.