فلسفة الشك ومنهج تحقيق النص في فكر الشيخ محمد عبده

فلسفة الشك ومنهج تحقيق النص في فكر الشيخ محمد عبده

د. خالد يونس خالد
اعتبر مؤسس الفلسفة العقلانية الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596- 1650) أن الشك هو المرحلة الأولى أو التأمل الأول أو الأساس الأول في الفلسفة، والشك يجعلنا نعتبر كل حكم (كأنه كاذب)،

يجب التوقف عنده ودراسته لنصل إلى اليقين أو في الأقل لا نقع في الخطأ (1). وقرر ديكارت أن يرفض كل ماتعلَّمه في الماضي مستثنيا المنطق والهندسة والجبر واهتدى إلى أربع قواعد بهذا الصدد:
القاعدة الأولى هي عدم قبول أي شيء قبل التأكد من صحته بدليل واضح. هذا يعني أنه يجب تجنب كل الأفكار المغرضة والطائشة، وقبول ما يصبح واضحا وجليا فقط حتى أستطيع أن أحكم عليه عقليا دون أن اشك فيه. القاعدة الثانية هي تجزئة كل مشكلة أحتاج أن أبحثها إلى أجزاء عديدة للوصول إلى إيجاد أفضل الحلول له. القاعدة الثالثة هي أن أفكر بشكل منتظم.


أبدأ أولا بالأشياء والأفكار السهلة والبسيطة وأتدرج بها إلى الأفكار المركبة والصعبة، وأقوم بتنظيمها حتى تلك التي قد لا تتابع بعضها البعض من الناحية الطبيعية. وأخيرا جعل جميع ما تقدم في حالة واضحة ومفهومة بشكل أكون متأكدا أنني لم أهمل أي جانب فيه.
فلسفة الشك عند الجاحظ والغزالي
سبق المفكر العربي أبو عثمان الجاحظ المولود في مدينة البصرة العراقية (776 أو 777- 868 أو 869) ديكارت في فلسفة الشك. فقد كان منهج أبي عثمان الجاحظ في البحث العلمي آنذاك يقوم على الشك والتجربة، وبذلك اعتبر معلما للعقل العربي. كان الجاحظ يرفض قبول الفكرة دون مناقشتها والوقوف على صحتها. وكان يقول: “فاعرفْ مواضع الشك، وحالاتها الموجبة، لتعرف بها مواضع اليقين”. أما أبو حامد الغزالي الملقب بحجة الأسلام (1058- 1111) فقد سبق هو الآخر ديكارت في فلسفة الشك. زعم أنه توصل إلى الحقيقة عن طريق الشك بعد أن درس الفلسفة اليونانية وعلم الكلام الإسلامي إلى أن وصل إلى مرحلة الصوفية فنظر إلى قواعد الشريعة الاسلامية نظرة شك مما أدى إلى معرفة الحقيقة الباطنة. كان الغزالي يشك بوجوده لولا أنه عاد إلى اليقين بقوله “أنا أرغب فأنا إذن موجود” مقابل قول ديكارت I am thinking, therefore I exist. ويتفق الغزالي وديكارت في فكرهما في الهدف من الشك، ذلك ان الشك عند كليهما لم يكن للهدم، وإنما كان وسيلة للمعرفة والوصول إلى الحقائق. وكان الشك عند الغزالي طريقا ليبلغ اليقين لكنه كان متيقنا من وجود الله سبحانه وتعالى. وهذا ما اعتقده ديكارت من بعده بقوله، أن الله موجود وهو كامل.
الشيخ محمد عبده وفلسفة الشك في فكر طه حسين التوفيقي
كان الشيخ محمد عبده (1849-1905) أستاذا في جامعة الأزهر ويدَرِس تفسير القرآن وكتاب (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني. واعترف عميد الأدب العربي طه حسين (1989- 1973) بأنه كان يتشوق لدروسه التي يتحدث عنها الطلاب.
كان الشيخ عبده ذو ثقافة ثنائية، أزهرية وفرنسية. كما كان طه حسين، لكنه لم يدرس في الجامعات الفرنسية، على عكس طه حسين الذي درس في جامعتي مونبليه والسوربون، إنما عاش في المجتمع الفرنسي واطلع على الثقافة الفرنسية، وكان يعطي أهمية كبيرة للتربية إلى درجة أنه كان يعتبرها أساس كل شيء. فالتربية من وجهة نظره أساس عليه يُبنى كل شيء. وبالغ محمد عبده في أهمية التربية إلى درجة اعتبرها مفتاح حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، فيقول: “إن الأنسان لايكون إنسانا حقيقيا إلاّ بالتربية … وهي عبارة عن السعادة الحقيقية”.
كان شك محمد عبده نابعا من ثنائيته الثقافية الأزهرية الفرنسية، وحبه للتحقق من الأفكار والدراسات وما يأتي للعرب بواسطة الرواة.، مما توصل إلى منهج سماه “منهج تحقيق النص”. وهذا ما نعالجه في هذا البحث من زاوية تأثيره على فكر طه حسين في صياغة منهجه الانتقائي التوفيقي. ولا ننسى أن طه حسين تأثر نسبيا بالشك الديكارتي أيضا، ولاسيما في كتابه “في الشعر الجاهلي” الصادر عام 1926، حين قال:
أريد أن اصطنع في الأدب العربي هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في اول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل. وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.
يلتقي طه حسين مع الشيخ محمد عبده في إعطاء أهمية كبيرة للتربية، كما اعتبر التربية والتعليم الأولي ركنين أساسيين من أركان الديمقراطية. وأنهما وسيلتان للوحدة الوطنية وإشعار الأمة حقها في الوجود المستقل الحر. كما أن التعليم تربية وتهذيب للنفس.
النقطة المهمة في فكر الشيخ محمد عبده الإصلاحي هي الشك للوصول إلى اليقين. لكنه لم يشك في صحة القرآن الكريم بل كان يعتبره أساس الإصلاح. في حين كان يشك في كل ماجاء للعرب بواسطة رواة مثل الشعر لأنه من الصعب التأكد من صدقهم والتحقق من سلامتهم. والشيخ عبده يعلي شأن العقل حتى في تفسير القرآن. ويعتبر العقل قوة من قوى الإنسان، وهو هداية من الله . وهو في هذا يلتقي (المعتزلة) في قولهم، أن النتائج التي يصل إليها العقل سبيل توصل إلى الله. يقول محمد عبده بصدد حرية العقل: “يجب تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى … والنظر إلى العقل باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة”. والدعوة إلى أن “يحرر العقل من أية قيود. الأمر الذي ينَمي فيه روح البحث والتطلع والريادة، بل والمغامرة في آفاق البحث بميادين هذه العلوم”.
يلتقي طه حسين بمحمد عبده في شكه بالشعر الجاهلي، وهو يقول:
إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلفة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وأكاد أشك في أن مابقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لايمثل شيئا ولايدل على شىء، ولاينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي”.
ينبغي أن لا ننسى ان ثقافة طه حسين الكلاسيكية الغربية، ولا سيما الفرنسية اصطدمت بطريقة تفكيره العربي الإسلامي، مما جعله يرجع إلى أحضان الأدب العربي، بما فيه دفاعه عن الأدب العربي القديم. فتراجع عن كثير من الآراء الواردة في دراساته المنشورة في الصحف المصرية. ولعل من أهم مقالاته التي نشرها كان بعنوان (أثناء قراءة الشعر القديم)، وهو يقول:
ومع ذلك نحب لأدبنا القديم أن يظل في هذا العصر الحديث كما كان من قبل، ضرورة من ضرورات الحياة العقلية، وأساسا من أسس الثقافة، وغذاء للعقول والقلوب … لأنه أساس الثقافة العربية، فهو مقوم لشخصيتنا، محقق لقوميتنا عاصم لنا من الفناء الأجنبي، معين لنا على أن نعرف أنفسنا. فكل هذه الخصال أمور لاتقبل الشك … لأنه صالح ليكون أساسا من أسس الثقافة الحديثة.
ويلتقي طه حسين، نسبيا، بالشيخ محمد عبده في عدم شكه في صحة القرآن الكريم حين قال:
إذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرىء القيس والنابغة والأعشى وزهير، لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقا أخرى، وأدرسها في نص لاسبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن . فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي. ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه
(ينظر: شرحنا بصدد تردد طه حسين بين شكه وعدم شكه بالقرآن الكريم في الهامش).
أما دعوة طه حسين إلى العقل، وأهميته، فمطابقة إلى حد كبير بدعوة الشيخ محمد عبده، فقد كان رأي طه حسين مطابقا لرأي الشيخ محمد عبده، خاصة ما يتعلق بشكه في الشعر الجاهلي. وقد عبر كلاهما بوضوح عن ضرورة الالتزام بالقرآن على اساس أنه نص ثابت لا يمكن تغييره. في حين أن طه حسين كثيرا ما كان ينكر نفسه ويشك في وجودها.

كاتب عراقي مقيم في السويد