عواد ناصر.. الحلزون يرقص للغرباء

عواد ناصر.. الحلزون يرقص للغرباء

ناجح المعموري

الشعر يتراجع باحثاً عن أماكن الأحلام الضائعة، وهو ينفض الغبار عن قبعته الملونة بمرويات الصبايا العاشقات في صباحات باردة،

منادية على جسد فائض بحرارة تترقب لحظة تحول الشعر الصامت الى غناء يتعكز على ايقاعات الموروث الذي غادرنا ونسينا ايقاعاته الجميلة الصامتة والهامة في حين آخر، وهي تلوذ في مكان صغير جداً بحجم بيت الحلزون لتستعيد محكيات الذاكرة التي توزعت بين الشوارع والمقاهي ذاكرة الشعر وايقاعات الشاعر وهو يلوح للمرمى الباحث عن طفولة الأنثى وليس عن فتوة الفحل.

الحلزونة حلم غرائبي لحظة يدنو الى اليومي وهو يتجاور مع الشعر. الحلزونة الجميلة هي تخيلات لا أحد قادر على رسم صورة لها. لأن اللغة كما قال هايدجر مسكن العالم والشاعر عواد ناصر يلوح لمن تعلم منهم وليس بهذا الدرس اشكالية، لكن ظل صامتاً مكتفياً بالحلزونيات محاولاً التقاط ما يقوله الآخر عنه وهو الشاعر المهم والفريد في بحثه عن الأزمنة وسردياتها والأمكنة ومدفوناتها. عواد ناصر لا يتردد في معاودة الطرب عندما يردد أمام الحلزون العاشق:

كم أنت جميلة

يا حلزونة هذا العام وكل الأعوام

لا أعرف هل انت كما أنتِ..

أم أنتِ، كما أتوهم، زهرة عباد شمس انتقلت قبل ربيع العام، لكن المتكلم يعرف بأنه العام الذي خطف صورة الحلزون مرسومة بكلمات الحياة وقد اختارت العالم سكناً لائقاً لها، اللغة هي مخلوقات ابتكارية لبدئية، شكلت إرادة المرويات المعنية بالذاكرة وقد انشطرت تخيلياً جزء للإرادة والثاني للعالم... إنه البيت الذي آوى اليه الحلزون.

هناك في خيال العابر الأبدي بيت ما..

أيبلغه؟

متى، يا أخوتي السفهاء، يبلغه؟

هذا العابر الأبدي لا يبني بيت من الشعر،

ليهدمهُ

وفي وقت الفراغ يلوك ذاكرة ويضحك،

إنما الأيام تكرار الفجيعة

إنه فجر ممل آخر، يا أخوتي الشعراء

والدنيا نهيرُ غامض ٌ يجري

بلا سبب

سوى: من عادة الأنهار أن تجري

اكتشفت اليوم، أن لا بيتَ في أفق يلوح لعابر مثلي...

أنا الحلزون

إذ بيتي على ظهري.

الشعر يستعيد التكرار الذي مضى، ويمنحه الآن ولوح للكلام بكل قوة كامنة بالصوت. الحرف صوت / ايقاع والمنادي يرسم محكياته ويروض تاريخ العلاقة مع الحلزونة. انه نوع من سرديات الحلزون / العاشق المندهش وهو يلتقط الشعر / الكلام المسرع نحو لا أحد يعرف، وتصعد نشوة المنادي / الحلزون، الراكض وسط بيت مدور لحظة لا يراه أحد، وممتد عندما يدب ويحس به الشاعر وكأنه نُهير حاز صفة الزمن المتحرك وغير المتوقف.

الاسطورة في نصوص عواد ناصر مختفية والشاعر متكتم عليها، لأنه لا يريد اضاءة عناصرها، فيختار غير المألوف ويؤسطره ويضعه في اليومي التقليدي، لكن الاسطورة في نصه تقول عن نفسها بصوت صامت، لأنها تكتفي بالرمز المعتمدة عليه والذي ينفتح عن معان متوقعة، لأن مثل هذه الادخالات الأسطورية بحاجة الى متلق خاص، يتمتع بذكاء ومهارة للتعامل مع مكونات الرمز ويسحبه الى ما يومئ الى المعيوش والمعروف. بمعنى اعتياد عواد ناصر – كما هو واضح في نصوص بيت الحلزون – لا يعطل الامكانات الكامنة في الواقعي وما يتوفر عليه من كشوفات. وهذا ملمح بارز يميز تجربة عواد ناصر التي لم تكن محلقة بفضاء خاص بل استفادت من تجارب متميزة، أخذ هو منها ومعه عدد من شعراء السبعينيات، عبد الكريم كاصد، مهدي محمد علي، مصطفى عبد الله، عبد الزهرة زكي، واسماء أخرى، لأن سعدي يوسف شاعر قاد بشكل مباشر حركات الشباب وأعتقد بأن لا يقاوم ولذا تبدّت استفادة عواد ناصر منه واضحة في التداولات اليومية ومطاردته الصورة باعتبارها مكوناً بدئياً إذا تعاملنا معها مجموعة علامات أو رموز. لا أتذكر من قال بوجود تراجيديا الواقعة ولهذا سبب تخندق الأسطوري والغرائبي ودليلي على ذلك حلزونيات. كان ماهراً بقدرته البنائية وتوظيفه لما هو شفوي، تداولي، وجعل منه رمزاً متخندقاً بقوة المعنى المتناسل عن معان أخرى. قوة الشعر كما قال هايدجر يتضح بتعدد المعاني وبقاء المكشوف مستعداً لتناسلات المعنى.

ليس التقاط الرمزي اليومي وأسطرته ودمجه بالتداول بل يزاوج بين الرمز والأنسنة حتى تستمر الاتصالية. ولذا منح الحلزون خاصية آدمية.

للحلزون طبائع من يتحسس أخطاراً ما، فهو كما الحلزونة، [ مخلوق خنثى] يتحصن تحت دريئته.

العالم يزخر بالأشرار

شعراء أو تجار

لا فرق لدى الحلزون العابر بين الأعشاب وماء أنوثته " ثمة أنثى خائفة في أعماق الشاعر"

يتخذ الشاعر مساحة واسعة من أجل الوصول الى تنوعات بنائية والتقاط عناصر فنية يغذي بها نصه حتى يتمكن من الاسطورة. وتجربة عواد ناصر فريدة ومتميزة في اللعب على الاسطورة التي يضعها في المعقول كي تتخذ المنابت ويظل لاعباً وماهراً:

شُجيرتُنا الفتية أورقت عند الممر

البحر كان هناك

مويجة رفت وفرّت به،

بينما كان السنونو أبيض الاسنان كانت موجة الماضي

بطعم الملح

لو أغرق أنا لأذوق طعم مويجة غرقت

في هذا النص قوة التقاط الصورة – التصوير مستجمعاً كل ما تمكن عليه مبتكراً ما استطاع عليه من الرموز، مبتعداً عن التي كانت وذهب الى ما تمكن عليه من ترويضات اليومي والمألوف في المشاهد والمرويات. ونجح في رسم مشهد تشكيلي عالي الدقة ودقيق في تأطير التعدد الصوري الذي قاد للثنائية بين الذكر والمؤنث ولم يكن صعباً التقاط الترويض الرمزي فالشجرة مختلفة عن الحلزون المصاب بالكوليسترول، إنها شجرة الفتنة أعلن الممر السري للأنثى عن خصبها وقوة الاتصال اللذي مع اضافات، أغلقها الشاعر عندما قال:

لم أغرق أنا لأذوق طعم مويجة غرقت "

عواد ناصر شاعر مهم ويتميز بتجربة لم تقرأ جيداً ونصوص في ديوان " بيت الحلزون " نصوص اليومي المألوف وترويضات الحكايات الواسعة والعميقة، وقدم أنموذجاً في كلام عن الذات ضمن تصورات خاضعة لمحيط ثقافي أخضعه الشاعر الى تخيلاته العظيمة، الشعر لن يكون متعالياً اذا لم يتوفر على تخيل.