كرم نعمة
وقف الموسيقار العراقي الراحل وديع خوندة متسائلا بدهشة لا يمكن أن تصدر من فنان بمعرفته المتقدمة لعلوم الغناء، وهو يسأل الفنان طالب القرة غولي بعد أن صاغ لحن قصيدتين للشاعر مظفر النواب: كيف تسنى لك تلحين هذا الكلام الموغل في صعوبته الشعرية؟
كان خوندة محقا في استغرابه، فقصيدتا "روحي" و"حن وأنا حن" أصعب على القارئ في إيحاءاتهما الشعرية، فكيف للملحن أن يعبر عن روح الكلمات وليس آليتها في جمل موسيقية.
تلك كانت الثقة التعبيرية في ألحان القره غولي لصوت ياس خضر، كان يصنع مطولات غنائية بروحية عراقية عميقة، ويوظف نصوصا شعرية صعبة للشاعرين زامل سعيد فتاح ومظفر النواب، لأنه يدرك في النهابة أن قوة وتعبيرية صوت ياس خضر لا تجعلاه يتحفظ في المجازفة بالجمل الموسيقية.
لا تزال الأغنيتان مع عدد آخر من ألحان القره غولي ماثلة في الوجدان العراقي والعربي معا، وعندما يطلب الجمهور الخليجي اليوم من خضر أداء تلك الأغاني يعبر عن استغرابه، لأن من يطلبها ولد بعدها بسنوات طويلة.
حنجرة لا تشيخ
ياس خضر وهو يقترب من منتصف عقده الثمانيني، ما زال صوته أقوى من فرضية العمر نفسها. لم يصب بالوهن أو الارتخاء وكأنه بقي مشدودا لحنجرته في العشرين.
يكاد يكون هذا الفنان الذي لم تتوقف القنوات الفضائية العربية عن الاحتفاء به، مع أنه جزء من جيل سبعيني غنائي عراقي أصيب بالخيبة بعد أن لاقى الجحود والإهمال. فبعد رحيل فؤاد سالم، انزوى حسين نعمة منذ أن فشل في تقدير قيمة صوته الثمينة، ورفض فاضل عواد الاستمرار، بينما يصارع سعدون جابر الزمن في إخلاصه للغناء وحده.
لا توجد فترات قطيعة في تجربة ياس خضر مع الغناء، ويمكن أن نعزو ذلك إلى قوة صوته التي لم تتأثر بالزمن، عندما مثل تجربة غنائية عراقية معبرة عن أجيال لحنية من الخمسينات والستينات حتى السبعينات من القرن الماضي، ومع ذلك لم يتردد في التعامل مع ملحنين جدد، ونجح في ألحان جيل الثمانينات كما مثلت أغنياته للملحنين كريم هميم وسرور ماجد ومن بعد ماجد الحميد.
ويبدو اليوم تناول تجربة ياس خضر الثمانيني الذي تطارده إشاعات الصحة والمرض، بينما هو يرد عليها بالغناء المستمر، مناسبة للتعريف النقدي بهذا الصوت الموغل في عراقيته. وأرى أنه لو تسنى له أكثر مما يمتلكه اليوم من المعرفة الموسيقية، لكان له شأن آخر، ذلك ما عبر عنه الناقد الموسيقي الراحل سعاد الهرمزي، عندما نقل عنه الزميل عبدالسميع السامرائي في كتابه "ياس خضر: صوت الأرض" معبرا عن حبه لصوته، ليس بالقياسات التي يتصورها كمطرب، عادا إياه بالصوت المشحون بالحزن والالتياع الذي يكفي عشرين مطربا.
ويرى الهرمزي في واحد من أهم الآراء النقدية في صوت ياس خضر، أنه لو تخلص من تلك الشحنة الزائدة في صوته لاستقام أمره وأصبح سوياً من غيرها.
ويضيف "الجدير به أن يتخلص من شحنة الحزن وعند ذلك ينطبق صوته على القياسات التي تضعها علوم الغناء". لكن ماذا يفعل ياس خضر فهو وإن غنى مبتهجا يبقى صوته مشدودا إلى نبرته الحزينة.
لم يدرس ياس خضر الموسيقى، لكنه كان معبرا باهرا في أدائه، جعله الجوهرة الأثمن في قلادة الغناء العراقي، وذلك وفق الهرمزي لا يتعلق بجودة اللحن، بل بالأداء.
ألحان خمسينية
يقف ياس خضر في مقدمة جيل سبعينات الأغنية العراقية، لكنه أيضا نتاج معبر لملحني الحقبة الخمسينية، فهو وإن لم يؤد لحنا لعميد الغناء العراقي الراحل عباس جميل، إلا أن جميل وصفه بالصوت المعبر عندما تخرج المفردة المغناة من أعماق حنجرته النادرة المفعمة بالمتعة والحزن.
غير أن لحن أغنية "من علمك ترمي السهم" الذي صاغه الموسيقار الراحل رضا علي، وأغنية "أريد أعتب عليكم" للموسيقار الراحل يحيى حمدي، ثم باقة الأغاني التي وضعها الموسيقار الشهيد محمد عبدالمحسن، وعدد أقل من ألحان محمد نوشي، كلها تؤكد أن ياس خضر امتداد لألحان جيل الخمسينات في الغناء العراقي، وإن أحبه العراقيون وعرفه الجمهور العربي بألحان العقد السبعيني.
لا تغيب ألحان الفنان محمد عبدالمحسن عن ذاكرة الوله العراقي، فقصيدة "خلصت صدك" التي كتبتها الشاعرة الراحلة لميعة عباس عمارة، و"يا حسافة" التي كتبها هشام عبدالحميد و"دوريتك" للشاعر ناظم السماوي، و"ضيعوني" للشاعر الراحل غازي ثجيل، تؤكد ارتباط صوت خضر بهذا الجيل الذي يعد المؤسس التعبيري للأغنية العراقية، وهذا أيضا يفسر لنا قدرة صوت هذا الفنان العراقي في أداء ألحان أبناء أجيال تفصلهم عقود عن جيل الخمسينات. ومن يعود إلى لحن الفنان سرور ماجد "شكرا ياعمر" التي كتبها حاتم النعماني والتي أداها ياس خضر قبل سنوات قليلة وقبلها أغنية "يا حمد" التي صاغ نصها ببراعة شعرية ماجد عودة موظفا بفذلكة تعبيرية تاريخ أغاني ياس خضر، ولحنها الفنان الشاب ماجد الحميد، يكشف القدرة الأدائية للفنان ياس خضر للانتقال بين أجيال من الملحنين العراقيين، مع اختلاف الذائقة وطبيعة الألحان.
من المفيد لدارس الغناء العراقي المرور على تجربة الملحنين مع صوت ياس خضر، ليس لأن هذه التجربة تمتد على خمسة عقود فحسب، بل لأنها تكشف مسار الأغنية العراقية، ومن المؤسف أن لا يتعلم من هذا المسار الجيل الجديد الذي حول الغناء إلى مجرد مراث طائفية تقتل فيها الموسيقى التي تهيم بها الأرواح وتؤرخ لآمال وأوجاع الناس.
يكاد الموسيقار الراحل محمد جواد أموري يكون من بين أوائل الذين لحنوا لياس خضر بعد احترافه الغناء، ومع أنه قدم له حزمة مهمة من الألحان، مثل "أبوزركة" التي أعادت أداءها الفنانة سميرة توفيق ووصلت إلى الجمهور العربي منذ ستينات القرن الماضي، و"صحينا من الهوى" و"شط الفرات" و"الدنيا ما تسوى زعل"، إلا أن قصيدة النواب "الريل وحمد" بقيت الوشيجة التعبيرية لألحان أموري لصوت خضر، مع أنه لحن له أغنية أخرى لا تقل تعبيرية وتساؤلا عندما صاغ مناجاة الشاعر ناظم السماوي لحبيبته "لا تسافر"، ومن حسن حظ المستمع العودة إلى السيد العظيم يوتيوب الذي وفر لنا تلك الأغاني، كلما استبد بنا الحنين، بينما تهشم الذائقة السمعية بغناء لا غناء فيه.
مثلت تجربة الملحن الراحل كمال السيد علامة فارقة في صوت ياس خضر في واحدة من أشهر الأغاني "المكيّر" التي كتب كلماتها زامل سعيد فتاح، وكانت بمثابة القصة الغنائية التي تربط وله العشاق بالقطارات والسفر، وهي تستوحي عنوانها من اسم محطة قطار في مدينة الناصرية، ووداع المحبين المغادرين ما بين جنوب البلاد وعاصمتها. كانت تلك الأغنية بمثابة المعبر عن شغف الترقب في قصة غنائية يوثقها وداع الحبيب وصوت القطار ودموع العاشق وفراغ الطريق.
الثقة التعبيرية لطالب القره غولي بصوت ياس خضر أنتجت مطولات غنائية بروحية عراقية عميقة، بنصوص شعرية صعبة لزامل سعيد فتاح ومظفر النواب
استمرت نصوص زامل سعيد فتاح في صناعة تاريخ غنائي عراقي في صوت ياس خضر لكن بألحان القره غولي هذه المرة، فأغنية "اعزاز" كانت الانتقالة العربية لياس خضر، عندما عرفها الجمهور ما بين مشرق ومغرب الوطن العربي، كانت تبثها الإذاعات السورية واللبنانية والليبية والتونسية وتشد الأسماع إليها، بينما عبر الفنان اللبناني عبدالمجيد مجذوب عن ولع قل نظيره بهذه الأغنية وبقي يرددها كلما تذكر العراق. وإذا كان الخليجيون يعرفون ياس خضر بأغنية "اعزاز" وأحبوه في ما بعد بأغنية "يا حمد" فإنهم مستمرون في التفاعل مع تاريخ هذا الصوت، ذلك ما يكشف لنا الاحتفاء الخليجي المستمر بالفنان ياس خضر.
شكّل القره غولي مع صوت خضر ثنائية غنائية عراقية، فما كان يذكر أحدهما إلا وذكر الآخر، فبعد "اعزاز" اختار أصعب قصائد النواب مثل "ليل البنفسج" و"روحي" و"حن وانا أحن"، بينما مثلت قصائد زامل سعيد فتاح "كذاب"، "هوى الحلوين" و"يا ليل" آخر ما كتبه الشاعر الذي غادرنا في رحيل مبكر.
أما تجربة الملحن ياسين الراوي مع ياس خضر فتكاد تختصرها واحدة من أروع الأغاني التي بقيت ماثلة في المهج، عندما جعل سفر الحبيب تلويحة وداع وضياع بصياغة لحنية معبرة لقصيدة الشاعر غازي ثجيل "مسافرين" للصوت الملتاع عن أسى الوداع.
تكاد تكون هذه الأغنية التي يتم عادة مقارنتها بلحن أغنية "لا تسافر" لمحمد جواد أموري، من دون أن ينحاز العاشق لأي منهما على حساب الأخرى، أكثر الأغاني العراقية التي عبرت بعمق عن وجع السفر.
يبقى الموسيقار فاروق هلال مثله مثل محمد نوشي اللذان اقتصر تعاونها مع ياس خضر بأغنية واحدة لكل منهما "كالولي" و"كبرنا"، بينما شكلت ألحان الموسيقار عبدالحسين السماوي مرحلة موازية في تجربة ياس خضر، وكانت مختلفة كليا عن طبيعة ألحان أموري والقره غولي، مثل أغنية "على مهلك" التي تكشف لنا قدرة صوت ياس خضر في الانتقال بين الأطوار الغنائية.
أما الملحن نامق أديب وهو من جيل لاحق لملحني المرحلة السبعينية، فقد جسد في واحدة من أكثر الأغاني تعبيرية بصوت ياس خضر، فأغنية "تايبين" التي كتبها داود الغنام ما تزال ماثلة في الذاكرة وكانت موضع احتفاء من الجمهور الخليجي لأن ملحنها كان يقيم آنذاك في مدينة الكويت، فاستثمر نجاح دلالة مفردة "تايبين" في أغان أخرى مثل "مجروحين" و"راحلين" لكنها بقيت هامشا للأغنية الأولى، هنا يجب أن نذكر أن أديب نجح في استثمار تعبيرية ياس خضر في أغنية "ولو تزعل" التي كتبها داود الغنام للتذكير بمرحلة ألحان القره غولي في واحدة من الأغاني التي تعد من المطولات الموسيقية.
كان الملحن المصري الراحل سعيد البنا أقرب إلى الغناء العراقي من أي بلد آخر خلال سنوات إقامته الطويلة في الكويت، فلحن حزمة من الأغاني لصوت ياس خضر كتبها الشاعر الراحل فايق عبدالجليل، لكنها للأسف لم تحظ بنجاح بين الجمهور، مثلما حظي لحنه المعبر لصوت قحطان العطار "متى الجية".
كل ذلك يجعل ياس خضر الصوت التعبيري الذي بقي يقاوم سنين العمر، مثلما يكاد يكون من بين أقوى أصوات أبناء جيله، لذلك جسدت أغنيته "شكرا يا عمر" التي صاغ لحنها ببراعة موسيقية الفنان سرور ماجد، قصة هذا الصوت مع السنين في مناجاة شكر للعمر الذي أبقاه حتى السبعين.
واليوم يجلس الفنان العراقي ياس خضر الذي ولد بمحلة البراق في مدينة النجف عام 1937، متأملا كل تلك السنين المحملة بالأغاني وحدها، بوصفها الثقافة الأكثر تعبيرية لوجع ووله العراقيين، ليردد مرة أخرى "شكرا يا عمر".