يونس سعيد البغدادي
ما امتع الكلام عن شقاوات جيلنا، فقد كان ذلك الجيل آخر مظهر من مظاهر الحياة الشعبية الشيقة التي تربط الجيل الحاضر بالجيل الماضي، حيث كان ابناؤه آخر من مارس اعمال الفتوة بادابها ورياضتها، فهم اليوم من شذرات المجتمع البغدادي –مثقفين واميين- الذي تقف امامه (الفتوة العربية) فخورة بما انجبت،
حيث لم تكن لهم في صدور شبابهم ما للماضين من مواقف تقتضيها المغامرات، سوى ما كانت تقتضيه اسباب التفاخر والمباهاة. وقد شهدتهم وانا صبي ادرج، يمارسون الفروسية، ويلعبون الساس، وكانت فروسيتهم تتجلى بأبهى مظاهرها في الاعياد حيث ينطلقون زرافات ووحدانا الى حلبة السباق بالقرب من الباب الوسطاني ويسمونها بـ(المنظرة) فيستقبلهم هناك اصحاب الجياد، فيستأجر كل واحد منهم جوادا ويشتركون في سباق ودي لطيف حتى ينتهي بهم (الطراد) الى ساحة قريبة من باب المعظم حيث يجلس الوجوه والشيوخ على أرائك شعبية هي الاخرى، تسمى بـ(التخوت) وينبري اعظم الجالسين مقاماً فيمنح الفائز بقصب السبق جائزة نقدية، ولصاحب الجواد جائزة اخرى، وهكذا..
ولما كان الصبيان ممن يتشوقون الى التظاهر بمظاهر الرجال، فقد كانوا يمتطون ظهور الحمير بانواعها والشقي (الوكيح) منهم كان لا يقبل الا الحمار الحساوي المخضب جبينه بالحناء. وقد انقرضت هذه العادة مع الاسف ولم يبق من آثارها شيء اليوم الا في بعض المحلات الشعبية التي لم تزل على سليقتها الاولى في الحياة. ولقد شاهدتهم ايضاً –واقصد بهؤلاء اقراني- يقومون بواجبات الخدمة في المناقب النبوية التي كان يقيمها الموسرون من ابناء المحلات احتفاء بالمولد النبوي الشريف في الثاني عشر من ربيع الاول لكل عام وفي مقدم شهر رمضان المبارك وفي المناسبات السعيدة الاخرى، كذلك لا تخلو مجالس العزاء من وجود هؤلاء الفتيان حيث يضمخون اجواء هذه المجالس بطيب العود والبخور ويتبارون في تقديم واجبات الخدمة للحاضرين من ابناء المحلة وغيرهم من ابناء المحلات الاخرى خصوصاً في المجالس التي تقام احياء لذكرى الحسين عليه السلام.
وكما كان الاقدمون مولعين بالموال وغناء الموال، فكذلك وجدت اقراني مولعين بـ(العتابة) وهو من انواع الشعر الشعبي وبحره من بحور الشعر (الوافر) واشهر الناظمين بها رجلان احدهما يدعى (حمادي الجاسم) من عشيرة الجبور، والثاني: (عبد الله الفاضل) من شيوخ (عنزة) ثم ذاعت وانتشرت في بغداد وفي مدن الشمال والغرب، وقاعدة نظمها على نوعين الاول يتألف من اربعة اشطر ثلاثة منها متحدة القافية. ومجنسة بالجناس التام شأنها في ذلك شأن الموال والشطر الرابع يختم بألف وباء ساكنة وتجيء زائدة على الوزن كقول بعضهم في الرثاء:
تهزهز يالحد وانفض ترابيك
عزيز الروح هل نايم ترابيك
لفانه العيد واعيوني ترابيك
تهنّه يا ترف واحنه بعذاب
اما قاعدة الثاني فهي كقاعدة الاول غير ان الشطر الاخير يختم بالف مقصورة واحياناً بالف ممدودة كقول بعضهم:
ابات الليل جن بحشاي جانون
عفه على حاجبه مجرور جانون
يزرع الكلب ما يرويه جانون
كود آذار بسنين السخا
ابراهيم بن عبدكه
لم يجل بخاطر ابراهيم بن عبدكه وهو يعيش ايامه الرتيبة في بساتين وحقول قرية (العواشق) من اعمال قضاء المقدادية، انه سوف يصبح علماً مبرزاً من اعلام الاشقياء ويكسب صيتاً داويا يجعله مضرب الامثال في اعمال البطش والقوة والعنف لولا مقتل اخيه عبد حسن في غضون سنتي 1916-17 في تلك القرية. فوجب عليه ان يثأر له طبقاً للتقاليد العشائرية الموروثة في بعض المدن وفي الارياف بصورة عامة، فان الريف لا يرحم القاتل ولابد من ان يقتل، وهكذا وطد العزم على قتل (جواد) قاتل اخيه عبد، وتأهب للامر.
وظل يتحين الفرص ويبحث عن جواد حتى عثر عليه في احدى محلات باب الشيخ، فصوب على صدره النار وقتله في الحال، ثم امتطى صهوة جواده وفر هارباً الى بعقوبة. ولكنها نهاية لبداية مأساة مروعة فقد جاءت الانباء من بعقوبة تفيد بان ستة من رجال الجندرمة قد قتلوا نتيجة لمقابلة وقعت بينهم وبين ابن عبدكه، ومنذ ذلك الحين اصبح غريماً للحكومة تطارده في أي ملاذ يأوي اليه.. ولكنها كانت في كل مرة لا تظفر منه بطائل.. ثم تعددت جرائم القتل التي كان يقوم بها هذا الشقي البائس، حتى داهمه بعض الاشخاص المتنكرين في قرية العبارة، وكانوا ثلاثة استطاع ان يقتل اثنين منهم بعد ان صوب عليهم النار ولاذ الثالث بأذيال الفرار، وكان احد هذين القتيلين نجم الزهو العزاوي الذي لفظ انفاسه الاخيرة وهو يودع قصة استشهاده الى ولده الصبي سهيل.. وقصة حرمانه من عطف والده، وقد كانت القصة الاولى تتألف من كلمتين لاغير همس بهما في اذن ولده (قتلني ابراهيم) وصعدت روحه الى السماء.
وطبيعي ان السلطة قد تأهبت للامر، اكثر من ذي قبل فان من الاهانة بحقها ان يقتل رجالها الاقوياء على يد هذا الشقي لمغامر الجريء الذي ظل مختفياً عن انظار الجندرمة حتى فاجأه المرض وهو في قرية (خرنابات) فلما علمت السلطة العثمانية بذلك ارسلت قوة كافية من رجالها الاشداء فقبضت عليه والقت به في سجن بعقوبة تمهيداً لمحاكمته.. غير انه وبعد عشرة اشهر استطاع ان يفر من سجنه ليستأنف اعماله الاجرامية حتى سقطت بغداد على يد الانكليز سنة 1918.
وذات يوم قدم قطار كركوك النازل الى بغداد وهو يقل قوة بريطانية ويقل الى جانبها السياسية الانكليزية المعروفة (مس بيل) وعند وصول القطار محطة شهربان داهمه بعض الرجال المدججين بالسلاح وتغلبوا على القوة واسروا المس بيل، وعند ذلك قدم ابن عبدكه فاستقبله الرجال بما يليق من استقبال رئيسهم، فلما شاهدت المس بيل حفاوتهم به احتمت به فحماها واوصلها الى حدود بغداد ثم تغير الامر.
ظل ابن عبدكه يتخفى عن انظار حكومة الاحتلال وهي تلاحقه وتطارده ويشاء القدر ان يأتي اليه بمن يهمس في اذنه بان ابن عمه محمد دارا قد قتل لثار قديم فوقعت الهمسة عليه وقع الصاعقة واعترته حمى شديدة اضطر بسببها وبسبب تضييق الخناق عليه ان يفر الى المحاويل وفي 14 حزيران 1924 وبينما كان طريح فراشه حضر ثمانية من رجال الشرطة واحاطوا به من كل جانب فلم يستطع مقاومتهم واستسلم للامر الواقع فقبض عليه وارسل مخفوراً الى بغداد واجريت محاكمته وصدر عليه الحكم بالاعدام شنقاً حتى الموت، وقبيل تنفيذ الحكم ظهرت مس بيل، وتدخلت حتى خففت الحكم الى الاشغال الشاقة لمدة عشرين عاماً، وخرج من السجن سنة 1936 بعد ان قضى فيه اثنى عشر عاماً.. وعطفت عليه الحكومة فعينته مراقباً للآثار في بابل.
وسلخ في بابل ثمانية عشر عاماً كلها خوف وقلق لا يفهم مما يحرسه من الاثار والكنوز الثمينة الا انها المهمة القفر، لا يكاد يخرج من داره الا ليدخلها فقد وهنت نفسه وطار قلبه شعاعاً، لانه كان ولا شك يعلم بقرارة نفسه انه لا يزال (مطلوباً) وان كان يجهل لمن..؟
وفي 5 ايلول سنة 1954 وقد بلغ سهيل من عمره الثلاثين سنة قضاها يتيماً تشتعل في قلبه قصة ابيه (قتلني ابراهيم) وجد ان الفرصة قد حانت لاطفاء هذه الجذوة اللاهبة في قلبه فذهب الى الحلة حيث يسكن ابن عبدكه واطلق عليه النار ثأرا لابيه واتماماً لقصة يتمه التي طالت ثلاثين عاما.. ولما نقل ابن عبدكه الى المستشفى سأل عن قاتله فقيل له انه سهيل بن نجم الزهور فارتجف وصرخ (ليش احنة ما توافينا بعد؟ اني قتلت ابوه وعمامه قتلوا ابن عمي ثم لفظ انفاسه الاخيرة.
وهكذ اسدل الستار على حياة ابن عبدكه الذي اصبح مضرب الامثال في عالم الاشقياء.
ولم يقع اختيارنا لجعله مثالاً للاشقياء الا لكونه آخر من قتل من اشقياء الجيل الماضي.
عن كتاب (شقاوات بغداد في العصر الماضي)