وزارة لإيقاف إنتفاضة 1952 هل أرادها الوصي عبد الإله حكومة عسكرية؟

وزارة لإيقاف إنتفاضة 1952 هل أرادها الوصي عبد الإله حكومة عسكرية؟

لما تطورت الاحداث في انتفاضة تشرين الثاني 1952 واصبحت البلاد في وضع متدهور والاضطرابات شاملة في جميع انحاء البلاد، وخاصة في العاصمة بغداد، والازمة السياسية حادة وقوية كما قال الوصي رئيس الوزراء اللاحق.واصبح جلياً انّ الموقف لا يمكن ان ينقذه سوى الجيش، وقيام ادارة عسكرية تتولى حسم الموقف المتدهور، وهذا ما حدث بالفعل.

وامام تصاعد تلك الاحداث وخطورتها، اتصل الوصي بالفريق نور الدين محمود مصطفى، رئيس اركان الجيش، وكلفه بتشكيل الحكومة، بعد ان عرض فكرته على السفير البريطاني في اللقاء الذي تم بينهما في وقت سابق، ولم يجد معارضة منه على تولي شخصية عسكرية لرئاسة الوزارة بل شجعه ايضا على ضرب الاحزاب السياسية واعتقال قادتها.

ومن حديث للفريق نور الدين محمود مع عبد الرزاق الحسني. ان الوصي عندما كلفه بتأليف الوزارة امره ان يختار زملاءه من رجال الجيش دون غيرهم، وان يسوق رؤساء الاحزاب والساسة البارزين الى المجالس العرفية العسكرية وينصب المشانق في الساحات العامة.

وفي الساعة الخامسة من اليوم المصادف 21 تشرين الثاني بدأ راديو بغداد يعلن ان رئيس اركان الجيش سيلقي بياناً مهماً وفي الساعة السادسة اعلن نور الدين محمود ان الوصي قد كلفه بتشكيل الوزارة الجديدة وطلب الى الشعب ان يخلد الى الهدوء لانهاء حالة الاضطراب السائدة.

وفي الساعة العاشرة من مساء 23 تشرين الثاني اذاع راديو بغداد تشكيل الحكومة الجديدة واعلن اسماء اعضائها وقد جاء كتاب الاسناد الملكي المرقم 68 ما يلي:

وزيري الافخم السيد نور الدين محمود:

بناء على استقالة فخامة السيد مصطفى العمري من منصب رئاسة الوزارة، ونظراً للظرف الدقيق الذي تمر به البلاد، ولما نعهده فيكم من اخلاص ودراية فقد قرر رأينا ان نعهد اليكم بتأليف الوزارة على ان تنتخبوا زملاءكم، وتعرضوا اسماءهم علينا والله ولي التوفيق.

صدر عن البلاط الملكي في اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني لسنة 1952 ميلادية الموافق لليوم الرابع من شهر ربيع الاول لسنة 1372 هجرية.

عبد الاله

قام الوصي باختيار اعضاء الوزارة عدا قاسم خليل وعبد المجيد القصاب اللذان اقترحهما رئيس الوزراء. وضمت وزارة نور الدين محمود بالاضافة اليه حين اصبح وزيراً للدفاع والداخلية وكالة وترأسه اركان الجيش ايضاً، كل من عبد الرسول الخالصي وزيراً للعدلية والمواصلات والاشغال وكالة. وعلي محمود الشيخ علي وزيراً للمالية وماجد مصطفى وزيراً للشؤون الاجتماعية ووزيراً للاقتصاد بالوكالة والدكتور فاضل الجمالي وزيراً للخارجية وقاسم خليل وزيراً للمعارف واريح العطية وزيراً للزراعة والدكتور عبد المجيد القصاب للصحة.

لقد ذكر عبد الرزاق الحسني في كتاب تاريخ الوزارات العراقية الجزء الثامن صفحة 331 بان رئيس الوزارء نور الدين محمود أخبره كما في رواية وفي رواية علي ممتاز الدفتري ان الامير عبد الاله هو الذي رشح لرئيس الوزارة الجديدة اعضاء وزارته ومنهم الشيخ رايح العطية الذي كان موضع ثقة الوصفي واعتماده مع انه كان رئيس قبيلة (نصف امي) وكانت البلاد تعج بحملة الدكتوراه والخبرة الواسعة.

الاسباب التي ادت بالوصي لاسناد الوزارة لرئيس اركان الجيش:

ان فكرة الاستعانة بالجيش قد راودت اذهان الوصي الذي كان يمني نفسه في تأليف وزارة عسكرية تتولى اسكات كل معارضة للسلطة واعادة الامور الى نصابها فيذكر الحسني نقلاً عن فاضل الجمالي "عندما سافر الى نيويورك لحضور جلسات هيئة الامم المتحدة في عهد وزارة مصطفى العمري ماراً بلندن وكان الوصي الامير عبد الاله فيها يشرف على معالجة شقيقته المصابة بمس من الجنون فسأله عن الحالة في العراق ولما اجابه بما عنده من معلومات قال الوصي اذا استقالت وزارة مصطفى العمري فسأكلف رئيس اركان الجيش بتأليف وزارة تخلف الوزارة المستقيلة" وليس بهذا بجديد على تفكير الوصي فقد اراد ان يستخدم الجيش عام 1948 عندما تأزم الوضع وفلت زمام الامور من السلطة وصار الشارع سيد الموقف ولان هناك من اشار عليه بالابتعاد عن المارد النائم لان الجيش سيف ذو حدين وسيخيف الناس.

كما ان هتافات الشارع باسقاطه واسقاط الملكية واعلان الجمهورية جعلته يقدم على هذه المغامرة سيما وهو يعرف ان الجيش لم يبقى فيه ضابط كبير يعارض البلاط فلهذا لا خوف منه وهكذا اظهر الجيش هو الحل الاوحد فوقع الاختيار على نور الدين محمود لتولي المهمة الذي ليس له فهم واسع في السياسة وبعد ان اثبت خلال حرب 1948 كونه عسكرياً مطيعاً ومنفذاً بدقة لأوامر السياسيين حتى لو كانت هذه الاوامر مضرة بالمصلحة القومية والوطنية.

ان موجة الغضب الشعبي العارم ضد الوجود البريطاني التي شهدتها ايام الانتفاضة جعلت من اهم الامور للسفير البريطاني المحافظة على مصالح بلاده ورعاياهم وكانت السفارة تراقب عن كثب ما يجري في بغداد ووصف السفير البريطاني تشكيل الحكومة العسكرية برئاسة الفريق نور الدين محمود على انها حركة يتحسب لها المدنيون. كما وصفها في تقرير اخر بعثه الى لندن بأنه انقلاب دبره الوصي ونفذه نور الدين محمود وساعده بعض السياسين القدامى ومن جهتها فقد باركت الحكومة البريطانية الوصي هذه الاجراءات وايدت استعدادها للمساندة.

كما اكد الوصي دعم بريطانيا له وضرورة الاهتمام بالتحالف العراقي البريطاني من اجل ان يذكر الوصي اهمية هذا التحالف الذي بدونه سيكون الوصي وعرشه في خط وسيقوده الى النهاية. من كل ذلك نستنتج ان الحكومة العراقية في تلك الحقبة ما هي الا ايدي عراقية تديرها عقول بريطانية بهدف الحفاظ على المصالح البريطانية كما يرى البعض الاخر من ان تشجيع السفارة البريطانية للوصي على تشكيل حكومة عسكرية واستخدام العنف كان الغرض منه تغطية فشل سياساتها في المنطقة وكانت الحكومة العسكرية في الاسلوب الجديد للمحافظة على مصالحها القائمة.

ان معظم العراقيين قد ادركوا ان الخطر المباشر قد مضى من خلال استيزار نور الدين محمود الذي كان لادارته الخيالة والغليظة لشؤون البلاد الدور لمنع حدوث كارثة وكانوا يردون على العديد من الاصوات والانتقادات التي بدأت بالظهور بعد انتهاء الاضطرابات بانها غير شجاعة ولم تهتم بمصير بلادهم عندما كان في الميزان.

وقد كان لاجراءات نور الدين محمود التي حدد فيها مهمتين هما حفظ النظام العام ومحاكمة المسؤولين عن احداث الشغب وتقديم امتيازات للمطالب المعقولة للشعب. الدور في هذا حيث مضى نور الدين محمود في عمله بحماس لم تشهده السياسة العراقية من قبل وقد شكلت محكمة عسكرية للبحث في قضايا المحتجزين ووضعت التعليمات والضوابط للتقليل من كلفة المعيشة للطبقات الفقيرة وازيلت ضريبة الاستهلاك على الفاكهة والخضروات وخفضت ضريبة الكمرك للشاي والسكر والمنسوجات والاهم من ذلك تشكيل لجنة للعمل على وضع قانون الانتخاب المباشر.

اما نور الدين محمود فقد ذكر اسباب وعوامل ادت به الى تأليف الوزارة فقال في مجلس الاعيان 7 شباط عام 1953، ان وزارته جأت الى الحكم لأنه كانت هناك فتنة تجتاح البلاد وكانت الحياة العامة معطلة منذ حوالي ثلاثة ايام وكانت احوال الناس وممتلكاتهم مهددة وكانت ارواح الابرياء تهدر وكان حبل الامن مرتبك وكانت كارثة سياسية تحيط بالبلاد وارتكبت افضع الجرائم في شوارع بغداد. واضاف قائلاً:

" اننا جئنا مرغمين غير راغبين في الحكم مضحين بارواحنا ومصالحنا لا لمغنم نغتنمه ولا لثروة نكسبها ولا لكرسي نصطاده.. لسنا من الضالعين في ركاب المناصب والكراسي ولم نكن حتى الذين يدبرون المؤامرات والدسائس لاصطياد هذه الكراسي ولسنا من الغاوين في جمع الثروات ولا من الذين يستولون على الاراضي ويؤسسون المزارع والمضخات كان هناك واجب وطني قد دعانا للمجيء الى الحكم وقد لبينا هذه الدعوة عن طيبة خاطر نعم لقد لبينا الدعوة بعد ان شاهدنا بعد ان اختل الامن وارتكبت افضع الجرائم في شوارع بغداد ثم ذكر، واما ما يقال عن اقحام الجيش في السياسة او ان الادارة عسكرية فقول يدعو الى الاستغراب حقا. لقد كنت الشخص العسكري الوحيد بين زملائي الوزراء فهل ان انتسابي للجيش ومساهمتي في الحكم يعتبر خطيئة؟ وهل انتسابي للجيش لا يجعلني مواطنا، اتمتع بحقوق المواطنة وهل ان اشتراكي في الحكم على هذه الصورة يجعل الحكومة عسكرية وحكمها حكماً دكتاتورياً، مما لا شك فيه انه منطق غريب بل منطق اعوج مفلوج ".

عن رسالة (نور الدين محمود ودوره العسكري والسياسي)