د. خالد السعدون
لم تكن بغداد – والعراق كله – قد عرفت السيارات عمليا عند قيام انقلاب تموز 1908 في الدولة العثمانية. ولكن ذلك لا يعني انه لم يتم التفكير في ادخالها للعراق قبل ذلك الحدث. فلقد اشار القنصل الامريكي في بغداد في تقرير اعده في كانون الاول سنة 1907 الى انه لم يدخر جهدا منذ تعيينه في بغداد لشرح فوائد السيارات للجهات المعنية.
واضاف ان جهده ذاك لم يذهب هباءا فقد علم للتو بان امتيازا منح للإدارة السنية لإقامة وتشغيل خط للسيارات بين مدينتي بغداد وحلب. ثم استطرد قائلاً: "ان هذه هي البداية فقط، ولي ايمان راسخ بانه حالما تبدو لسكان ما بين النهرين جداة ومكانة السيارات فان ذلك سيقود الى تنافس من اجل الامتيازات لتشغيل تلك الاليات.. وصلتني بعض الكتالوغاتن فأرسلت بعضها لسعادة والي بغداد وبعضها الاخر لسعادة ناظم باشا الذي يرأس لجنة إمبراطورية من استانبول هدفها تحسين الأحوال فيما بين النهرين.. ولقد اعترف الرجلان بالحاجة الكبيرة للنقل المتطور، وهما يستخدمان نفوذهما لأحداث تعريف بالسيارات" ثم ذكر القنصل بان سمع بقيام احد المواطنين الأمريكان برحلة حول العالم بسيارته، وانه سيصل في نطاق رحلته تلك إلى مصر، واعلن عن نيته الكتابة له لإقناعه بالإقدام على القيام برحلة من سوريا للعراق بسيارته، اذ ان وصول سيارة الى العراق للمرة الأولى يعني كسب نصف المعركة لإيجاد سوق معهم لتجارة السيارات الأمريكية.
ولم يقتصر الاهتمام بإدخال السيارات إلى العراق حينئذ على الجهات الحكومية والقنصلية فقط، بل كان هناك اهتمام بالأمر من قبل التجار المحليين ايضا – ففي رسالة كتبها القنصل الامريكي في بغداد في كانون الثاني 1908، ذكر إن السيد محمود الشابندر مهتم بتأسيس شركة تسير سيارات ثلاث مرات أسبوعيا بين بغداد وحلب. ورغم ذلك لا يبدو أن أيا من المشروعين – الحكومي والاهلي – فد وجد طريقة للتنفيذ قبل انقلاب سنة 1908، فلا شيء يدل على ذلك وان كان القنصل الامريكي عاد في شهر شباط وذكر ان هناك مشروعا قيد التنفيذ لاقامة عدة خطوط للسيارات للسيارات في العراق، وان شراء السيارات اللازمة سيتم في استانبول تحت إشراف وزارة الأشغال العامة. والغريب ان تقارير القنصلية الأمريكية في بغداد كفت خلال الاشهر التالية عن ذكر اي شيء يتعلق بالموضوع، مما يدل على ان تلك المشاريع جمدت او ألغيت لسبب ما.
ولكن شهر تشرين الثاني من السنة نفسها شهد حدثا مهما في تاريخ النقل في العراق. وكان ذلك حين قاد السيد ديفيد فوربس D.Forbes، مدير شركة هك اندروس وفوربس الامريكية Mac Andrews and forbes Co.، سيارته من ميناء الاسكندرونة الى بغداد عبر حلب، "ملاحظات حول رحلته بالسيارة من الاسكندرية الى بغداد عبر حلب". ومنه:
عانة:
الطريق جيد، ولكنه صخري قاس، دونه صعوبة أخرى، وكان علينا في عانه اجتياز نهر الفرات، وقد تطلب ذلك إعداد رصف قوي وشحن السيارة على (شخاتير). وتطلب ذلك منا يومين كاملين. وعلى اي امرئ يرغب في عمل ذلك دون إضاعة الوقت ان يرسل قبله من يهيئ الرصيف والشخاتير.
وبعد عبورنا النهر مباشرة كانت الساعة الاولى من الطريق وعرة جدا وصخرية أعاقت سير السيارة الى حد ما – وفي الساعتين التاليتين كان الطريق رائعاً. وبعدها سرنا ثلاث ساعات، وحوالي اربعين ميلان في ارض بيضاء صلبة ذات رؤوس حادة متلألئة ناتئة فوق سطح الارض مباشرة. واي شخص يسلك هذا الطريق يجب ان يكون مزوداً باطارات صلبة حتى يتجنب عطل الاطارات نتيجة للصخور الحادة جدا. وخلال الساعتين اللتين تلت كانت الارض هشة الى حد ما في عدة اماكن، ولكنها جيدة جدا على العموم حتى وصلنا لابار الحلوة Halwat ومن هناك باستقامة الى عقرقوف اصبح الطريق منبسطا تماماً، ولم ارمثله صالحا للقيادة. واستمر الطريق جيدا بعدها لمسافة قصيرة حتى وصلنا ارضا سبخة صعبة جداً ويجب قطعها ببطء شديد. وتمتد تلك السبخة عمليا حتى الوصول الى الكاظمين.
كانت سيارتنا من نوع Argyll بقوة اربعين حصانا. وقد استهلكت من الاسكندرونة الى بغداد مائة وسنة وثلاثين غالونا من الغازولين – واذا عرفنا ان السيارة حين كانت في طور التجارب استهلكت ما معدله غالونا واحدا لكل اثنتي عشر ميلاً، يمكن القول ان معدل استهلاكها خلال هذه الرحلة كان يتطلب غالون واحد لكل سبعة اميال. وبذلك تكون قد قطعت بين الاسكندرونة الى بغداد مسافة تسعمائة واثنين وخمسين ميلاً.بغداد، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني 1908.
ومن ناقلة القول الاشارة الى اهمية تلك الرحلة، ويكفي انها كانت الاولى من نوعها، وانها اثبتت عمليا امكانية ربط بغداد بساحل البحر المتوسط بخط سيارات يوفر الكثير من الوقت على المسافرين اذ قطعت السيارة الرحلة من الاسكندرونة الى بغداد خلال سبعة ايام، في حين كانت الرحلة بين بغداد وحلب فقط تستغرق بالعربات ما بين اثنين وعشرين الى ثمانية وعشرين يوما كما مر سابقا، ومن الطريف الاشارة هنا الى ان رد فعل السكان في بغداد لرؤية هذه الالة لاول مرة كان مزيجا من الدهشة وسوء الفهم، لذلك اطلقوا على السيارة اسم "شمندفر" من الكلمة الفرنسية Chemin de fer اي سكة حديد.
وقد ادت رحلة السيد فوربس الى تأثير فوري، اذ تشكلت في بغداد شركة اهلية مساهمة هدفها شراء عدد من السيارات وتسييرها لنقل الزوار بين خانقين وكربلاء مروراً ببغداد. وتقرر ان يكون عدد اسهم الشركة اربعة الاف سهم، قيمة السهم الواحد منه خمس ليرات عثمانية (22.000 دولار امريكي). وقد استطاع القائمون على امر الشركة لغاية الاسبوع الاول من شهر كانون الثاني 1909 بيع الف واربعمائة سهم من اسهمها، اودعت قيمتها في البنك الامبراطوري العثماني وكان الساعيان في تأسيس الشركة هما مناحيم دانيال وعبد الجبار باشا. وقد خطط هذان الرجلان للشركة ان تشتري عشر سيارات، تقل كل واحدة منها مابين عشرة الى اثني عشر راكباً. كما انهما اخذا يبحثان عن ميكانيكيين وسواق اجانب يرضون بالقدوم الى بغداد بعقود عمل لمدة سنتين.
ورغم تلك الخطط والاستعدادات التي اتخذت صفة الجدية، فيبدو ان الشركة المذكورة لم تخرج مشروعها الى حيز التنفيذ العملي. اذ لم اجد اي ذكر لذلك في تقارير القنصلية الامريكية في بغداد طيلة المدة المتبقية من سنة 1909 وسنة 1910. ولم يستجد شيء الا في اواخر سنة 1910، حين كتب الوكيل القنصلي الامريكي في البصرة مشيراً الى ان احد الاثرياء تلك المدينة جلب سيارة من استانبول. ولكنه اضطر لاعادتها ثانية من حيث اتت، اذ انه لم يستخدمها الا نادراً لعدم وجود طرق ملائمة. واعرب الوكيل عن اعتقاده في انه لا امل في ايجاد سوق للسيارات في العراق عموماً، بسبب عدم وجود الطرق الملائمة، وعدم توفر الغازولين والبنزين لان البواخر البحرية ترفض شحنهما. وبالفعل كانت شوارع المدن العراقية حينئذ عبارة عن ازقة ضيقة لم يدخل عليها اي تطوير.
من بحث: محاولات تحديث وسائل النقل في العراق بين سنتي 1904 – 1914.