لقاء مع امين المميز..حين دخلت الكهرباء البيوت

لقاء مع امين المميز..حين دخلت الكهرباء البيوت

حوار : محمود هادي العبوسي
للذكريات طعم خاص وخاصة عندما يتحدث عنها أصحاب الذاكرة والذين يؤرخون جانبا من حياتهم الخاصة او حياة مدينتهم التي يعتزون بها.. واليوم يتحدث شاهد من اهل بغداد.. انها مناسبة للذكرى ومناسبة للحديث عن الماضي الجميل للمدينة الجميلة. الاستاذ امين المميز يعود بنا من خلال هذا الحوار الذي استذكر فيه بغداد القديمة.. كيف كانت وكيف عاش البغداديون فيها.

سؤال (1) الاستاذ امين المميز: انت من قدامى البغداديين، فهل لك ان تنورنا عن بعض نواحي الحياة البغدادية التي عاصرتها، وذلك بمناسبة يوم بغداد لهذا العام؟
الجواب: نعم ، لقد فطنت على بغداد ايام العهد العثماني وكان عمري نحو الست سنوات، وكانت محصورة بين الخندق ونور مجلة من جهة الرصافة، وبين النهر وحقول وبساتين ومقابر الشيخ معروف والشيخ جنيد، ومن الشمال محلة الجعيفر ومن الجنوب محلة الكريمات من جهة الكرخ ويربط الصوبين جسر خشبي عائم مكون من جساريات من الخشب ومهدد بالقطع كلما ارتفع منسوب مياه دجلة، بينما كان في بغداد قبل العدوان الثلاثيني عشرة جسور حديدية ثابتة دمرت ثلاثة منها بالقصف العداوني وتم اصلاحها بوقت قياسي وجهود عراقية جبارة ومواد محلية صرفة.
كان يحيط بغداد سور لم يبق منه الان سوى جزء قليل يقع بين قاعة الشعب وجامع الازبك، وكان في السور القديم اربعة ابواب هي باب المعظم وباب الطلسم والباب الوسطاني والباب الشرقي، وكان ترددي على باب المعظم اكثر من الابواب الاخرى لاننا كنا نمر منها في طريقنا الى بستان الصرافية، الواقعة خارج السور والخندق، وقد هدمت باب المعظم سنة 1925م لتوسيع الساحة المقابلة لها والتي تقع عليها قاعة الشعب، كانت بغداد يوم ذاك عبارة عن محلات وبيوت متلاصقة اشبه بكورة الزنابير، تتخللها درابين وعكود ضيقة بعضها لايتجاوز عرضة مترين. ولم يكن في بغداد الامس لا شوارع ولا ساحات ولا حدائق ولا متنزهات ولا ملاعب رياضية. واول شارع فتح فيها كان ايام الوالي خليل باشا وقد سمي باسمه (خليل باشا جاده سي) ويسمى اليوم شارع الرشيد، ان فتح هذا الشارع قد لازمته مشاكل عديدة، فعندما اقترب الهدم من منطقة الحيدر خانة احتج الاهالي واصحاب الدكاكين والوجهاء الذين يطال الهدم بيوتهم. فما كان من رئيس البلدية وكان يومئذ المرحوم رؤوف الجادرجي، الا ان يامر بالهدم ليلا، ولما الصباح اصباح جوبه الناس بالامر الواقع وليس لديهم من يشتكون اليه الا الله، ثم استمر الهدم حتى بلغ محلة السنك حيث تقع القنصلية البريطانية المعروفة محليا (بيت الباليوز) فاعترض القنصل البريطاني على هدم بعض مرافق القنصلية وجزء من حديقتها، فتوقف الهدم حتى نهاية الحرب العاليمة الاولى وبعد احتلال بغداد استمر تنفيذ المشروع حتى وصل الى الباب الشرقي، لقد كانت هناك قنصليات اخرى عدا القنصلية البريطانية استفادت من توقف الهدم منها القنصلية الالمانية وكانت اوسع القنصليات ابان تشييد خط برلين – بغداد واشتهر قنصلها بين الاوساط البغدادية التي كانت تتندر باخباره، وكان اسمه (الهر ريجارد)، ولكن الاهالي يسمونه (ريشان) وكان اقرب اصدقائه ووكيل مشتريات القنصلية المرحوم الملا عبود الكرخي وكان القنصل الالماني (ريشان) ينتقل بين محلات بغداد راكبا عربة ذات (جرخين) يجرها (تك حصان) يسوقه القنصل نفسه. لم تكن بغداد التي وصفتها انفا من انها مثل (كورة الزنانير) بحاجة الى وسائط نقل، فكان الناس ينتقلون اما مشيا على الاقدام او ركوبا على الدواب، واتذكر بعض الذين شاهدتهم يركبون الخيل والحمير او البغال، سواء اثناء العهد العثماني او ابان الاحتلال البريطاني او في اوائل الحكم الوطني منهم الطبيب اليوناني (ياقو) الذي كان يمتطي حمارا اسود اللون، والطبيب الايراني اليهودي (مرزا يعقوب) الذي كان يزور مرضاه راكبا فرسا بيضاء، واليهودي (مير الياس) الذي كان يمتطي حمارا حساويا ليوصله من بينه في (ابو سيفين) الى المستشفى الذي شيده في العلوازيه. والعالم عبد السلام الشواف الذي كان يطوف محلات الكرخ ممتطيا البرنون الابيض، والشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي الذي كان يركب بغلة بيضاء، وصلاح الدين الضراع متولي اوقاف العلوية المعروف بين اصدقائه ومحبيه (الملا شجر) الذي يمتطي حمارا ابيض، ومن الشخصيات الاخرى كان المرحوم (ادوار سيزار) الذي كان مترجما لدى الحاكم العسكري (ارنولد ويلسون) ثم مع السيد برسي كوكس، وبع ذلك كان مدرسا للغة الانكليزية في المدرسة الثانوية فكان الشاهد بين حين واخر راكبا حصانا ومعتمرا برنيطة ومصطحبا حقيبة تضم الرسائل و(الصوغات) و(الخرجية) التي يرسلها نوري السعيد بواسطة الحاكم العسكري الى عائلته التي كانت تسكن محلة (رأس الكنيسة) ابان وجوده خارج العراق بمعية الملك فيصل الاول.
اما وسائط النقل الأخرى غير الخيل والحمير والبغال فكان (البلم) و(الكفة) و(الجلج) و(الشختور) وسائط النقل النهري، والعربات على انواعها (الربل) او (اللاندون) والبرشقة من وسائط النقل البري. ولما تولى الوالي المصلح مدحت باشا ولاية بغداد سنة 1879 م اسس واسطة نقل بري جديدة هي (الكاري) الذي يصل صوب الكرخ بالكاظمية، ان عربة (الكاري) تسير على سكة الحديد ويجرها زوج من الخيول تستبدل بزوج اخر من منتصف الطريق بين الكرخ والكاظمية وهي محطة (المنطكة) لقد ركب (الكاري) مرة واحدة في حياتي وكأني ركبت طيارة (جامبو) فقد دعاني صديقي المرحوم إبراهيم الجلبي ابن الحاج عبد الحسين الجلبي وزير المعارف في معظم الوزارات العراقية الى قصرهم المعروف بـ (القصر ابو الايل) وهو المحطة قبل الاخيرة من وصول الكاري الى الكاظمية وهو الآن موقع ساحة الشاعر عبد المحسن الكاظمي. وكانت الدعوة لتناول الغداء يومئذ (القسنجون) وهي أكلة ايرانية يسحنها طبلخهم الايراني المدعو (ميرزا قلي)!!.
ايها الاخ الكريم: لقد جئت لزيارتي بالسيارة وربما استغرقت الرحلة بين بيتك وبيتي ربع ساعة.. ولكن هل تعلم كم كانت الرحلة تستغرق من الوقت بين دارنا القديم الواقع في محلة (الدنكجية) وداري في الصرافية؟ كانت تستغرق بين ساعتين او ثلاث ساعات واليك التفاصيل: نغادر البيت صباحا باتجاه سوق السراي مشيا على الاقدام، ونستقل (البلم) من شريعة (المكتب) ليوصلنا الى شريعة المجيدية (موقع مدينة الطب) حيث ينتظرنا الفلاح مستصحبا الخيل التي نمتطيها لتوصلنا الى بستان الصرافية موقع لسفارة اللبنانية حاليا) قنصلها بعد ثلاث ساعات على اقل تقدير ومثل هذا الوقت تستغرق رحلة العودة من الصرافية الى الدنكجية.
فقارن بين تلك الرحلة وبين رحلتك في الوصول الى بسيارتك اما السيارة الوحيدة التي وصلت بغداد في اواخر العهد العثماني فكانت سيارة الوجيه (حمدي بابان) ما عدا سيارة الوالي (خليل باشا) ولاسيارة غيرهما في بغداد، اما الان فان مئات الالوف من السيارات تطوف شوارع بغداد التي صارت تزدحم بها.
سؤال (2): هل لك ان تنورنا عن الخدمات العامة في بغداد كما عرفتها وبغداد اليوم؟
الجواب: اظن انك تقصد بالخدمات العامة الماء، الكهرباء، الامن، والصحة وما شاكل ذلك مما تقوم به عدة وزارات ومؤسسات وامانة بغداد في الوقت الحاضر.
فاما الماء، فكان امرنا معه مفجعا ومؤلما وبائسا. كنا نعتمد على السقاقي (جمع سقا) لتزويدنا بالماء من اقرب شريعة، وهي مياه ملوثة وقذرة و(خابطة) خاصة في مواسم الفيضان، فتملا (الحباب) بها ونصفي شيئا منها (بالبواكات) للشرب، ونستعين احيانا بماء البئر، ولكنه مالح و(مج) لايصلح لا للشرب ولا للطبخ، وكنا نستعمل البئر، (كثلاجة) لتبريد الفواكه في الصيف لان ماء البئر بارد يكون دافئا في الشتار فنستعمله للوضوء!! وبعد الاحتلال البريطاني لبغداد تاسست في بلدية بغداد لجنة اسالة الماء، فشيدت منشات بدائية في ستان الصرافية، فحفرت احواضا واسعة تملاها بالماء الذي تسحبه المضخات من النهر ثم تضخه بالانابيب الى بعض مناطق بغداد، بعد ان تتم تصفيته بالشب، فلا (كلور) ولا (اوزون) ولاهم يحزنون!!.
واما الكهرباء، فلم يكن موجودا في بغداد حتى الاحتلال البريطاني سنة 1917 م وكانت وسائل الانارة تقتصر على الفوانيس واللالات والثريات اوالايزات و(الادارات) التي تنار بالنفط والقناديل التي تنار (بالشيرج) وعلى شموع الكافور. وبعد الاحتلال تاسست في (العبا خانة) محطة للكهرباء لتزويد الشوارع والدور والدوائر بالكهرباء، فصرنا ندرس على ضوء المصابيع الكهربائية المنصوبة في الشارع المؤدي الى الجسر والمسمى يومئذ (عكد الصخر) وبعد عدة سنوات من تلك المعاناة توسعت شركة الكهرباء واسست محطة كهرباء الصرافية التي الغيت في الوقت الحاضر، بعد انشاء مصلحة الكهرباء الوطنية.
اما الامن فانه يتقف على قوة وضعف وحزم السلطة. فاذا كان جهاز الامن قويا وحازما امن الناس على حياتهم واموالهم وعلى اعراضهم. ولكن الجهاز كان على العموم ضعيفا في العهود الماضية، والعقاب على الجرائم متساهلا جدا ولم يحصل في بغداد طوال العهد العثماني غير حادثة اعدام واحدة عن جريمة اقترفها قاتل من اصل الاعظمية اسمه (ملكي) عندما ذبح ابن اخته في بستان الصرافية من الوريد الى الوريد فحكم بالاعدام ويجوز تخفيف العقوبة اذا ما تنازلت والدة المقتول عن حقها الشخصي ولكنها رفضت ان تتنازل واصرت على تنفيذ حكم الاعدام باخيها امامها فقيل بحقها البيت التالي:
ياللي صلبت (ملكي) رخي جنبته القاضي والمفتي مارضوا اخته (الجنبة هي حبل الجنب (القنب) الذي يستعمل للاعدام، ان حفظ الامن الداخلي لم يكن من واجبات الجيش العثماني وان واجب الجندرمة لايمثل الحراسة الليلية المنوطة بجهاز خاص يطلق على افراده اسماء (الجرخجية او البصوانية او البكجية، وهي كلمة تركية تعنى الحارس الليلي).
ان اصلاح الشرطة لم يكن معروفا في العهد العثماني فكان الافراد المناطة بهم مهمة الشرطة يعرفون اما (جندرمة) او (نوبة جي) او (جته) او (الهائية) ثم صار الشرطي يسمى (البليص) ومركز الشرطة (الوليس خانة).
يروى تاريخ بغداد ان احد الولاة المسمى (سليمان باشا ابو ليله) وقد اشتهر بهذا الاسم لانه كان يقوم بالتفتيش على الامن في بغداد او مباغتة الخارجين على القانون من العشائر ليلا، لذلك سمي (ابو ليلة) وعرضا فان سليمان باشا هذا هو زوج عادله خاتون بنت احمد باشا والي بغداد الذي اشتهر بمواقفه لحماية بغداد من الغزو الفارسي ايام نادرقلي شاه ايران الذي حاصر بغداد لمدة سبعة اشهر ولكنه لم يستطع اقتحامها، لان البغادة صمدوا للحصار ايما صمود ولما ارسل الشاه وفدا ليفاتح الوالي باستلام اوعز الوالي الى اصحاب العلاوي والدكاكين ان يعرضوا اما الوفد كل مالديهم من سلع وبضائع وطعام وشراب وفواكه. فانبهر الوفد مما شاهدوه من خير لدى اهل بغداد بعد حصار دام سبعة اشهر، فعاد الوفد ليخبر الشاه بعدم جدوى الحصار لان هؤلاء الناس (ما ينحطون بالعب)، فما كان من الشاه المغرور الا ان يلملم جيشه ويحمل قلاقيله وينكفى الى اعماق ايران لايلوى على شيء!! ان للوالي موضوع البحث ابنه سمها عادلة خاتون وقد شيدت في بغداد جامعين يحملان اسمها وقد تعرض الجامعان للقصف الجوي المعادي الذي لم تسلم منه حتى بيوت الله ومع ذلك يقول رئيس الولايات المتحدة المستر بوش في احدى مؤتمراته الصحفية.
(We have no quarrel with the Iraqi people) اي (ليس لنا نزاع مع الشعب العراقي) غير انه قد تبين بان نزاعه هو مع الله وبيوته وكنائيس المسيح ومع الشعب العراقية برمته شيوخا ونساء واطفلا.
نعود الى موضوعنا عن الخدمات العامة في بغداد ايام زمان ان الكلام عن الصحة والامراض يدي القلب. فلم يكن في بغداد مستشفيات ولا مستوصفات ولا عيادات ولا اطباء ولا دواء ولا تلقيح ولا اي شيء يحي البشر من الموت، سوى دواءمستشفى واحد بني في جانب الكرخ في اواخر العهد العثماني من تبرعات الاهلين يسمى (مستشفى الغرباء) اصبح في اوائل الحكم الوطني مقرا للمجلس التاسيسي ان معالجة المرضى كانت تتم على يد (المزانية) اي الحلاقين والدجالين والمشعوذين والسحرة وما اليهم وان العلاج كان بدائيا بشكل فظيع، واذا ما اجتاح البلد وباء كالطاعون او ابو زوعة (الهيضة) او التيفو او الجدري لم تعد المقابر تتسع للموتى، فاذا الم مرض بشخص مهما كان ذلك المرض بسيطا واملا للشفاء باقل قدر من الحيطة والمعالجة وبابسط انواع الاعشاب التي يشتريها المواطنون من سوق الشورجة او من سائر العطارين.
وان النتيجة الحتمية هو الموت ، لنا اربعة اطفال لوالدينا، وقد اصيب الطفل الرابع بالحصبة التي كان يمكن معاجتها بسهولة في هذه الايام غير ان الاختلاطات التي رافقت المرض اودت بحياة الطفل لفقدان الدواء او اللقاح!!.