إسراء خزعل ظاهر
بدأت مساعي الضباط العراقيين لتشكيل تنظيم ثوري جديد في أعقاب الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1948 حينما تأكد للضباط أن ما لحق بالجيوش العربية من فشل في معركة التحرير لم يكن بتقصير منها وإنما كان نتيجة لتقصير أنظمتها السياسية السائرة في فلك الاستعمار وتوجيهاته،
والتي جعلت من " الحرب المقدسة " مجرد " تمثيلية هزلية " أراد الحاكمون بها نفض أيديهم من تبعة الاتهام وغضب الرأي العام العربي، وقد أعقبت مأساة فلسطين حوادث خطيرة في العراق والأقطار العربية منها الانقلابات السورية المتعددة عام 1949، اغتيال الملك عبد الله من قبل بعض الشباب الفلسطينيين عام1951، وقيام الثورة في مصر عام1952 التي أعادت الثقة للنفوس وقضت على الخوف والتردد لدى الضباط الشباب إذ كان لنجاح محاولة الضباط هناك وما أحرزه قادتها من سلطه وجاه الأثر الأكبر في توجيه ذهن بعض الضباط إلى محاولة شبيهه لتلك التي يقومون بها في العراق، فضلا عن أحداث الحركات الشعبية في لبنان عام 1952 التي أجبرت بشارة ألخوري على الاستقالة.
يرى بعض ضباط ثورة 14 تموز 1958 ومنهم العميد الركن محي الدين عبد الحميد والعميد الركن عيسى الشاوي والعميد خليل إبراهيم حسين والعقيد محسن ألرفيعي والمقدم الركن عبد الرزاق محمد سعيد أن أول كتلة للضباط الأحرار أسست في فلسطين عام 1948 ومن قبل الرئيس(النقيب) رفعت الحاج سري.
ولكن العمل الجدي المنظم لم يبدأ إلا بعد قيام ثورة تموز عام 1952 في مصر، فأجرى رجب عبد المجيد اتصالا مع رفعت الحاج سري فيما بين شهري آب وأيلول 1952)، واتفقا على تأسيس تنظيم ثوري في الجيش وبدأ كل بمفرده في تنظيم وتجنيد الضباط الذين يثق بهم ويعتمد عليهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن آخرين قد فكروا في إنقاذ العراق وتخليصه من النفوذ البريطاني لكنهم أحجموا في اللحظة الأخيرة أو توقفوا عند الخطوة الأولى ومنهم العميد الركن حسن مصطفى الذي شرع بتنظيم للضباط الأحرار عام 1953، وانه فاتح اللواء الركن إسماعيل صفوت ونصحه بالتخلي عن هذه الفكرة والانصراف لواجبه.
اتفق اغلب المؤرخون على أن سنة 1952 وتحديدا في أواخر آب – وأوائل أيلول تعد البداية الحقيقية لهذا التنظيم.
ويمكن القول أن هذا التنظيم ضم ضباطا قوميين متأثرين بمباديء حزب الاستقلال.ويبدو أن أخبار هذه الخلايا وصلت إلى أسماع السلطة الحاكمة ولكن جميل المدفعي، رئيس الوزراء آنذاك، نفى هذه الأخبار في الحادي عشر من أيار 1953، وصرح بأن الجيش العراقي ابعد ما يكون عن مزاولة العمل السياسي وانه مشغول بأعماله العسكرية حصرا.
إن انبثاق تنظيم الضباط الأحرار في العراق، لم يكن محض صدفة بل جاء نتيجة لمعطيات تاريخية ونضالية تمتد جذورها إلى عمق نشوء الحركة الوطنية في الوطن العربي وعبرت اصدق تعبير عن نضالات الشعب العربي في استرداد حريته وكرامته وتلمس غده المشرق.
لقد كان رفعت الحاج سري الذي اشترك في حرب فلسطين عام 1948 أول من بدأ خطواته نحو تشكيل تنظيم سري داخل الجيش فأتصل ببعض أصدقائه من الضباط الذين يشاركونه الإحساس بسوء الأوضاع وعرض عليهم فكرة تنظيم أنفسهم فوافـق عدد منهم وكونوا خلايا في الجيش ومن أعضـاء خليته محي الدين عبد الحمـيد وإسماعيل العارف وخليـل إبراهيم حسـين وصـالح عبد المجيد السـامرائي وشكيب الفضلي ووصفي طاهر
وعبد الوهاب الأمين ومحمد مرهون ونعمان ماهر الكنعاني وعلي احمد فؤاد(والأخير انسحب في وقت مبكر من التنظيم) فقام بعضهم باجتهاده الشخصي بطبع وتوزيع نشرات تدين النظام الملكي وتدعو إلى الثورة عليه ووأده.
بحثت هذه الخلية كيفية اختيار الضباط للانضمام للعمل فجرى ترشيح عدد من الضباط من مختلف الرتب والصنوف ممن تتوفر فيهم الكفاءة والإخلاص واقترحت مفاتحتهم بحذر شديد وأرسل البعض من أعضاء الخلية لمفاتحة البعض من هؤلاء المرشحين الذين لهم بهم صداقة وصلة تربطهم.من هؤلاء صبحي عبد الحميد وهادي خماس..وعندما دخل صبحي عبد الحميد كلية الأركان عام 1953 فاتح عددا من الضباط وضمهم إلى التنظيم، ومنهم صالح مهدي عماش وجاسم العزاوي وحسن النقيب وخالد حسن فريد.
كان الضباط العراقيون في حركة الضباط الأحرار من العناصر الوطنية الواعية التي تمتلك القوة والقدرة على توجيه سياسة العراق نحو سياسة وطنية وقومية، وكانوا يشعرون بحالة التخلف التي كان يعاني منها الشعب العراقي، وتزامنت توجيهاتهم مع ظهور الأحزاب السياسية آنذاك ذات الأيدلوجيات الثورية، وازدياد نشاطها في صفوف الشعب والقوات المسلحة الذي أدى إلى زيادة الوعي الثوري لدى الضباط وبعض الجنود واخذوا يدركون أهمية الاعتماد على الجيش وطلائعه الثورية للقيام بالتغيير المطلوب الذي باتت الأحزاب السياسية غير قادرة على تنفيذه.
وكان اسلوب العمل مبنيا على نظام الخلايا(تتألف كل خلية من ثلاثة إلى خمسة ضباط وأحيانا أكثر من ذلك) خشية على سرية التنظيم ولم يكن لهذا التنظيم هيئة عليا تسيطر على إدارته كما لم تكن هناك هيئة مؤسسة للحركة بل كانت القرارات تؤخذ بشكل فردي فنتج عن ذلك ضعف في السيطرة وأخطاء في مفاتحة الضباط للانتماء إلى الحركة.
كان هدف التنظيم في بداية تشكيله ضم اكبر عدد ممكن من الضباط إليه ولاسيما الذين يتولون منهم قيادات في الوحدات الفعالة الضاربة.إذ كانت هناك أهداف وطنية عامة يشترك فيها الوطنيون كافة على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم.
لذلك وكما اشرنا فان تنظيم الضباط الأحرار كان يضم مجموعات من الضباط تجمعهم " الصداقة " بالدرجة الأولى,فكان " تكتل قاسم وعارف " ابرز هذه التكتلات.فكانوا لا يجمعهم فكر تنظيمي موحد ولا خطة سياسية أو اقتصادية مستقبلية.
وقد أشار نعمان ماهر الكنعاني إلى القول انه في عام 1954 كانت هناك قيادة موجودة فهم بعض أسمائها بعد حوار وانتساب للحركة وذكر أسماء بعض الأشخاص من هذه القيادة وهم محي الدين عبد الحميد، رجب عبد المجيد، إسماعيل العارف، عبد الوهاب الأمين، محمد سبع....بعد ذلك انضم إليهم آخرون عبد الوهاب الشواف، وناجي طالب متأخرا.. ويقول الكنعاني" انه في سنة 1954-1955 كانت توجد قيادة ومن بين الحضور عضوا فيها وهو الأخ محسن حسين الحبيب أما أنها قيادة منظمة أو غير منظمة فهذا جانب آخر".
كان رفعت الحاج سري على صلة وثيقة باللواء الركن نجيب الربيعي وفي بداية التنظيم كان يفكر أن يعهد إليه برئاسة التنظيم لما يتمتع به من سمعة حسنة واحترام معظم ضباط الجيش وقد كان يتكلم عنه دوما حتى شعر الضباط انه فعلا على رأس التنظيم وقد فاتحه رفعت في النصف الثاني من سنة 1953 ليكون على رأس التنظيم إلا انه رفض ذلك.
كان الربيعي يؤيد تنظيم الضباط الأحرار، كما كان على علم بأهدافه إلا انه لم يقبل أن يكون على رأسه ولا احد أعضائه.وقد أشار خليل إبراهيم حسين إلى أن رئيس التنظيم الروحي والفعلي حتى أواخر سنة 1956 كان نجيب الربيعي وكان يتصل به كل من رفعت الحاج سري ومحي الدين عبد الحميد قبل نقل الربيعي إلى خارج العراق.
كما أكد خليل إبراهيم حسين أن رفعت الحاج سري وآخرون وحتى نجيب الربيعي في تلك الفترة التي سبقت تشكيل القيادة لم يؤمنوا بتشكيلها وكانت عقيدتهم هي أن تشكيل القيادة يسبب التنافس والتناحر والحسد بين الضباط وانه إذا ما رشح ضابط للقيادة باعتباره آمر وحدة قد ينتقل ويحل محله ضابط آخر قد يطلب أن يكون في هيئة القيادة أيضا وهذا ما حدث فعلا من خلافات في القيادة التي شكلت.
عن رسالة "إسماعيل العارف ودوره العسكري والسياسي في العراق 1919-1989".