يعقوب سركيس
كتبت مجلة (لغة العرب) مقدمة للمقال هي:
لم يكتب أحد عن منارة سوق الغزل قبل نحو ثلاثة قرون سوى الإفرنج أما البغداديون أو غيرهم من العراقيين أو سواهم فلم يرصدوا لها نبذة ولا مقالا بل لم يذكروها ذكرا.
ولما أحتل البريطانيون بغداد، ذهب مهندسوهم إلى رؤية المئذنة وفحصوا ما حواليها، فخافوا سقوطها وأتلافها البيوت التي في جوارها إذا هوت فتدفن حينئذ أصحابها تحت الردم، فعزموا على هدمها حقناً لدماء الخلق فأوعزت السلطة المحتلة إلى أحد الأدباء المشاهير أن يكتب مقالا ينشر في جريدة العرب (في سنة ١٩١٨) ليهيئ الأفكار لقبول هذا الخاطر الذي اقلق أرباب السلطة المحتلة. فذهب صاحب الجريدة المذكورة يومئذ إلى السر برسي كوكس وافهمه أن لا خطر على هويها لأنها أصبحت كالصخرة الواحدة وقد مضت عليها السنون وهي في تلك الحالة التي يظن أنها خطرة وليست بها. فلم يقنع الحاكم المذكور بما قيل له لأنه آلى على نفسه أن ينسفها بالبارود كما نسفت مدخنة (العباخانة) تلك المدخنة التاريخية التي بنت في نحو ١٨٦٩ وكانت آية في البناء والمتانة والجمال.
فلما رأى مدير الصحيفة المذكورة أن صاحب الزمام لا يرجع عن عزمه، أسرع فاخبر بالأمر المرحوم السيد محمود شكري الالوسي ليذهب ويقنع برسي كوكس بأن يعدل عن تحقيق ما دار في خلده؛ فذهب الالوسي مع مدير جريدة العرب - وهو صاحب هذا المقال - وحملا الحاكم على أن يترك هذه المسألة الآن. إلى وقت آخر، ألم يرد أن يعدل عن رأيه، فقنع. وبعد سنتين كلف مهندس البلدية وهو المسيو شاقانيس الفرنسي بأن يقوي كرسي المئذنة بما عنده من الوسائل ففعل، وهي اليوم قائمة على ساقها كما كانت سابقا وتضحك من كل من حاول أن ينظر إليها نظرة إلى شيخة متغضنة.
أما مسألة بانيها أو معيد بناءها فبقيت غامضة اشد الغموض الغموض، وكل من كتب عنها من الإفرنج منذ نيبهر إلى يومنا هذا، وكذلك قل عن كتبتنا في
هذا العصر، فأنهم جميعهم لم يتفقوا في أقوالهم عن بانيها أو معيد بنائها؛ أما الآن وقد أخذ صديقنا المحقق البحاثة يعقوب نعوم سركيس ينشد عن صاحبها في كتب التاريخ، فلم يبق ريب في معرفة صاحب هذه المئذنة التي هي زينة الحاضرة ومفخرتها على تعاقب الأيام وهانحن أولاء نزف هذه
العروس، عروس الفكر، إلى محبي التاريخ والتطلع إلى الحقائق الراهنة.
(لغة العرب)
كتب الاستاذ يعقوب سركيس:
في نحو وسط جانبنا الشرقي من بغداد، في محلة سوق الغزل اليوم منارة منفردة لجامع قديم باسم المحلة، كانت في رحبة من الأرض مستطيلة قليلا تكسيرها نحو خمسمائة متر. وفي ثلاث من جهاتها أبواب لدور حقيرة. ثم منذ نحو ثلاث سنوات أحيطت الرحبة بجدار ارتفاعه نحو مترين ونصف. وفي هذه العرصة تباع الغنم صباح كل يوم. والمنارة في نحو وسط هذه الرحبة وهي شاهقة البناء تشرف على المدينة وأنحائها من علو لا يماثله علة عندنا. وهي كذلك الشيخ الفرد النادر الذي شوهت وجهه تجعدات العتي لكنه لا يزال منتصب القامة متجلدا صابرا على حلو الأيام ومرها. وصبر المنارة على عوامل الطبيعة دليل باهر على تقدم فن الريازة في ذلك الزمن وعلى انتقاء الرزاة مواد البناء من احسن أنواعها وإتقانهم صنع الأجر وغير ذلك.
وبمقربة من المنارة في غربيها الجنوبي على بضع عشرات من الأمتار مسجد جامع بغير منارة معروف على الألسنة بجامع سوق الغزل. وإذا استقصينا الخبر من الماضي عن الجامع التاريخي القديم الذي بنيت له المنارة أجابتنا صحائف الأخبار أنه كان يسمى جامع الخلفاء قبل نيف وثلاثين قرون على أقل تقدير كما سيجيء. وبإيغالنا في تاريخه في ما قبل ذلك نجد أنه كان يسمى في القرن السابع للهجرة وما قبله (جامع الخليفة) أو (جامع القصر) .
جامع سوق الغزل غير جامع الرصافة
نشرت جريدة (العرب) البغدادية - في عددها الصادر في ١٤ أيلول سنة ١٩١٧ والمرقم ٣٨ - مقالة بغير توقيع عن جامع سوق الغزل أنه مع الرصافة وأن المنارة التاريخية منارته وشتان بين قولها وبين الحقيقة؛ ثم نقلت مجلة مرآة العراق تلك المقالة (١٣٢٧هـ - ١٩١٩) : ص من ٨ إلى ٩ من عددها الثاني.
ومن الغريب أن كاتب المقالة بعد أن استشهد بابن الأثير عن بناء جامع الرصافة في ١٥٩هـ (٥٧٥م) شهادة لا علاقة لها بجامع الخليفة أو القصر أورد عن الرصافة وجامعها كلام معجم البلدان وهو ما يؤيد أن محلة الرصافة على مقربة من مرقد الإمام الأعظم أبي حنيفة. وهو المرقد الذي لا يجهله أحد في بغداد وموقعه في شمالها يبعد عنها نحو ثلاثة كيلو مترات في ما نسميه (الأعظمية) أو (المعظم) على اصطلاح آخر. وذهب أيضاً مختصر تاريخ بغداد القديم والحديث (ص ١٢ ح) إلى جامع سوق الغزل هو جامع الرصافة وأنه في محلة راس القرية. والصحيح أنه اليوم في محلة سوق الغزل.
أن ما قاله الكاتبان لا يفوت الكثيرين لكني رأيت الأجدر أن أنبه على ذلك ولا سيما أن البحث عن جامع الرصافة وجامع الخليفة أو القصر متداخل بعضه ببعض أحياناً. ولهذا أورد شيئا مما كتب عن ذلك متبعا اتساق الكلام غير نلاحظ لتواريخ تأليف الكتب إذ غرضي البحث عن جامع الخليفة ومنارته وبنائها بعد بياني أن كلا من هذين الجامعين هو غير الآخر. قال في معجم البلدان:
(رصافة بغداد، بالجانب الشرقي. لما بنى المنصور مدينته بالجانب الغربي واستنم بناءها، أمر ابنه المهدي أن يعسكر في الجانب الشرقي وأن يبني له فيه دورا وجعلها معسكر له فالتحق بها الناس وعمروها فصارت مقدار مدينة المنصور. وعمل المهدي بها جامعا أكبر من جامع المنصور واحسن وخربت تلك النواحي كلها ولم يبق ألا الجامع وبلصقه مقابر الخلفاء لبني العباس وعليهم وقوف وفراشون برسم الخدمة ولولا ذلك لخربت وبلصقها محلة أبي حنيفة الإمام وبها قبره...) اهـ.
فلا أدري كيف تسنى لصاحب مقالة جريدة (العرب) والمرآة أن يوفق بين ما قرأه أن المهدي بنى جامعا بالرصافة وبلصقه مقابر الخلفاء... وبلصقها محلة أبي حنيفة وبها قبره، وبين ما يراه بعينه أن جامع سوق الغزل يبعد عن مرقد أبي حنيفة ما يزيد عن ساعة
للراجل.
وجاء في مراصد الإطلاع ما في معنى ما ذكره ياقوت ثم قال: (وقد كانت وانقطعت العمارة عنها (عن الرصافة) فبنى المستنصر سورا حسنا بالآجر)
وفي كتب مناقب بغداد ص ٣٣ ما قوله: (قال هلال بن المحسن: عبرت إلى الجانب الشرقي من مدينة السلام بعد الأحداث الطارئة فرأيت ما بين سوق السلاح والرصافة وسوق العطش ومربعة الخرسي والزاهر وما في دواخل ذلك ورواصفه وقد خرب خرابا فاحشا حتى لم يترك النقض جدار قائما ولا مسجدا باقيا. وأما بين باب البصرة... من الجانب الغربي فقد أندرس... وصار الجامعان بالمدينة (مدينة المنصور) والرصافة في الصحراء أو بعد أن كانا في وسط العمارة.) أهـ
وكان ابن جبير نزيل بغداد في سنة ٥٨٠هـ (١١٨٤م) وهذا ما جاء في رحلته ص ٢٢٦ من الطبعة الإفرنجية: (... وبأعلى الشرقية (الجانب الشرقي) خارج البلد محلة كبيرة بازاء محلة الرصافة كان باب الطاق المشهور على الشط. وفي تلك مشهد حفيل البنيان له قبة بيضاء سامية في الهواء فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبه تعرف الملحة.)
وورد ما يلي في المخطوط الذي عرفناه (بالحوادث الجامعة) قال:
(وفيها (وفي سنة ٦٥٣هـ - ١٢٥٥ م) وقع بين أهل محلة الرصافة ومحلة أبي حنيفة والخضريين فتنة أفضت إلى محاربة شديدة استظهر به أهل محلة أبي حنيفة والخضرين على أهل الرصافة وطردوهم إلى باب المحلة وركهم السيف فدفعهم الليل فازدحموا للدخول فمات منهم جماعة نحو ثلاثين نفرا وحصروهم ومنعوا أن يدخل إليهم شئ حتى الماء من دجلة فاضر بهم ذلك فنفذ شحنة بغداد من زجر أهل محلة أبي حنيفة وكفهم عن الشر ثم أنهم اقتلوا بعد أيام وخرج بين الفريقين خلق كبير وقتل جماعة واستظهر أهل محلة أي حنيفة) والخضرين على (أهل الرصافة) وباتوا تلك الليلة واستعدوا للقتال وعزموا على إحراق محلة أبي حنيفة وعبر من أهل باب البصرة لمساعدة أهل الرصافة خلق كبير...)
ولا بأس من إيراد ما جاء في هذا المخطوط بهذا الشأن أيضاً غير مجتزئ بالنقاط الخاصة بالبحث لما فيه من الفائدة. وهذا قوله:
وهذا كاف لبيان موضع الرصافة وجامعها ومن ثم لرد قول جريدة العرب ومجلة المرآة وكتاب مختصر تاريخ بغداد القديم والحديث.
مجلة (لغة العرب) لسنة 1926