محاكمة جريدة بسبب قصيدة! .. الصحفي كامل الجادرجي امام القضاء سنة 1931

محاكمة جريدة بسبب قصيدة! .. الصحفي كامل الجادرجي امام القضاء سنة 1931

د. سعاد محمد مرهج التميمي

في عام 1931عقدت محكمة جزاء بغداد محاكمة لكامل الجادرجي المدير المسؤول لجريدة الاخاء الوطني، لأنه نشر قصيدة بعنوان "جرس الحرس" (ومن المفيد ان نذكر أنّ القصيدة منشورة في الصفحة الثالثة من هذه الجريدة في صفحة الشعر والبيان وقد خصصت الجريدة هذه الصفحة مرة للشعر وأُخرى للأجتماع وأُخرى للتاريخ وأُخرى للعلوم المختلفة أي كانت صفحة تخصصية).

، وقد رأت الحكومة وقتئذ، ان هذه القصيدة تثير الكراهية والبغضاء ضد الحكومة، والطعن فيها.

وكان مطلع القصيدة:

رن باذن الصبح صوت الجرس

وانتفض الناس ونام الحرس

ثرنا فاين النور، اين القبس؟

في ذمة المجد ضحايا الفرات

بغداد يا قبلة كل الجهات

غطت على حق البلاد الصريح

وفي سبيل الحق تلك الدما

كيف استباحوك وانت الحمى

سياسة الكيد وغمط الحقوق

وقد ادعى المدعي العام، كما رأت الحكومة وقتئذ ان هذه القصيدة طعنا في الحكومة وانها مما يثير الكراهية والبغضاء عليها وقد استشهد ببعض الأبيات ومنها "في ذمة المجد ضحايا الفرات... الخ" في "غطت على حق البلاد".

ذكر الجادرجي ان هذه ابيات لا تحوي غير الحماسة وتنبيه الأمة لتستفيد من الفرصة التي قد تحصل في المستقبل وان المسؤولين في المعارف يريدون ان يستحدثوا ادخال الغرور القومي في منهاج الثقافة في مدارس الحكومة فأنى لهذه الابيات ان تبلغ الوسائل التي سيتخذونها لايجاد الغرور القومي في نفوس الشباب.

تساءل الجادرجي: "فأنا في موقفي هذا اسأل المحكمة المحترمة متى كان الشعر الحماسي محرما في بلد من بلاد الله ولاسيما في هذا البلد، الم ننشر دائما في المجلات والجرائد كل يوم ما هو اشد حماسة بكثير من هذه القصيدة؟ ".

اورد كامل الجادرجي ابياتا من الشعر تدرس في المدارس العراقية وتنشد اناشيد اكثر صراحة من هذه لا ترى الحكومة بأسا في قراءاتها وانشاء التلاميذ لها مثلا جاء في الصفحة 26 من كتاب "الاناشيد العصرية الحديثة":

فانفضوا سيفكم وانهضوا كلكم

واطردوا خصمكم كلكم يا عرب

وأُخرى جاء في الصفحة 11 من "المحفوظات الحديثة":

خسرت صفقتكم من معشر شروا العار وباعوا الوطنا

واشارت احدى الصحف، ان جريدة الاخاء الوطني تكللت بتاج الظفر ونجت من قفص الاتهام عالية الرأس، موفورة الكرامة.

والمحاكمة الأُخرى عقدت بعد ما نشرت جريدة العراق مقالا بعنوان "يكفرون عن سيئاتهم بالمغالطة والتضليل ولكنهم مفضوحون" جاء فيه "وهذه الفضيلة التي يتحراها الشبيبي الصغير (يقصد بـ محمد باقر الشبيبي: ولد في مدينة النجف 1889م وهو من اسرة آل الشبيبي من الاسر التي لها في تاريخ النجف الاشرف، بل العراق كله سجل حافل في دنيا الادب والكفاح الوطني، درس العلم والادب وبعدها درس مقدمات العلوم وتعنى دراسة اربع مجموعات من العلوم وان كل مجموعة منها تضم عددا من العلوم المختلفة لذلك يدرس الطالب الأسس الثقافية التي يستند اليها بعد تلك المرحلة والمعلومات التي يحصل عليهااليوم بين الناس)، وكان قد حصل عليها حضرته من زوايا الصحون والمساجد بالامس، يجب ان تكون آخر ما يطمح اليه الكاتب فيما اذا كتب وعالج قضايا وطنية تتعلق بسياسة البلاد".

ذكر الجادرجي ان رزوق غنام هو صاحب جريدة العراق ومديرها المسؤول منذ تأسيسها حتى صيروته نائبا في المجلس الحالي.. القانون لا يساعد ان يبقى النائب مديرا مسؤولا لجريدة ما كما أن المدير المسؤول الرسمي الآن لجريدة العراق هو غير رزوق افندي غنام واستطرد قائلا "مع اني انتسب إلى الصحافة اؤكد بأني اجهل المدير المسؤول لجريدة العراق الآن ولم اسمع باسمه".

بعد ان صدرت جريدة العراق بهذه المقالة المملوءة، طعنا بالسيد باقر الشبيبي، طلب بعض كبار النجفيين ان نتوسط لدى الحكومة كحزب لتأديب مدير جريدة العراق اذ ليس من شأن مديرها الطعن في ثقافة المساجد والصحون.

كتبت جريدة الآخاء الوطني في عمود المحليات مقالَ "الزوايا والصحون المقدسة" جاء فيه "فماذا اراد الكاتب بهذه الاهانة العظيمة وماذا تريده جريدة العراق ومن ورائها رجال الوزارة يشدون ازرها ويشجعونها... غير مبالين بعواطف الشعب ولا بمواطن شعوره واحساسه العميق هل تريد ان تمس الشعائر المحترمة بأسوء الاساليب ففي كل يوم لهم موقف غير مشرف".

اتهم الحاكم المدير المسؤول لجريدة الآخاء الوطني كامل الجادرجي في هذه القضية ولكنه حول التهمة من حيث المواد القانونية من قانون العقوبات البغدادي وفق المادة 89 إلى المادة 30 من قانون المطبوعات.

وقدم وكيل المتهم المحامي سلمان الشيخ داود دفاعه ان المادة التي جرمت موكله فيها بعض الثغرات القانونية، مشيرا إلى ان تطبيق المادة (30) من قانون المطبوعات رقم 82 سنة 1931م بتهمة نشره كلمة في العدد 38 الصادر 14/أيلول/1931 من جريدة الآخاء الوطني إذ أنّ التهمة لا تأتلف وواقع الحال إذ أنّ كلمة اهانة هي من الكلمات العامة التي لها مدلول خاص ومنها تقريبا السب والشتم والقذف ولا يجوز للقاضي ان يحكم بجريمة النشر المسندة إلى مادة القذف او الاهانة الا بذكر الجمل والكلمات التي فيها اهانة او سب.. إذ لا جريمة دون نص قانوني فأصبحت المادة المتهم بها موكلي لا تنطبق على ما نشر واصبح من الواجب الغاء التهمة قبل كل شيء من هذه الجهة.

والنقطة الاُخرى التي افاد فيها المحامي هي وضع الجريدة، التي نشرت هذه الكلمة انها جريدة لسان حال المعارضة للحكومة الحاضرة والمهيمنة على مراقبة الأعمال التي تقوم بها والتي تعدّ من واجباتها تنبيه الحكومة إلى امور فيها ضرر للصالح العام.

واستطرد قائلا ان من العيب ان يضيق صدر الحكومة لدى ابسط الانتقادات الموجهة للحكومة لارشادها إلى الصالح العام، وكما تعلمون ليس للمعارضة مرمى سوى الصالح العام وسعادة البلاد وارشاد القائمين بالامر إلى مواطن الخير والفلاح.

وأخيرا حكمت المحكمة على كامل رفعة الجادرجي بالحبس البسيط لمدة شهر واحد، وحيث وجد انه من ذوي الاخلاق الحسنة وله منزلة اجتماعية ولم يسبق له محكومية بالحبس قبلا، تقرر ايقاف تنفيذ هذه العقوبة بحقه، على ان يؤخذ منه تعهد بدون كفيل لمدة خمس سنين، تبدأ من تاريخ صدور الحكم بأن يحضر ويمضي مدة عقوبته متى طلب منه ذلك وان يحافظ على السلام وحسن السيرة والسلوك وفق المادة 30 من قانون المطبوعات المرقم 82 لسنة 1931م والمادة 69 من قانون العقوبات البغدادي.

عن رسالة (كامل الجادرجي والعمل الصحفي)