عبد اللطيف الشواف
زرت عبد الكريم قاسم في مساء 7/2/1962 حوالي الثامنة مساءً في الجناح الجديد في وزارة الدفاع الذي صممه المرحوم المهندس قحطان عبد الله عوني مقابل سلم الباب الرئيسي لوزارة الدفاع في المركز الوسط بين جناحي وزارة الدفاع ملحقا بالجانب المشرف على دجلة،
وقد جاء الى هناك بناء على موعد سابق المرحوم الاستاذ مصطفى علي وزير العدل السابق – وكان قد استقال من وزارة العدل – وكان من بين موقعي عريضة (السلم في كردستان) التي نظمها الاكراد والشيوعيون كجزء من الحملة ضد الحرب التي بدأت ضد الاكراد، وقد قام المرحوم عبد الكريم باطلاعنا على ملف لحلف بغداد والقواعد العسكرية التي كان الحلف ينوي بناءها شمال العراق ضد الاتحاد السوفيتي.
لقد كان المرحوم قاسم قد طلب من المرحوم مصطفى علي على ضرورة الالتفاف حوله لانهاء الجركة الكردية وكان يؤشر على خارطة تشير الى مناطق الحركات العسكرية وهنا مازلت اذكر – ان عينيه بدأت تدمع وانه يبكي لفرط تأثره وحزنه وعمق حماسه في الحديث عن القضية الكردية وكان منظره دليلا على ما انتابه من الاسى والاسف للحكومة وله شخصيا – قد فشلوا في الاستجابة لاحدى النقاط الجوهرية من شعارات الحركة الوطنية العراقية – حول القضية الكردية – هي المسألة التي حاول عبد الكريم بذرائع شتى تنطوي على محاكاة لقضية او على تبريرات تاريخية او شخصية لتفسير موقفه منها والتي لم يقر فيها اكثر وزراته وكان يشجعه عليه العسكريون من حوله، وبعد ان اكد سيطرته وسيطرة الجيش العراقي على مناطق كردستان الاساسية ذاكرا اسماء الاقضية والمواقع الكردية المتعددة دربندي خان، وقلعة دزه، وسيد صادق وغيرها.
ومن ثم أمر بايصال المرحوم مصطفى علي الى بيته في بغداد الجديدة بعد ان طمأنه واوصاه بضرورة معاودة الاتصال به للبحث في الشؤون العامة والخاصة ضاربا له المثل بموقفي منه وكيف اتصل به لبحث مختلف المشاكل بالرغم من استقالتي وتركي الوزارة والبنك المركزي واي عمل رسمي في الحكومة. وبعد ان بحثت معه نقطة تابعية شركة النفط الوطنية وعرضت عليه طبيعة قانون بنك الرافدين. كررت بوضوح رأيي في وجوب ان ترتبط شركة النفط الوطنية برئيس الوزراء، او مجلس الوزراء، وكررت عرض هذا الرأي امام مجموعة الضباط من المرافقين وغيرهم عندما اخبرهم ان ولادة الشركة الوطنية للنفط وما سينجم منها من خير مالي للبلاد قد انتهت وسيعلن عنها. وقد سمعت انه بعد 8 شباط ومقتل المرحوم الزعيم عبد الكريم وجدت لائحة قانون شركة النفط الوطنية على مكتبه في وزارة الدفاع، وترددت هذه الاشاعة كثيرا من قبل مؤيدي عبد الكريم ومعارضيه الذين استولوا على السلطة في 14 رمضان الموافق 8 شباط.
اما ما قبل هاتين الليلتين في 6 و7 من شباط سنة 1963 واللتين انتهتا صبيحة 8 شباط سنة 1963 بانقلاب 14 رمضان. تجدر الاشارة اني قابلت الزعيم عبد الكريم في اوائل شباط للاستئذان بالسفر الى اجتماع لجنة التضامن الاسوي – الافريقي مع صديقي نائل سمحيري الى افريقيا، وقد كان المرحوم عبد الكريم تعبا وساهبا حينما اخبرته بذلك فقال: (الله يكتب لك السلامة) ثم انتبه ورفض بشدة فكرة سفري بعيدا بان (عنده اشغال قريبة وهو يريدني الى جانبه، وهو سيدبر لي سفرة جيدة تعوضني عن هذه السفرة) وقد استجبت لرجائه في عدم السفر، على اني سمعت من مصادر عدة بعد ذلك وايدها الصديق الزعيم احمد محمد يحيى وزير الداخلية انذاك، ان عبد الكريم كان قد اخبره انذاك انه يزمع اجراء تغييرات اساسية – بعد ان اكتشفت المؤامرة على حكمه – يوم الاحد في 10/2/1963، ولكن الانقلاب المسلح اندلع في 8/2/1963 ولقد سافر الاخر المرحوم نائل سمحيري ممثلا للجنة العراقية للتضامن مع الشعوب الاسيو – افريقية ومقرها القاهرة الى مؤتمر المنظمة وهناك حدث انقلاب 14 رمضان سنة 1963 وكان ممثل حزب البعث في المؤتمر المرحوم الاستاذ ميشال عفلق وصلاح البيطار وحدثت مواجهة بينهما وبين الاستاذ نائل وبقي نائل في اوروبا لمدة اشهر قبل العودة الى بغداد.
كما حضرت مع المرحوم عبد الكريم حفل افتتاح معمل شركة الصناعات الخفيفة في الرستمية لصنع الصوبات "الدفايات" والطباخات النفطية ومعملها في المسبح لتجميع الراديوات والتلفزيونات ووضع حجر الاساس في الرستمية لمعملها للعلف الحيواني الذي احيل بعهدة شركة (بوهلر) السويدية الشهيرة للمطاحن وسايلوات الحبوب (وقد ترك هذا المشروع بعد 8 شباط بعد ان هدم حجر الاساس له وسرقت ورقة العشرة دنانير التي وضعت فيه).
اما المرة الاخرى التي قابلت فيها المرحوم عبد الكريم قاسم في سنة 1963 فكانت في اوائل السنة عندما ذهبت الى وزارة الدفاع لاخباره، بسفري للبصرة يومين للاستحمام في بيت على شط العرب لأحد الاصدقاء فكلفني انذاك – وهو تكليف ذو دلالة بالتفكير جديا في دستور دائم مبني على اساس انتخبي لمجلس امة ديمقراطي وبوضع مسودة لهذا الدستور اثناء تفرغي في المنتجع على ضفاف شط العرب في البصرة، وقد قمت بتحرير القسم المتعلق بالسلطة القضائية في الدستور وتم تمزيق بعد ذلك في شباط خوفا من تحري السلطة آنئذ.
واذكر انه في إحدى مناسبات زياراتي له في وزارة الدفاع انه اصطحبني معه لاحتفال في كرادة مريم في (قاعة الخلد) يقيمه اتحاد العمل والفلاحين سوية لمناسبة لا اذكرها ولكني ذهبت معه وخطب انذاك خطابا هدد فيه المتآمرين والمتقاعسين مرتين بعد توارد الانباء عن مؤامرة لقتله كانت مدبرة له آنذاك، قد عدت معه في سيارته العسكرية الروسية الصنع الى وزارة الدفاع. وسألني ونحن في الشوارع البغدادية في الكرخ عما اذا كنت (قد رأيت مدينة الشعلة في ظاهر قضاء الكاظمية في الكرخ وما عد فيها من دور سكن للناس، حيث انه – اي عبد الكريم قاسم – قد آلى على نفسه ان يوفر دار سكن لكل عراقي من الشمال الى الجنوب – وانتقد معارضيه الذين يتهمون اخاه حامداً ظلماً بانه قد اشترى دارا لسكناه على شاطئ كرادة مريم في بغداد مقدرا بان دار سكناهم هو وابوه واخوه كان على جانب دجلة في الصويرة ايضا)، على ان المرحوم عبد الكريم قاسم قتل في العاشر من شباط سنة 1963، في دار الاذاعة العراقية ببغداد، وبعد ان دفن في المقبرة وفي اليوم التالي لمقتله جاء إليه فقراء الناس من مناصريه – من فلاحي جنوبي العراق للاحتفال بمقتله وتقديسه على الطريقة العراقية في الاحتفال بالمقابر إذا ما فاتتهم او خرجت عن قدرتهم حماية القديسيين من الموتى، وذلك من فرط حبهم لمن يعتقدون فيهم القدسية، فما ان رأت السلطة ذلك نبشت القبر واخرجت جثة عبد الكريم قاسم منه، والقت الجثة بحجر، واودعتها في اعماق دجلة رامية اياها من سطح النهر – كما روى لنا الرواة في حينه وبهذه الطريقة المتوحشة والبعيدة عن الحضارة والوفاء والمروءة والخلق الانساني انتهت حياة الزعيم عبد الكريم قاسم البكر وانتهى وجوده على هذه الارض.
عن كتاب (عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون).