فنان الشعب راسم الجميلي

فنان الشعب راسم الجميلي

د. سالم شدهان

هناك ممثل يشتغل على قصر قامته فيضحك الجمهور, وهناك من يملأ الدنيا صراخا, أو يرقص, أو يتجاوز على الذوق العام بمفردات ماأنزل الله بها من سلطان, وهناك من يستغل بدانته فيعتبر ذلك هبة من الله كي يقترب من قهقهة فارغة.

باختصار هناك من يجعل نفسه اضحوكة كي يكسب مالا, أو ودا, أو شخصيات كي يمثّلها يستجدي من خلالها مالذ وطاب من مديح ومال من أناس جلّهم بسطاء ليس لهم هم سوى الضحك على الشخص نفسه, لانه سمح لنفسه ان يكون مسخرة للاخرين. أما الرجل البدين, الوسيم, المملوء رجولة كما وصفته احد المعجبات, الساخر, الضاحك, المثقف, العراقي البغدادي الاصيل. المؤدب, المعطاء, المرح, الاب الرائع. الفنان الذي خلق كي يكون كل هذا وبعد من القيم النبيلة,الذي استحق اسم وليس لقب فنان الشعب راسم الجميلي.

ذات يوم كنت حاضرا في مكان تصوير احد اعماله السينمائية, وكان راسم في نقطة التركيز أو ال (ان فوكس) كما يسميها المختصون بالنسبة لي ولكل من حوله, كان يرتدي الدشداشة البغدادية والحزام الجلدي الذي قام بعزل بطنه الى الامام فتكورت أمامه لكنها لم تجعل من منظره مضحكا ابدا, بل زادته جمالا واناقتا. اقتربت منه كثيرا كي اسمع ماذا يقول من كلمات تجعل من الكل يضحك حتى غرقت عيون بعض زملائه بالدموع من شدة ضحكهم, لكني لم اسمع منه ولا كلمة فقط كنت اشاهد كرشه الجميل وهو يهتز ضحكا, فمه مغلق بينما يهتز جسده ضاحكا, كان راسم يحاول تثبيت شاربه الاصطناعي ويؤشّر على الماكير كي يعيد لصقه مجددا. لم يكن سفيها ابدا, ولم يزعج المخرج أو المساعد في قفشاته الرائعة, بل كان يضفي على العمل جانبا من الروعة والمتعة فيشارك الكل في هذا البهاء دون الاساءة للعمل. أما أنا فلم اسمع منه ولا كلمة واحدة بل شدّني منظر الماء الذي يسيل من فمه على جلبيته, و(الطاسة) تهتز بين شفتيه لانه لم يبطّل الضحك, بل ان احد الممثلين احتضنه ووضع رأسه على صدره وهو غارق في الضحك, والاخر يقبله من جبينه وعيناه تغرق بالدمع من الضحك الصادق النبيل. الاول كان الممثل (سلام زهره), والثاني كان الممثل والمخرج الصديق المرحوم (هادي حسن عمران).

أما الفيلم فكان فيلم (العاشق)اخراج محمد منير فنري. وايضا في مشهد عودة العاشق الذي يمثّله النجم (جواد الشكرجي) الى قريته, يستقبله اهل القرية ومن ضمنهم راسم الجميلي فلذلك حكاية اخرى احتاجت جهدا كبيرا لكل من شارك في المشهد كي يسيطرون على اعصابهم, لان راسم كان يردد كلمات جادة جدا جدا وهو يرفع يديه مرحبا بالقادم لكن الكل لايصدّق ان راسما ممكن ان يكون بهذه الجدية في العمل, ومايلبث ان ينفجر راسما بالضحك بدون صوت مع اهتزاز الكرش الجميل. ومشهد غناء راسم حينما يحضر لديوان الاحتفاء بالعاشقمصطحبا الديك كهدية لصديقه العاشق ويغني له اغنية تعبيرية عذبة لانها تصدر من فم الجميلي,ويملأ الديوان بهجة وطرب يسرق فيه الاضواء من الكل دون استثناء, ليس لحجم جسده الكبير, بل لموهبته وخفّة دمه, ولذكاءه في كيفية التعامل مع مفردات الاغنية والتركيز على دلالات كلماتها. العمل مع راسم فيه متعة لاتوصف, وفيه فن وابداع, وفيه اخلاق ومهنية كبيرة. هل سمعتم بالجدّية في الكوميديا, هل سمعتم بالالتزام في الكوميديا, هل سمعتم في الابتكار والاضافة الابداعية وسرعة البديهية والتعامل مع الزميل والاستلام والتسليم والموهبة كيف تتمثل في كل ذلك؟ كل هذا وبعد غالبا مايكون حاضرا في اي شخصية يمثّلها فنان الشعب راسم الجميلي.

(ابو ضوية) من منّا شاهد هذه الشخصية من مسلسل (تحت موس الحلاق) ويستطيع ان ينساها ينساها؟ ومن من شخصيات المسلسل تشبه شخصية ابو ضوية؟ انها الشخصية البغدادية التي لا تتكرر ابدا, ليس لانها مكتوبة بتلك الروعة, بل لان من أدّاها اضاف لها بصمة من خلال فهمه للشخصيّة البغدادية في حرفيّات يجب على من يمثّل مثل هذه الشخصية ان يتمتع بها, بل ويضيف لها من عندياته تفاصيل لكيف يتحدث البغدادي مع زوجته, ومع جاره, ومع صديقه, ومع من يبتاع منه, لان هذه المفردات لاتتشابه ابدا مع الشخص الواحد بأختلافالصفات والمكان والزمان, والغرض من تلك اللحظة. كيف ستتحدث ايها الممثل مع زوجتك في الصباح, وكيف ستتحدث في المساء وأنت تعود من العمل؟.. راسم يعرف كيف, من خلال نظرته, اقصد عينيه والطريقة التي ينظر بها لها. ولعلنا لاننسى المشهد الذي يتحدث فيه مع زوجته(سهام السبتي) وهو يحاول ان يجد حلا لـ (6×4) بينما يقاوم طلبها المتكرر حول طلبها لشراء عباءة لها, وتزعل ويحاول ارضائها.., كان اداءا انيقا استطاع فيه ان يعكس موهبته وحرفته في كيفية التعامل مع الكاميرا ومع الممثل المقابل له, كان ذلك في بداية الستينات من القرن الماضي.

أما في اعماله الكثيرة اللاحقة في المسرح والسينما والتلفزيون فلقد اضاف فيها الجميلي لصفاته وحرفياته تلك, الكثير, حتى تركزت له طريقة في الاداء, تبتدأ من اقدامه كيف تسير, متى تتمهل, ومتى تسرع, كيف تتحرك,.. وكيفية قياس المسافة مابينه وبين الزميل, و مابينه وبين الكاميرا؟.. وحجم اللقطة. زادت تجربته وزاد وزنه وزادت اهميته, فنان الشعب الذي اجاد في كل شيء, السينما والمسرح والتلفزيون, ممثلا ومؤلفا ومخرجا مسرحياّ, اضافة الى اجادته وتفوقه وتميّزه الكبير في تقديم برنامجه الشهير (مسابقات) الذي عكس فيه طبيعته المحبّة, وموهبته في كيفية التعامل مع جميع طبقات المجتمع, ومع اختلاف الاعمار, كان يتحدث مع المتسابقين وكأنهم من عائلته, ابناء له, يعرفهم, يحبهم. ابتسامته لم تفارقه ولا لحظة, والنكتة المثقفة الانيقة لا تفارقه ابدا, لذا فان المسابقات نجحت في بغداد, ثم سافر بها الى المحافظات العراقية والى الدول العربية الخليجية وسوريا والاردن ودول المغرب العربي, ثم الى الدول الاوربية روسيا واليونان وباريس واسطنبول, والى الهند ذلك لان راسم يدرس الحالة قبل ان يخوض في غمارها, مسرحا كانت ام تلفزيون, أم سينما, أم برنامج مسابقات يتجول به دول عربية واجنبية اضافة للمحافظات العراقية.

ومن اعمال راسم الخالدة كتابه المهم (البغداديون ايام زمان) وفيه سجّل الجميلي كل مايحبه عن مدينته الاثيرة في كتاب سيبقى مصدر مهم لمن يريد ان يدرس المجتمع البغدادي بقيمه وتاريخه وطرافة اهله باسلوب اقترب من الدراما وثّقفيه عاطفة وطرافة, وثقافة الجميلي, ومحبته لبغداد التي عرف من خلالها كيف يجسّد شخصياتها على مدى عمره الفني. ولد راسم عليوي حسن الجميلي في بغداد محلة سراج الدين, عكد الدوكجية,احب الفن منذ صغره اذ مثّل أول عمل له وهو في الصف الخامس الابتدائي حينما اشترك في مسرحية (الكتاتيب)أو (معلّم الاولاد). دخل اكاديمية الفنون وتخرّج منها عام 1964, عمل في اذاعة القوات المسلّحة كونه ضابط احتياط ثم اصبح مدير للاذاعه ورئيس لقسم برامج الاطفال. أسس مع زميليه سامي قفطان ومحمد حسسين عبد الرحيم فرقة 14 تموز المسرحية التي قدّمت مسرحيات (الف عافيه, وبيت الحبايب, وفلوس وعروس) كما شارك في عدة مسرحيات منها (مملكة الشحاذين, حايط انصيّص, الشريعة). قام بتأليف عدة مسرحيات منها (لامبراطور, سعيد اكشن, عيش وشوف).

أما في السينما فقد شارك راسم في افلام عديدة هي (العماره 13, العاشق, يوم اخر, الاسوار, حب في بغداد, ميه بالميه, بديعه, السيد المدير,العربة والحصان). و في التلفزيون كانت أول مشاركة له في عمل (حياة العضماء) من تقديم د.عزيز شلال بشخصية والد حاتم الطائي. ثم تعددت اعماله مثل مسلسلات (تحت موس الحلاق, ابو البلاوي, انباع الوطن, جحيم الفردوس, بيت الشمع, باشوات اخر زمن, مناوي باشا بجزئيه, رجل فوق الشبهات, صفقة ساخنة, المواطن ج,ذئاب الليل,مضت مع الريح). ترك راسم الجميلي عدد من الابناء منهم المصور المهم (علي راسم الجميلي), والمخرج المسرحي الذي يعيش في بلجيكا (مخلّد راسم الجميلي).

توفي فنان الشعب في سوريا فجر السبت 1-12-2007 بعد ان ترك كما كبيرا من الفن الممّيز بشخصيات انعكست فيها كل مقاييس البساطة والعفوية والاهتمام بتفاصيل كل نواحي الشخصية البغدادية لانه بغدادي اصيل وفنان كبير, وفنان الشعب.