عبقرية توماس إديسون التنظيمية

عبقرية توماس إديسون التنظيمية

مارك دودجسون وديفيد جان

ترجمة: زينب عاطف

مراجعة: إيمان عبد الغني نجم

اننا نتذكر توماس إديسون (١٨٤٧–١٩٣١) بقدرته على الإبداع والابتكارات واسعة النطاق التي قدمها. فقد حصل على أكثر من ١٠٠٠ براءة اختراع،

واخترع الفونوجراف والمصباح الكهربائي، وتوزيع الطاقة الكهربائية، من بين إنجازات أخرى بارزة، وحسن التليفون والتلغراف وتكنولوجيا الصور المتحركة. وأسس العديد من الشركات، منها جنرال إلكتريك. وكان مسئولًا أيضًا عن تمهيد الطريق لتطبيق أسلوب منظم للغاية يرتب عملية الابتكار، وهذا هو ما يعنينا هنا.

كان إديسون، مثل جوسايا وِدجوود، أصغر الأبناء في عائلة كبيرة ظروفها متواضعة، وقد تلقى قدرًا قليلًا من التعليم الرسمي، وبدأ العمل في سن مبكرة — ١٢ عامًا — وابتُلي بإعاقة الصمم التي أثرت في حياته وعمله. وكان إديسون يتسم بالمِثل بالتصميم على النجاح والاجتهاد في العمل، وكان يشترك مع وِدجوود في تقديره لتوماس بين، مما أثر أيضًا في نظرته الديمقراطية للعالم. وربما كان إديسون فظًّا وسريع الغضب وعديم الصبر، ولكنه كان أيضًا حسن المظهر وطيب القلب وكريمًا.

بدأ إديسون حياته العملية كعامل تلغراف، وبدأ يجري التجارب في أثناء مناوبة الليل حين لا يلاحظه أحد. حصل على أول براءة اختراع له، لمسجل تصويت كهربائي، عندما كان عمره ٢٢ عامًا. ونقلته شهرة اختراعاته من بداياته المتواضعة إلى الدوائر العالية. فعرض جهاز الفونوجراف على الرئيس هايس في البيت الأبيض في عام ١٨٧٨، وكان صديقًا مقربًا لهنري فورد. ويقال إنه أثر على فورد في إمكانية استخدام محركات البنزين. وكان شركاؤه في العمل الرأسماليين البارزين في هذا الوقت، مثل جى بي مورجان وأسرة فاندربيلت.

كان أسلوب إديسون في العمل شديدًا وقاسيًا. فكان يطالب بتحسين مستمر في الابتكارات من موظفيه، وكان يقلل من شأن المعارضة بكل ما أوتي من قوة. فحملته ضد التيار المتردد وتشجيعه للتيار المستمر، الذي كان اختياره المفضل لتوصيل الكهرباء، تدنت إلى مستوى بغيض لحرب دعائية حول مزاياهما النسبية للكرسي الكهربائي. فلم يتردد إديسون في عمل عروض لصعق الحيوانات بالتيار المتردد لإظهار مخاطره. واشتملت هذه العروض على الفيل توبسي سيئ الحظ، وإن كان سيئ الطباع، الذي صور إديسون وفاته في لونار بارك من أجل اكتساب قيمة دعائية إضافية. وأصبح التيار المتردد، أفضل النظم، هو المسيطر في نهاية الأمر، وتوضح جليًّا الطبيعة المحتدمة للمعركة بين هذه المعايير الفنية المتنافسة أهمية امتلاك النسخة المسيطرة.

حقق إديسون نجاحات تجارية ضخمة، إلا أنه كان له نصيب من الإخفاقات في المقابل. فكانت هناك تحولات باهظة نسبيًّا وغير مجدية إلى التعدين وصناعة الأسمنت. فشل في إدراك الاهتمام العام بشهرة الموسيقيين، عندما رفض لسنوات ذكر أسمائهم في التسجيلات. وبثقةٍ في نفسه، لم يصرح أبدًا بأنه فشل، ولكن بأنه اكتشف ١٠٠٠٠ طريقة لم تحقق نجاحًا.

كان امتلاك الملكية الفكرية ضروريًّا لإديسون؛ فكانت براءات الاختراع التي مصدرها الأبحاث التي تجري في مختبراته تنسب إليه بصرف النظر عن إسهامه. يقول أحد مساعديه الذي ظل يعمل معه وقتًا طويلًا: "في الواقع، إن إديسون اسم جمعي ويشير إلى عمل الكثير من الرجال." ولحرصه الشديد على براءات اختراعه، كان يتجاهل أحيانًا الملكية الفكرية المنسوبة لآخرين. وكان يستخدم هو وشركاؤه في العمل بانتظام براءات الاختراع لإعاقة تطور المنافسين.

على الرغم من الاحتفاء به في حياته، وإطلاق الصحافة عليه اسم "الساحر"، فإنه واجه نقدًا عدائيًّا من منافسيه. وكان من بين النقاد نيكولا تيسلا الذي كان لديه كل الحق في الشعور بالمرارة؛ فكان تيسلا يعمل لدى إديسون عندما اخترع التيار المتردد، قبل تسويقه مع شركة ويستنجهاوس كوربوريشن. ادعى تيسلا أنه لم يحصل على الأجر الذي وُعِد به. وقد ندم إديسون في وقت لاحق من حياته على أسلوب معاملته له. ويفكر البعض أن السبب في عدم مضي إديسون قدمًا في التيار المتردد، على الرغم من إتاحة العديد من الفرص أمامه للقيام بذلك، هو أنه لم يخترعه بنفسه، وهي حالة من متلازمة "لم يُخترع هنا". وبعد وفاة إديسون، ذكر تيسلا للأجيال اللاحقة إهمال مديره السابق الشديد بأبسط قواعد النظافة الشخصية.

استُمد أسلوب تنظيم إديسون لجهوده الإبداعية من منهجه العام في الابتكار. فكان يتبع دائمًا مسارات متعددة للأبحاث، متمنيًا ترك الخيارات مفتوحة لحين ظهور المنافس الأقوى، عندما تكون الموارد والجهود مركزة. فمن خلال عمل إديسون في مشروعات متعددة في وقت واحد، كان يؤمِّن نفسه بحيث لا تعتمد تيارات الدخل المستقبلية على تطور واحد. فكان يدرك تمامًا كيف تؤدي ملاحقة مشكلة واحدة إلى أخريات — عادةً غير متوقعة تمامًا — وفهم قيمة الصدفة والمصادفة و"العارض".

بحث إديسون في إمكانية الجمع بين الأفكار المتعلقة بمجالات بحث مختلفة، وكانت لديه استراتيجية لإعادة استخدام المكونات المختبرة الخاصة بماكينات أخرى وتطبيقها كأساسات في تصميمات جديدة. وقال إديسون إنه استوعب الأفكار بسهولة من كل مصدر، وكان يبدأ دائمًا من حيث توقف الآخرون. فمن أجل اختراع وتسويق المصباح الكهربائي، على سبيل المثال، جمع بين الأفكار من خلال الاعتماد على شبكة من الباحثين والخبراء الماليين والموردين والموزعين. وعلى الرغم من أن فكرة المصباح الكهربائي كانت موجودة منذ عقود، فإن إديسون باستخدامه التيار الكهربائي منخفض الشدة، وفتيلة مكربنة، وفراغ عالي الجودة، اخترع منتجًا طويل العمر نسبيًّا. وكانت مبادئه تتمثل في إجراء تجارب ووضع نماذج أصلية كثيرة قدر المستطاع، على نطاق ضيق، وعمل تصميمات بسيطة قدر المستطاع. وبمجرد حدوث إنجاز، كان يدرك أنه سيتطلب قدرًا كبيرًا من الأبحاث والتجارب المستمرة من أجل تحويله إلى منتج ناجح. فقال إنه عادةً ما كان يستغرق من ٥ إلى ٧ سنوات حتى يكمل شيئًا، وتظل بعض الأشياء غير مكتملة مدة ٢٥ سنة، وعلى حد قوله: "العبقرية هي واحد بالمائة إلهام، وتسعة وتسعون بالمائة اجتهاد".

أدرك إديسون أن القيمة الأكبر تعود إلى المتحكم في النظام الفني، وليس إلى منتِج مكوناته الفردية، الذي يعتمد على ضبط النظام. وظهر تفكيره في النظم جليًّا في تطوير صناعة توزيع الكهرباء التي بدأ تشغيلها في نيويورك في عام ١٨٨٢. فلإدراك إديسون لخوف الناس من الأشياء غير المألوفة، توصل بذكاء إلى توليفة بين الأشياء الجديدة والأشياء الموجودة بالفعل في نظامه الكهربائي. استخدم بنية تحتية معترف بها من أجل توصيل الكهرباء، منها وضع أسلاك تحت الأرض مثل مواسير الغاز واستخدام لوازم تشغيل الغاز الموجودة في المنازل.

كان منهج إديسون في تنظيم مختبراته البحثية يعتمد على خبرة الآخرين، كحال العديد من ابتكاراته. فصناعة التلغراف التي بدأ فيها إديسون حياته المهنية كان بها عدد من الورش البحثية الصغيرة المشتملة على عدد من معدات التجارب، وأجرى إديسون تجارب في إحدى هذه الورش في بوسطن. وعند وصوله إلى نيويورك في عام ١٨٦٩، استخدم ورشة أخرى قبل إنشاء مختبره في نيوآرك، لعمل تصميمه لماكينات تيكر لإرسال أسعار البورصة.

يكمن ابتكار إديسون التنظيمي في مدى وحجم الأنشطة البحثية التي تُجرى. فكان يستثمر موارد مالية وتكنولوجية في البحث عن الابتكار بقدر يفوق ما قامت به أي مؤسسة أخرى من قبل.

أسس إديسون مختبر مينلو بارك في عام ١٨٧٦ حتى يستطيع تكريس نفسه بالكامل "للعمل في الاختراع". وأحضر معه موظفين لا غنى عنهم، منهم مصمم وميكانيكي ومحاسب وخبير رياضيات وفني اختبار معادن وكيميائي ونافخ زجاج وكاتب حسابات. تقع مدينة مينلو بارك على بعد نحو ٢٥ كيلومترًا من مانهاتن، وكانت وقتها قرية صغيرة، وبحلول عام ١٨٨٠، كان ٧٥ شخصًا من سكانها الذين يصل عددهم إلى ٢٠٠ شخص يعملون لدى إديسون. وكانت بداية مينلو بارك بمكتب ومختبر وورشة ميكانيكا، وأضاف إديسون إلى ذلك على مر السنوات منزلًا زجاجيًّا واستديو تصوير وورشة نجارة ومبنى لإنتاج الكربون وورشة حدادة، وورشة ميكانيكا أخرى، وأضاف مكتبة.

في ذلك الوقت، كان عدد قليل فحسب من أفضل الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية يوجد بها مختبرات، وكانت سيئة التجهيز وتركز أساسًا على التدريس. في حين كان إديسون يمتلك معدات علمية جيدة، منها جلفانومتر عاكس باهظ الثمن، وإلكتروميتر، وآلات فوتومترية. وفي خلال بضع سنوات، أصبحت قيمة هذا المخزون من الأدوات ٤٠٠٠٠ دولار (بما يعادل ٨٩٠٠٠٠ دولار بأسعار ٢٠٠٨).

كان هدف إديسون هو الحصول على كل الأدوات والماكينات والمواد والمهارات اللازمة للاختراع والابتكار في مكان واحد. وكان ما ساعد دمج المهارات المتنوعة في مينلو بارك هو اندماجها الاجتماعي الوثيق مع المجتمع المحلي.

على أقصى تقدير، كان لدى إديسون أكثر من ٢٠٠ ميكانيكي وعالم وحرفي وعامل يساعدون في الاختراعات. وكان العمل ينظم في مجموعات تضم من ١٠ إلى ٢٠ فردًا، وكان كل منها يعمل في وقت واحد على تحويل الأفكار إلى نماذج أصلية صالحة للعمل. وبما أن كل شخص في الفريق كان لديه الهدف نفسه، كان التواصل والفهم المشترك في أعلى درجاته. وسجل إديسون خلال ٦ سنوات في مينلو بارك ٤٠٠ براءة اختراع. فكان يهدف إلى التوصل إلى اختراع صغير كل ١٠ أيام، واختراع آخر كبير كل ٦ أشهر أو نحو ذلك.

عن كتاب: (الابتكار: مقدمة قصيرة جدًّا)