حسين جميل يكتب: هكذا أدركت بغداد القديمة

حسين جميل يكتب: هكذا أدركت بغداد القديمة

لم يكن في العراق في اوائل العشرينات سوى مدرستين ثانويتين كاملتين: الاولى في بغداد، والاخرى في الموصل. اا في البصرة، ورغم انها من مدن البلاد الكبيرة، فلم يكن فيها الا صفان ثانويان بعد الابتدائية، وعلى من يريد مواصلة الدراسة الذهاب الى احدى تلكما الثانويتين. واذكر ان تلامذة من البصرة جاؤوا الى بغداد فعلا لاكمال دراستهم في ثانويتها، ومن هؤلاء عبد الجبار بكر، الذي تخصص فيما بعد بدراسة الزراعة في الولايات المتحدة الامريكية واشغل وظيفة "مدير الزراعة العام".

كان علي ان اذهب الى بغداد، فجئت اليها من " العمارة" بالباخرة ايضا، وسكنت مع بيت عمي عبد الجبار جميل، وكان يومئذ رئيس محكمة البداءة في بغداد. ثم نقل الى الحلة فبقيت داره تسكنه اسرته في بغداد. وكانت دار عمي تقع في قنبر علي، وهي كبيرة وذات طابقين، ومقسومة كذلك الى قسمين، "الحرم" و" الديوان خانة" وتلفظ "ديوه خانه" وهذه عبارة عن دار كاملة لاستبال الضيوف، وآخرها باب للدخول بواسطته الى الدار اثانية المعدة لسكن اهل البيت. ومن الصدف الحسنة ان اعايش في تلك الدار ابن عمي "علي حيدر" وكان في الصف الثاني المنتهي، ودرس بعدئذ الطب وتخرج طبيبا في الجاعة الامريكية في بيروت. كان علي حيدر منتظما في كل شيء: في دراسته وتصرفاته وشتى اعماله، الامر الذي ترك اثره في مواظبتي على الدراسة والاقتداء بسلوكه. والتقيت آنذاك بالطالب عبد المطلب امين الهاشمي/ وكان هذا رفيق علي حيدر في الصف المتهي ويتردد عليه في الدار، فتعرفت عليه ثم تطور الامر الى صداقة امتدت حتى وفاته، رحمه الله.

كان عدد تلامذة المدرسة الثانوية في تلك السنين من القلة بحيث لم تكن تشغل بناية مستقلة بها، بل تشغل الطابق الاول فقط، اي الطابق بعد الارضي، من بناية مدرسة المأمونية الابتدائية. وكانت تقع في حلة الميدان قرب مدخل وزارة الدفاع حينذاك، ثم هدمت في السنين الاخيرة وشيدت في مكانها بناية لجنة اسالة الماء لمدينة بغداد. فما تزايد عدد التلامذة في السنة التالية تزظايدا كبيرا استقلت " الثانوية" ببناية قريبة خاصة بها في محلة البقجة قرب الميدان، وهي المدرسة اتي تححمل اليوم اسم "الاعدادية المركزية". وكان الاقبال على المدرسة يتعاظم سنة بعد اخرى؛ ففي حين كان عدد المتخرجين من الدورة الاولى ستة تلاميذ فقط، ازداد عدد صفهم سنة 23-1924الى درجة اقتضت تقسيمه الى شعبتين (أ) و (ب). وكان مدير المدرسة في اسنة التي دخلت فيها الثانوية والتي تتها "نظيف اشاوي"، وهو يومذاك ضابط ركن متقاعد، ثم عاد الى الجيش، وتولى بعد ذلك منصب وزير الدفاع لفترة قصصيرة في وزارة المدفعي الخامسة سنة 1941.

وفي سنة دخولي الثانوية (23-1924) استقال شقيقي الاكبر مكي جميل، الذي يكبرني بست سنوات، من سلك التعليم1930 الابتدائي ليدخل طالبا في مدرسة الحقوق ويأتي فيسكن معي ايضا في دار عمنا عبد الجبار. كذلك فعل ابن عمي (عبد العزيز بن عبد الجبار جميل) الذي يكرني بثماني سنوات وهو شقيق علي حيدر. وهكذا سكنت في دار واحدة مجموعة من الشباب ربطتني بهم صلة وثيقة.

وكنت اتطلع وبشوق واهتمما الى ما يدور على اسنتهم من احاديث.

كانت بغداد مدينة صغيرة، ولا ازال الحمل في ذاكرتي صورة لها وانا بعد ابن السادسة من العمر في1914ثم وانا على عتبة الشباب في سنة 1924 وما تلتها من سني الدراسة الثانوية. وكان من وسائ التسية، عى قلتها انذاك، التجوال مع اقراني في اطراف المدينة والتنق احيانا عبر النهر بواسطة الجسرالبدائي الوحيد بين " الرصافة" و" الكرخ"، او التجول في اشارع العريض الوحيد في المدينة وكان يسمى" الجادة".

لم تكن طرقات بغداد مرصوفة في ذلك الحين. فما ان يسقط المطر في الشتاء حتى تفيض الازقة بالمياه وتصبح الاماكن المنخفضة بركا ويصبح تراب الدروب طينا. وعندئذ يتعذر على الناس في بعض الامكنة العبور من جهة الى اخرى فكان الحمالون يقفون على استعداد لحمل من يريد العبور على ظهورهم لقاء اجر زهيد. لم يكن هناك الا طريق واحد فقط مرصوف بالصخر، وهو الطريق المؤدي الى الجسر، والذي يسمى اليوم " شارع المأمون" ولذلك كان يسمى "عكد الصخر" وهذا الطرق يؤدي الى الجسر الوحيد الذي شيد في موقعه بعد سنين الجسر المسمى اليوم جسر الشهداء. كان ذلك الجسر عائما على مايسمى " جساريات" اي حاملات الجسر، فأذا كان عبورهم من "الرصافة" الى "الكرخ" صارت المقاهي الى يسارهم وقد ارتفع عليها العلم العثماني مرفرفا بلونه الاحمر وفي وسطه الهلال والنجمة (وهو لايزال علم تركيا اليوم) فيتوقف في واحدة من ذهذ المقاهي من يريد الاستراحة ليحتسي فنجانا من القهوة او " استكانا" من الشاي، او من " الشاي حامض" الذي هو "نومي البصرة" المغلي.

كان الجسر يقطع من منتصفه برفع اجزاء منه لإتاحة الجال لمرور السفن، ويجري هذا القطع ضحى كل يوم في ساعة معينة ولمدة تكفي لذلك الغرض. فأذا وجد اناس الجسر مقطوعا تجمع اكثرهم عند رقبة الجسر انتظارا لفتحه للمرور، ولكن بعضهم لم يكن ينتظر ب يعبر النهر اما بركوب قارب، ويسمى"بلم"،اويركبون قفة، ويرابط عدد منهما على جانبي النهر فيما يسمى بالشريعة، واجرة العبور زهيدة، وهي على زهدها اق في القفة منها في القارب، اذ ان راكب القفة يبقىواقفا لعدم وجود ما يجلس عليه، اما ركاب القارب فيجلسون.

وبعد احتلال بغداد ن قبل اجيش البريطاني في الحرب العالمية الاولى شيد جسر ثان عى دجلة في العاصمة باسم "جسر مود" عى الجنرال "مود" الذي فتح بغداد، وكان موقعه في مكان جسر " لاحرار" اليوم. كان ذلك الجسر الجديد يعوم على حمالات ايضا كنه يختلف عن الجسر العثماني القدم "فجسارياته" من الحديد.

لم تكن في بغداد في أواخر العهد العثماني سوى دار سينما واحدة، وكانت تقع فيما يسمى اليوم بشارع المستنصر. وعندما أخذت "مدرسة السلطاني" تلامذتها لمشاهدة احد الأفلام في تلك السينما، وكان من بينهم أخي مكي و إبن عمي عبد العزيز، صنع الأهل لهما " كليجة " أخذاها معهما ليأكلاها إذا جاعا هناك، كما يأخذ المسافر "متاعاً " أو زاداً معه في سفره وفي أول عهد الإحتلال البريطاني كانت توجد في بغداد دار سينما إسمها "سينما أولمبيا " أقيمت في الحديقة التي كانت تدعى في العهد العثماني "ملت بقيحة سي" قرب" جسر السنك "اليوم,

ولم يكن في بغداد شارع عريض حتى سنة 1916, وفي تلك السنة فتح الوالي خليل باشا، عم أنور باشا وزير الحربية، أول جادة إخترقت بغداد من شمالها عند "باب المعظم " إلى جنوبها عند "الباب الشرقي " فأسماها "خليل باشا جادة سي ", وكان هذا الأسم مخطوطاً على رقعة من المزجج الأزرق معلقة في مدخل شريعة جامع سيد سطان علي، وتظهر عليها الكتابة باللون الأبيض، وظلت معلقة هنك سنين عديدة, وتللك الجادة هي التي تطورت فيما بعد واصبحت تعرف باسم شارع الرشيد, ويقال (ان القطعة الخزفية مازلت موجودة، مثبتة في جدار أحد مباني شارع الرشيد).

و"باب المعظم" اسم لا يزال يعرفه الناس ويعرفون موقعه مع إنهم لا يرون أثرا لباب. ولكن الباب كان موجودا الى سنة 1925. وهو احد أبواب سور بغداد العباسي. وكان مكانه حيث شيدت بعدئذ "قاعة الملك فيصل الثاني" واتي سميت بعد ثورة 14 تموز 1958 "قاعة الشعب". وكان ذلك الباب ضخما وهو في بناية من طابقين فيها غرفة او غرفتان في الطابق الأرضي ومثلهما في الطابق الأول، وكان الناس يمرون من داخل هذه البناية للعبور شمالا الى " الاعظمية" او جنتوبا نحو " محلة الميدان"؛ وكان سور بغداد العباسي متصلا ببناية هذه الباب، ثم هدم جزء من السور لإحداث فتحة فيه تربط شارع الرشيد بالطريق المؤدي الى "الثكنة الشمالية" و "الاعظمية".

ولم يكن في بغداد تنوير كهربائي حتى احتلالها من قبل الانكليز، فكانت الطرقات تضاء قبل ذلك بمصابيح نفطية، وهي على شكل صندوق زجاجي مستطيل يدق في الجدران، وفيه باب يفتح وفي داخله مصباح نفطي. وفي عصر كل يوم يبدأ مستخدمو البلدية بالمرور على هذه المصابيح يحمل كل واحد منهم سلما خشبيا فيركنه على الجدار بجوار المصباح،ويتسلقه ليفتح باب القفص الزجاجي فينظف زجاجة المصباح التي تسمى "لمبة" ولعلها تعريب كلمة "lamp الانكليزية، ثم يملا الخزان بالنفط ويولع الفتيل ويغلق الباب. وهكذا ينزل لينتقل من مصباح الى آخر. وما ان ينبلج الفجر حتى يعود هؤلاء المستخدمون مع سلالمهم لإطفاء المصابيح. فلما دخلت الكهرباء الى بغداد لأول مرة مع الاحتلال البريطاني كان الأولاد يخرجون الى الجادة عند الغروب لمشاهدة ذلك المنظر الفريد حيث تنار المصابيح الكهربائية فجأة كلها معا برمشة عين من أول الشارع الى آخره.

وكان من الأفضل لو تركت مدينة بغداد كما كانت عليه عند الاحتلال البريطاني (1917) وبنيت في خارج سورها ورقعتها مدينة جديدة لمواجهة زيادة السكان وحاجات التطور في العراق. ولو عمل بذلك لكان قد تم الإبقاء على بعض الآثار التي تخلفت عن العصر العباسي، ومنها أجزاء من السور التي هدمت كما هدم البابان فيه (باب المعظم وباب كلواذي) ولحوفظ على شكل بغداد وطابعها الذي كانت قد آلت اليه حتى آخر العهد العثماني.

عن كتاب (العراق شهادة سياسية)