مجلس الإعمار في العراق..  والصراع البريطاني ــ الأمريكي

مجلس الإعمار في العراق.. والصراع البريطاني ــ الأمريكي

د. بشـار فتحـي العكيـدي

أسس مجلس الاعمار في العام 1950 وفقاً لقانون كان يتضمن بأن تحول إلى مجلس الاعمار كل إيرادات النفط –كما ذكرنا- وكان المجلس يتألف آنذاك من ثمانية أعضاء من بينهم رئيس الوزراء ووزير المالية وستة أعضاء من غير الموظفين الذين يتلقون المرتبات تعلن أسمائهم بإرادة ملكية ويمكثون في الوظيفة خمس سنوات.

كما ضم المجلس في عضويته آديكتون ميلر (J. W. Edington Miller) عضوا مالياً وسكرتيراً عاماً للجيش وهو بريطاني. ووزلي نلسن (Wezly Nilson) الخبير الأمريكي الشهير في شؤون الري وبناء السدود وخزن المياه.

قام المجلس في بداية أعماله بعقد اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية سميت

بـ (معاهدة التطوير) في 20 كانون الأول 1950، حيث أن هذه المعاهدة تعد من المعاهدات المهمة في المجال الاقتصادي لأنها قامت بجلب خبراء أمريكان إلى العراق، فقام هؤلاء بوضع خطط التي من شأنها نقل الاقتصاد العراقي إلى حالة أحسن مما هي عليه. وتم تعيين دونالد بينت آدمز (Donald Benneit Adam’s) كمدير لهيئة تطوير العراق في 6 شباط 1951.

وأوضح صورة على التنافس البريطاني الأمريكي في المجلس هو ما حصل عندما انتهى عقد الخبير الأمريكي وزلي نلسن، فقد كان عقد الخبير الأمريكي ينتهي في عام 1956 وكان هذا الخبير على درجة عالية من الكفاءة، وكفاءته معترف بها في داخل القطر وخارجه وكان نوري السعيد من المعجبين به جداً، إلا ان الذي حصل هو أن السفير البريطاني في بغداد قام بزيارة السفير الأمريكي ولدمار غلمن بسبب انتهاء عقد نلسن في 21 كانون الأول 1955. وخلال الزيارة تبين للسفير الأمريكي ان السفير البريطاني لا يريد تجديد عقد نلسن في المجلس

لقد كانت مسألة الخبير الأمريكي نلسن إحدى المسائل التي دار الخلاف عليها بين الطرفين البريطاني والأمريكي والتي من خلالها تبين مدى استياء الخبراء البريطانيين من وجود الخبراء الأمريكيين بينهم ووجود الشركات الأمريكية التي تعمل في العراق، حيث كان البريطانيون يريدون أن يبقوا هم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في العراق بغض النظر عن متطلبات العراق واحتياجاته ورغبته في التعامل مع الدول الأخرى. في محاولة للتخلص من النفوذ البريطاني وسيطرته على مجلس الاعمار سعى العراق لإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، إذ تم في آب 1952 عقد اتفاقية ثنائية بين العراق وأمريكا نصت على استخدام خبراء أمريكان للعمل في العراق في مجال التنمية الاقتصادية وللمساهمة في المشاريع التي يخطط لها مجلس الاعمار. وضمن نفس السياق وقع الطرفان في 15 آذار 1954 اتفاقية اقتصادية نصت على اعفاء الواردات والصادرات الأمريكية من والى العراق من الرسوم الكمركية.

وفي الوقت الذي نشاهد فيه تطور في العلاقات العراقية-الأمريكية من الناحية الاقتصادية لم تكن بريطانيا غافلة عن هذا التطور الذي كانت تدرك أنه موجه بالأساس ضدها، لذلك عملت بدورها على زيادة النشاط التجاري في العراق في محاولة منها لعدم رمي العراق بثقله الاقتصادي إلى الولايات المتحدة، حيث استقدمت مديرية البلديات العامة وضمن خطة مجلس الاعمار وبتوجيه من العضو البريطاني في المجلس مهندسين بريطانيين في هذا المجال، حيث وصل أول مهندس بريطاني إلى العراق في تشرين الأول 1954 وأسمه بيل وهو مهندس مدني ذو خبرة واسعة ولسنوات عديدة في بريطانيا لمساعدة الحكومة العراقية في إنشاء مشاريع الماء والكهرباء الجديدة وفي مختلف أنحاء العراق، أما المهندس الآخر فانه وصل إلى العراق في فترة لاحقة للمساهمة في وضع التصاميم للمشاريع المقترحة في نفس المجال.

وبالاهتمام نفسه وعلى غرار تقوية موقع بريطانيا الاقتصادي في العراق قررت بريطانيا القيام بعمل معرض تجاري لها في بغداد في 25 تشرين الثاني 1954، حيث يمثل هذا المعرض أكبر واجهة تجارية لعرض الصناعة البريطانية، إذ يؤكد المعرض على مدى قوة العلاقات العراقية-البريطانية (من وجهة نظر بريطانيا) ومدى الثقة الكبيرة التي توليها بريطانيا للعراق من الناحية الاقتتصادية.

منذ عام 1953 أصبح التنافس البريطاني-الأمريكي في العراق تنافساً جلياً وواضحاً لبسط النفوذ على العراق والفوز بمشاريع التنموية الجديدة لمجلس الاعمار، حيث أن السفارة البريطانية لم تخف مشاعر القلق من السياسة الأمريكية في العراق خصوصاً وأن بعض المسؤولين في العراق أخذوا يوضحون رغبتهم في الحصول على المساعدات الأمريكية الاقتصادية. ومما زاد في هذه المخاوف فشل بريطانيا في إقناع العرب بالمشاركة معها والغرب في تأسيس منظمة إقليمية للدفاع عن (الشرق الأوسط)، حيث دفع هذا فشل الولايات المتحدة الأمريكية متمثلةً بوزير خارجيتها جون فوستر دالاس بأن يطرح مشروعه المعروف بحلف دول الجوار الشمالي والذي أسس عليه فيما بعد حلف بغداد عام 1955، حيث راقبت السفارة البريطانية بحذر واسع هذه الزيارة بوصفها دليلاً على رغبة أمريكا بتعزيز نفوذها في منطقة (الشرق الأوسط). ومما زاد مخاوف بريطانيا مجيء فاضل الجمالي إلى رئاسة الوزراء في 17 أيلول 1953 والذي اشتهر بموالاته للأمريكيين، حيث أن حكومة الجمالي هي التي مهدت الطريق أمام تقدم ونمو النفوذ الأمريكي في العراق، إذ طالب الجمالي ومن خلال مذكرات بعثها إلى الخارجية الأمريكية الحكومة الأمريكية بتطوير علاقاتها مع العراق على نحو سريع في المجال الاقتصادي منطلقاً من إيمانه بوجود قوى تتمثل في بريطانيا تعارض وبسخط كبير إعطاء الولايات المتحدة دوراً مهماً في العراق. إذ أن تعزيز مركز الولايات المتحدة في المنطقة والعراق بالتحديد دفعها إلى المنافسة مع بريطانيا والقيام بهدم النفوذ البريطاني فيه والحلول محلها في الميادين التجارية والاقتصادية.

انقسمت الفئة الحاكمة في العراق على نفسها، حيث ظهر فريقان سياسيان في العراق، الفريق الأول مثله الوصي عبد الآله الذي وجد في الولايات المتحدة الأمريكية الوسيلة للحفاظ على موقعه ووجوده، والفريق الثاني الذي مثله نوري السعيد واستمراره في موالاة بريطانيا، حيث كان الوصي يرى أن بريطانيا قد انتهى دورها في البلاد العربية بعد أن قضى عليها اشتراكها في العدوان الثلاثي على مصر وان انسحاب بريطانيا سيترك فراغاً في المنطقة لابد من ملئه وأنه يرى أن أمريكا وحدها دون غيرها تستطيع أن تملأ هذا الفراغ، كما أن تمسك البريطانيين بنوري السعيد كان يحفز عبد الآله إلى التقرب إلى الأمريكيين.

ولما جاء اسبوع الاعمار لعام 1957 اصبح المنهاج أكثر تنوعاً وبدا من المناسب أن تقدم واشنطن للعراق هدية كانت تفكر بها منذ زمن، حيث أهدت الحكومة الأمريكية في 24 آذار 1957 للحكومة العراقية مختبراً للطاقة الذرية كتذكار لاهتمام الحكومة الأمريكية في استخدام الطاقة الذرية للغايات السلمية، فتم افتتاح المختبر وقطع رئيس الوزراء نوري السعيد (17 كانون الأول 1955-8 حزيران 1957) الشريط وأعلن أن المختبر جاهز للاستعمال بإدارة عالم عراقي متميز هو الدكتور محمد حسين ال كاشف الغطّاء الذي كان قد حصل على منحة من مؤسسة فولبرايت الأمريكية للدراسة في مختبر آرلون الوطني للجنة الطاقة الذرية الأمريكية في لامون بولاية آيلينوي.

لقد كان مجلس الاعمار صورة من صور التنافس البريطاني-الأمريكي في العراق وقد تمثل هذا التنافس بصورة كبيرة بين الخبراء والمستشارين البريطانيين والأمريكيين المنتشرين في المجلس، حيث أن هؤلاء كانوا يمثلون سياسة حكوماتهم والتي كانت في باطنها تعبر عن حقد وكراهية للجانب الآخر، على الرغم من أنهم في الظاهر يتعاملون بصور ايجابية إلا أنه لا يهمهم سوى مصلحته وتحقيق أهدافهم وغاياتهم التي لا تنتهي.

بغض النظر عن الصراع البريطاني-الأمريكي فان أمريكا أصبحت تشعر في هذه الفترة بقوة مركزها في العراق وأهمية تطوير علاقاتها الودية معهم من أجل تركيز مصالحها الاقتصادية وخاصةً بعد أن أدركت أن مركز بريطانيا بدأ يضعف في العراق، حيث أكد السفير الأمريكي غلمن على ضرورة اهتمام الولايات المتحدة بالعراق ودعا حكومته إلى ترك سياسة العزلة والتوجه نحو العراق، حيث أن النشاط الاقتصادي الأمريكي في مجال الاستثمار في العراق أصبح قوياً، ففي بداية عام 1957 أصبحت مساهمة رأس المال

الأمريكي في العراق تزيد على 60 مليون دولار منها 48 مليون دولار استثمر في العمليات النفطية والباقي استثمر في معامل وتجهيزات يملكها بعض المقاولين في العراق.

ان المساعدات الأمريكية خارج نطاق اتفاق النقطة الرابعة تمثل في قيام شركات أمريكية بعمليات المسح والكشوفات اللازمة لإنشاء طرق برية بين العراق وتركيا عام 1957 وامكانية قيام الولايات المتحدة بمساعدة العراق لتحسين وسائل الاتصال البري وطرق المواصلات والسكك الحديد، كما اتفق العراق مع الولايات المتحدة على اجراء المسوحات والكشوفات اللازمة لتأسيس شبكة مواصلات تربط العراق سلكياً بكل من تركيا وإيران والباكستان.

صراع النفوذ البريطاني – الأمريكي في العراق1939 – 1958