موديلياني الرسام الذي سحر الشاعرة

موديلياني الرسام الذي سحر الشاعرة

علي حسين

بعد قرن على وفاته فقيراً معدماً، في فرنسا التي وصل اليها عام 1906، وقضى فيها عمره القصير يبحث عن أسلوب في الرسم يميزه عن الآخرين، وخصوصا بيكاسو الذي كان يكبره بثلاث سنوات، عاش مهموما يرسم في سرعة وعصبية عشرات اللوحات، لديه احساس بأن المرض والفقر والقلق ستعجل بنهايته،

لذلك كان يهيم على وجهه متجولاً في ازقة باريس، يبحث عن الوجوه التي ستجعل منه واحدا من اشهر رسامي القرن العشرين، الرسام الايطالي اماديو موديلياني يعود بقوة بعد ان حققت لوحاته في الاعوام الاخيرة ارقاما قياسية، فى المزادت الفنية، حيث يؤكد بعض المهتمين بشراء اللوحات ان ست لوحات من اعمال موديلياني تعادل اليوم مايقارب المليار دولار عدا ونقدا، اذا عرفنا ان آخر مزاد لاحدى لوحاته وصل الى 170 مليون دولار.

عاش أميديو موديلياني 36 عاما، ولد في الثاني عشر من تموز عام 1884 في شمال ايطاليا، لعائلة كانت تواجه الافلاس في وقت ميلاده، فالوالد خسر تجارته بعد ولادة طفله الرابع بسبب الانهيار المالي الذي حدث في ايطاليا آنذاك، وسينقذ مولد هذا الطفل اسرته من الافلاس، حيث وفقا لقانون كان معمول به في ايطاليا، لا يمكن للدائنين الاستيلاء على سرير المرأة الحامل او التي لديها طفل حديث الولادة، وعندما دخل موظف الحجز على املاك الوالد، قامت الام باخفاء الاشياء الثمينة في السرير.

رأت امه فيه طفلا نابغا، عاش حياته يعاني من المرض،، ولم يكن متفوقا في دراسته، ومع هذا كانت الام تلاحظ ان ابنها يقضي وقته بصنع تماثيل صغيرة، وفي سن السابعة عشر من عمره اخبر امه أنه سيصبح نحاتا، لكن بسبب ضعف جسده وصحته الهشة، حيث اصيب بالتهابات رئوية جعلته يتخلى عن هذا الحلم مثلما تخلى عن دراسته، مما دفع الاب، بعد أن رأى ثقة ابنه بنفسه، ان يكلف احد الرسامين لتدريبه، وكانت الام تلاحظ ان ابنها لايمارس شيئا سوى الرسم، انه يرسم طوال النهار تكتب في يومياتها: " ترك ديدو الدراسة ولا يمارس الا الرسم، انه يرسم طوال النهار، وكل يوم بحماس متزايد يدهشني ويسحرني ". ويخبر الاستاذ عائلة موديلياني ان ابنهم مدهش وساحر، ويلون بطريقة رائعة، وبسبب مرضه ادخل إلى مصحة في نابولي حيث رافقته والدته، بعدها سافر الى روما وفلورنسا حيث اتاحت له هذه الرحلات ان يزور المتاحف الفنية، وتكشق لنا سيرة موديلياني ان وضعه الصحي ساعده في ان يتفرغ للرسم، يكتب لشقيقه الأكبر: " انا اعاني من المرض صحيح، ولكن بوسع هذه المعاناة ان تكون حافزا على ايجاد نفسي ". في العشرين من عمره يحط الرحال في باريس، ليدرس الفنون الجميلة، كان بيكاسو الذي يكبره بثلاث سنوات، يعيش في باريس منذ سنوات، يغادرها احيانا لكنه يعود اليها، لم تكن لوحاته آنذاك تحظى باعجاب هواة الفن، وكان يعيش في فقر دائم، في تلك الايام كان بيكاسو منشغلاً برسم لوحته التي ستحصد فيما بعد شهرة كبيرة " آنسات أفينيون ".

في باريس يقرر موديلياني ان يرسم بهدوء، لوحات رقيقة، وباساليب بسيطة، معبرا عن حنان مرهف لمجموعة من الوجوه احبها، كان آنذاك مغرما بقراءة دانتي وبودلير ونيتشه يكتب الى احد اصدقائه ان " قراءة نيتشه جعلتني اكتشف ان السعادة ملاك بوجه حزين "، بعدها سيدله نيتشه على كتابات شوبنهاور، ستعجبه وجه نظر فيلسوف التشاؤم بالفنون، فقد كان شوبنهاور يرى أن الفلسفة والفن يتكلمان عن نفس الموضوع ولكن بلغات مختلفة، فبينما تحاول الفلسفة تفسير العالم وحل مشكلاته من خلال الكلمات المنطقية والعقلية، يحاول الفن لعب نفس الدور، ولكن باستخدام أدوات مختلفة، باستخدام ما هو أبعد من الكلمات، من خلال استحضار الصور العقلية للأفكار والحلول على هيئة لوحات أو نغمات أو كلمات شعرية رقيقة: " بينما تخاطب الفلسفة العقل في شكله المحض، يقوم الفن بمداعبة المشاعر ومحاولة خلق فجوة ينفذ من خلالها الإنسان إلى أعماق ذاته متجاوزًا ثقل الكلمات ومشقة التفكير وصلابة العقل إلى رحابة المشاعر والخيال غير المحدود. هذا ما يجعل إمكانية تحرير الإنسان ولو مؤقتًا من ضيقه واغترابه متاحة، والذهاب به إلى آفاقٍ جديدة يستطيع أن ينعم فيها بحريته، حريته التي لطالما كانت مغتصبة ".

عبر سلسلة البورتريهات التي منحته مجده العالمي، تتبدى التأثيرات الفنية والنفسية في حياته القصيرة، حيث نشاهد الأعناق الطويلة والعيون البارزة والوجوه البيضاوية والشفاه المائلة، جميعها تعطي إحساساً بالحزن والفقد، شخصيات ملامحها هادئة، تعكس عزلة الرسّام، في كتاب جميل بعنوان " مطالعات في الفن التشكيلي العالمي يكتب السوري صدقي إسماعيل: " عبرت أعمال موديلياني عن حرارة الرغبة الإنسانية في التصوير الحديث، غير أن رسومه لا تخلو من نزعة إلى الخيال. فقد كان حريصاً على تبديل الواقع وفق النزعات العاطفية الدفينة، هذه النزعات التي ألهمته فكرة الامتداد والاستطالة في الأشكال. فمعظم رسومه تبدو وكأنها تنعكس في مرآة صافية، توحي بالامتداد الذي لا يعرف النهاية، كما أن الوجوه البشرية التي رسمها موديلياني تحمل ملامح الاستسلام والوداعة".

اراد موديلياني ان يحول العالم الذي يعيش فيه إلى ألبوم من الأشخاص الذين كانوا يعيشون حوله، ويراهم كل يوم ومن بين هؤلاء الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا التي ما ان رآها اول مرة حتى تملكته رغبة شديدة في رسمها كانت آنا طويلة القامة بشعر داكن وبشرة باهتة وعينين رمادييتين يشوبهما اللون الاخضر يكتب مويدلياني انها: " تجسد النموذج الجمالي المثالي ".

في يومياتها تكتب آنا أخماتوفا عن موديلياني: " كان يبدو أنه يعيش في حلقة من العزلة. لم يذكر أبداً اسم صديق، لم يتفكه أبداً. لم يتحدث أبداً عن غراميات سابقة، أو عن أشياء دنيوية أبداً. كان مجاملاً بنبل. "

في باريس تعرف مويلياني الى بيكاسو وماكس جاكوب وابو لينير، إلا انه لم يحدث ان ارتبط معهم بصداقات عميقة، ولم يكن بيكاسو ياخذ ذلك الايطالي الغامض على محمل الجد، وقد كان يعتقد ان موديلياني يفتعل دور الفنان المنبوذ وانه يجيج تمثيل هذا الدور: " عجيب أمر موديلياني فلم يسبق لاحد ان رآه مخمورا في شارع سان دونيز، ولكنه دائما على قارعة شارع مونبارناس ".

عندما وصلت أخماتوفا الى باريس عام 1910، كانت تبلغ من العمر 21 عاماً، أمراة تكتب الشعر ملامحها جميلة تتابط ذراع زوجها، وتتجه معه كل يوم إلى المقاهي التي يجلس فيها الكتاب والرساميين الطليعيين، حيث هناك ارتبطوا بصداقات مع بعضهم، وكان احد هؤلاء هو أميديو موديلياني، والذي كان قد وصل من إيطاليا قبل ذلك بأربع سنوات. شاب ذو أنف روماني أرستقراطي، وشعر اسود، كان يسحر آنا أخماتوفا في حديثه، وأصبح الاثنان بوقت قصير جدا اصدقاء لايتفارقون. وبينما كان زوج أخماتوفا يقضي اماسيه مع عدد من معارفه، كانت أخماتوفا تقضي النهار مع موديلياني يتنزهون في الحدائق او يزورون المتاحف. ونجدها تكتب في يومياتها: " كلما أمطرت السماء أخذ موديلياني معه مظلة سوداء كبيرة. كنا نجلس معاً تحت هذه المظلة على مقعد في حديقة لوكسمبورغ في المطر الصيفي الدافئ. نود أن نقرأ معا قصائد فيرلين، الذي نعرفه عن ظهر قلب، وكنا سعداء لأننا نتقاسم نفس الاهتمامات ". وفي مكان آخر تصف موديلياني: " في عينيه كان بريق ذهبي، كان على عكس أي شخص في العالم ". بينما يكتب موديلياني: " كل أحلامي جاءت مع هذه المرأة، كان لديها عالم آخر ". عندما تعود أخماتوفا إلى روسيا مع زوجها ترسل إلى موديلياني كمية كبيرة من الرسائل، بعدها بعام تعود إلى باريس لتمكث عدة أشهر، وفي هذه الفترة تكتب اشعار تهديها الى موديلياني، ويصطحبها موديلياني إلى الجناح المصري في اللوفر ليخبرها انها تشبه واحدة الملكات المصريات، ويبدا يرسم لها اكثر من تخطيط بقلم الرصاص.

تكتبت احدى صديقات أخماتوفا في مذكراتها أن الشاعرة الروسية ستعلق اللوحات التي رسمها لها موديلياني وتكتب تحت واحدة منها: " انها بقلم رصاص لساحر ".

بعد رحيلها من باريس يتعرض موديلياني الى نكسة صحية خطيرة، وبحلول عام 1919، كان قد فقد أسنانه ويعاني من العوز، المرض يفتك به، يعيش أشهره الأخيرة في شقة بائسة، وقد وجده اصدقائه منهكًا ومتجمدًا من البرد، لينقلوه الى المستشفى. في 22 كانون الثاني عام 1920 يموت موديلياني متاثرا بمرض السل في مستشفى للفقراء.

في تشرين الثاني عام 1965، سيسمح لآنا اخماتوفا بان تسافر الى انكلترا للعلاج، هناك تسعى لإقامة معرض لاعمال موديلياني وتكتب في دليل المعرض: " يكمن سحر هذا المعرض بشكل خاص في الطريقة التي تكشف تدريجياً عن ظهور مفردات موديلياني المختصرة والمميزة، ومدى استخدام هذه المفردات في وجوه من احبهم وكنت واحدة من هذه الوجوه ".

ظلت آنا اخماناتوفا برغم كل المصاعب التي واجهتها تعتبر نفسها جزءاً من الادب الروسي العظيم فقد كتبت قبل وفاتها بسنوات قليلة: " لن اكف عن كتابة الشعر، انه صلتي بالزمن وبحياة شعبي، وحين اكتب قصائدي، اعيش في ذات الايقاعات التي يردد صداع تاريخ بلدي، انني سعيدة لانني عشت هذه الاحداث التي لا تعادلها احداث ".

في مثل هذه الايام وقبل " 54 " عاما، اعلنت وكالات الانباء رحيل الشاعرة الروسية آنا اخماتوفا، وكان سبب الوفاة نوبة قلبية حادة لم تمهلها طويلا.

قال مهندس البحرية لزوجته ان هذه الفتاة لم تكن علامة بشارة لنا، فقد تم تسريحي من الخدمة بعد ولادتها باسبوع، وسيقرر الاب ان ياخذ عائلته ويرحل من القرية الصغيرة الى مدينة شمال روسيا، ولدت آنا اخماتوفا في الثالث والعشرين من حزيران عام 1889، وهي تذكر هذا التاريخ بسعادة فتكتب: " ولدت في العام نفسه الذي ولد فيه شارلي شابلن واصدر فيه تولستوي روايته سونتا كروتزر، وشيد برج ايفل وربما هو نفس العام الذي ولد فيه اليوت "، في طفولتها ستزعج والدتها كثيرا لانها ترفض الذهاب الى الكتيسة، قبل ان تدخل المدرسة تتعلم القراءة من خلال كتب تولستوي المبسطة للاطفال، كتبت قصيدتها الاولى وهي في الحادية عشر من عمرها، تسحرها كتابات بوشكين وليرمانتوف، لكن القصيدة التي اثرت كثيرا فيها كانت " قصيدة "موت شاعر" التي كتبها ليرمانتوف احتجاجا على مقتل بوشكين، وكانت تردد القصيدة امام امها التي كانت تقول ان الشيطان تلبس ابنتها، عام 1905 سيتركهم والدها بعد ان انفصل عن امها، وكان هذا العام قد شهد ثورة كبرى في روسيا، تختار الام مدينة كييف للسكن، هناك تدرس آنا قواعد اللغة الروسية لتتخرج عام 1907، تلتحق بكلية القانون، حيث تدرس تاريخ القانون، ولم تشعر يوما ان دراسة القانون ستؤثر عليها كشاعرة، عام 1910 تتزوج من نيكولاي غوميليوف، احد ابرز شعراء الطليعة في روسيا، نشر عام 1905 مجموعته الشعرية "طريق الفاتحين "، ينهي دراسته في السوربون، يؤسس عام 1910 مجلة " أبولون "، اعجبت به آنا اخماتوفا عندما تعرفت اليه اول مرة، واستمرت قصة الحب بينهما ثلاث سنوات، تكتب آنا اخماتوفا: " لقد أحبني لمدة ثلاث سنوات حتى الآن، وأعتقد أنه من قدري أن أكون زوجته. سواء كنت أحبه أم لا، أنا لا أعرف، لكن يبدو لي أنني أحبه. "

وفي تلك السنوات سيؤسس عدد من الشعرء الطليعيين الروس ورشة شعرية ستكون آنا ابرز اعضائها، حيث كانت الورشة تهدف الى التعرف على الاتجاهات الحديثة في الشعر الاوربي. عام 1912 تزور باريس وجنوا وفينيسيا، وتتجول في المعارض التشكيلية الايطالية، وفي نفس العام يصدر ديوانها الاول " المساء "، تطرقت فيه الى موضوع الحب، ولا سيما فقدانه وعذاباته، لكن الديوان الذي طبع منه 500 نسخة لم يجد رواجا، في باريس ولدت ابنها ليف، العام 1914 يصدر ديوانها الثاني تحت عنوان " زهرية " وكانت قد اختارت مدينة سان بطرسبورغ مكانا للاقامة، لعام 1917 يصدر ديوانها الثالث " السرب الابيض " والذي تقررالسلطات منعه، وكان عليها ان تتعامل بحذر ممع السلطات السوفيتية التي تسلمت زمام الحكم، هاجم النقاد ديوانها " السراب الابيض "واعتبروه مناجاة نفسية في زمن تشهد روسيا تحولات كبرى،

في عام 1918، حدث الطلاق بين آنا اخماتوفا وزوجها، تزوجت بعد ذلك من الشاعر نيقولاي نيقولايفتش.

في عام 1921، يلقى القبض على نيكولاي غوميليف بسبب دوره المزعوم في مؤامرة ملكية ضد الحكومة، وفي آب من نفس العام ينفذ فيه حكم الاعدام.

ستختار العزلة حيث تعمل امينة مكتبة في احد المعاهد الزراعية، العام 1921 تصدر كتابان جديدان وهما لسان الحمل وعام الغد، في تلك السنوات تتفرغ لدراسة اعمال بوشكين، لكن السلطانت تبدا بمضايقتها، فقد اتهمها النقاد بانها شاعرة مسيحية، وتتخلل اشعارها الرؤى والايماءات الدينية، وانها غير مؤمنة بالاشتراكية والنضال من اجل المستقبل، بل ممتلئة بالحنين الى الماضي، وهو ما سبب عداء الاوساط الثقافية الرسمية لها وستكتب: " لست نبية استشراق الاشياء المقبلة.

وتنساب حياتي مشرقة مثل جدول متالق

انا ببساطة لا اشعر بدافع للغناء

إذا كانت مفاتيح السجن هي التي يجب ان تحدد لحني "

وبسبب قصائدها التي هاجمت فيها ما حدث في الثلاثينيات، وقضية اعدام زوجها وسجن ابنها، منعت آنا من النشر:

اي قدر جديد اعلنه

للذين لم يقض عليهم الجلاد

يانجوم السماء في الاعالي

المعي فوقهم ولهم

فلن يذوقوا بعد الان قوت الارض.

ولن يرووا اعين الذين يحبون

سستتعرض الى محنة جديدة حين يتم القاء القبض على زوجها نيقولاي نيقولايفتش وابنها ليف غوميليوف اثناء الحملة التي قادها ستالين ضد المعارضين وقد اضطرت ان تكتب رسالة الى جوزيف ستالين تطالبه باطلاق سراح زوجها وابنها، والرسالة مؤثرة ترجمها الى العربية استاذنا الدكتور ضياء نافع

(يوسف فاسيريونوفيتش الموقر

قررت ان أتوجه اليكم بهذه الرسالة, لاني اعرف موقفكم تجاه القوى الثقافية للبلاد، وبالاخص تجاه الادباء. لقد اعتقلت قوميسارية الشؤون الداخلية في 23 تشرين الاول في لينينغراد زوجي نيقولاي نيقولايفتش البروفيسور في اكاديمية الفنون وابني ليف نيقولايفتش غوميليوف الطالب في جامعة لينينغراد الحكومية.

يوسف فاسيريونوفيتش – انا لا اعرف بماذا يتهمونهما,، لكني اعطيكم كلمة شرف, بانهما ليسا من الفاشست ولا من الجواسيس ولا من المشاركين في الجمعيات المضادة للثورة.

اني اعيش في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية منذ بداية الثورة, ولم أرغب بتاتا بمغادرة البلاد التي يشدني اليها عقلي وقلبي, على الرغم من ان اشعاري لا يطبعونها, والتقييمات النقدية تجاهي تسبب لي الكثير من اللحظات المريرة, لكن عزيمتي لم تنهار,وانا مستمرة بالعمل في ظروف معنوية ومادية في غاية الصعوبة, واصدرت عملا عن بوشكين, والعمل الثاني معد للطبع. اني اعيش في لينينغراد بانعزالية تامة, وغالبا ما اتمرض ولفترات طويلة. ان اعتقال أقرب اثنين لي هو ضربة لا استطيع ان اتحملها.

أرجوكم, يا يوسف فاسيريونوفيتش, اعادة زوجي وابني اليّ, وانا متأكّدة, انه لن يأسف أحد بخصوص ذلك ابدا.

آنا أخماتوفا

عندما تندلع الحرب العالمية الثانية وتغزو جيوش هتلر بلادها وتحاصر مدينتها لينينغراد، راحت تكتب عن الوطن، وتشيد بالجنود الذين يدافعون عنه فالوطن اغلى من الحكومات " وقدكانت قصائدها تبث من خلال الاذاعة الرسمية، بعد نهاية الحرب ترحل الى موسكو: " لقد اكتشفت قيمة النوع الانساني. بدأت انظر الى الحياة بشكل مختلف "

تعاطف معها ادباء الغرب، لكنها كانت غاضبة لانهم: " هناك في الغرب يكتبون انني انتمي الى العقد الاول من القون العشرين، وبعد ذلك جف منبع الهامي وسقطت ساكتة. ولكني لم اكتب ما هو اغزر مما كتبته في الاربعينيات. انا لا انتمي الى الماضي او غارقة فيه ".

العام 1964 تمنحها جامعة اكسفورد درجة الدكتوراه الفخرية في الادب. كانت انذاك في الخمسة والسبعين من عمرها، وقد عانت ثلاث ازمات قلبية، وكوريثة لبوشكين الذي اصدرت عنه كتاب وكتبت في مديحه عشرات المقالات، وكامتداد للادب الروسي الذي اتصف بسمات الاحساس العميق، والفكر الجاد، وبساطة التعبير والصدق فان آنا اخماتوفا قد عاشت مسيرة ادبية طويلة وصعبة، انفردت فيها بقوة موهبتها مما جعلها تقف في طليعة الشعراء الروس.

عاشت اخماتوفا وماتت وهي تحب وطنها وفي اصعب المحن التي مرت بها رفضت ان تغادر البلاد، وفي احرج فترات الدفاع عن لينينغراد ضد الغزو النازي كانت قصيدتها " شجاعة " تعلق على الجران، فقد حددت موقفها من الوطن:

سمعت صوتا ينادي " يهدهدني "

توسل الي: " تعالي هنا!

غادري ارض روسيا الخاطئة

الى الابد! تعالي الى بلاد الاجانب

سوف جعل يديك المضرجتين بالدم حلوتين

ولسوف اطهر قلبك من العار

ومن آلام الاهانات والهزيمة

ساشيع فيك الطمانينة بمنحك اسما جديدا "

بكفي الانين ضغطت على اني

وبعقل صاف ومتماسك

حتى لا ادع البذاءة

تدنس روحي المتالمة.

قبل وقت قصير من وفاتها، كتبت آنا أخماتوفا عن موديلياني: " أن أكثر ما أثار إعجابي به هو قدرته على قراءة الأفكار، ورؤية أحلام الآخرين وغيرها من الأشياء التافهة التي اعتاد عليها الناس، قلت له أنت الوحيد الذي يمكن أن يفهم هذه الامور ".