وداعا شاعرة العراق الكبيرة آمال الزهاوي

وداعا شاعرة العراق الكبيرة آمال الزهاوي

د. بشرى البستاني

بصبر العراقيات الصامتات على وجع تواريخ الحروب والفقدان والنيران عاشت المبدعة آمال الزهاوي حراك الحياة والفن والقضية، وكتبت شعرها بين نارين ضاريتين، نار الروح المرهفة الهائمة بأسئلتها الوجودية الحارقة وهي تتأمل حياة يسعى كل مافيها لغياب أليم، ونار الطغاة والمعتدين الذين أحرقوا شعبها العربي الذي عاصرت فقدانه وتضحياته واحتلالاته،

فعاشت عذاب فلسطين وثوارها وكتبت عن الكارثة ديوان (الفدائي والوحش) وعاشت محنة أمتها العربية وتسلط حكامها وكتبت عن المحنة (أخوة يوسف) وعاشت محنتها الوجودية في (التداعيات) فقد كانت هذه المبدعة مخلصة للفن الشعري فيما انتجت وكتبت من مجموعات أصيلة عبر فهمها الواعي بأهمية الفن ووظيفته المقتدرة على دمج القيمي بالجمالي. فضلا عن تقديمها عالمها الانثوي وهموم المرأة في مجتمع ذكوري وقيم عشائرية لا ترحم بتشكيلات حداثية مبكرة، وقد فصلتُ القول في هذا الموضوع النسوي في دراسة عن شعرها: بعنوان (ملامح الأنثى في شعر آمال الزهاوي) كما عبرتْ عن هموم شعبها وأمتها بصدق وانتماء في دواوينها، الطارقون بحار الموت، يقول قس بن ساعدة، الشتات، آبار النقمة، وكان الديوانان الأخيران مخصصين لمحنة العراق ومكابدات شعبه وعذاب ابريائه الذين يموتون دون أن يعرفوا لقتلهم ولموتهم وموت أطفالهم أي سبب.

لقد بدأت الشاعرة مسيرتها الشعرية بالكتابة عن شتات فلسطين وكأنها كانت تستشرف القادم من التشردات العربية عبر شعرية نسجت خيوطها النصية من خلال الترميز والغياب والتناصات بأنواعها، ولجأت الى التعبير بالقصيدة الطويلة التي كانت واحدة من روادها حين وجدت القصيدة الاعتيادية لا تفي بالوقائع المرة وبالخيانات التي لاحقت الإنسانية في عصر اغفل هموم الإنسان ومتطلبات كرامته الأساسية بجشع ابتلع الحقوق كلها فكان ديوانها (أخوة يوسف) الذي شكل قصيدة واحدة على مدى خمس وثمانين صفحة من القطع المتوسط مازجة الهم الإنساني بالوطني بالقومي بالوجودي، مؤمنة بان الشعر الأصيل لا ينطلق إلا من واقع، لكن بإشاراته هو وبتشكيلاته الشعرية التي يستمد لظاها ولوعة انبثاقاتها من عذاب المحن ومن دراما الصراع العنيف الذي يعيشه المضطهدون عبر نمذجة اللغة شعرا، بحيث لا يهيمن الايديولوجي على الشعري والجمالي بل العكس. فكانت الشعرية تتجلى في كل ما كتبت رموزا وأساطير وانزياحات وتضمينات من التاريخ والتراث الديني والمعرفي ومع الأدب القديم وملاحمه وأساطيره، فكان جلجامش حاضرا، وكانت عشتار، وكانت الملكات العراقيات وهن يقلن للعالم ها نحن قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، فأين كانت نساء العالم يوم كنا ملكات وجليلات..! وشعرها اذ ينطلق من اشارات الواقع فلأنه ذاهب للمستقبل عبر المحنة الانسانية التي ظلت تستعر حتى وصلت اليوم أقصى الذروة الكارثية عنفا.

إن منجز الشاعرة العراقية المبدعة الناشطة والإعلامية والصحفية والناشرة والمثقفة المخلصة لقضية الشعر وجودا آمال الزهاوي، ظل بعيدا عن الأضواء وما يستحق من اهتمام، فهي من جيل الستينات حسب الأجيال الشعرية، جيل الموجة الصاخبة كما سماه الشاعر والناقد العراقي الكبير سامي مهدي، ويعلم الجميع أن الشعر الستيني الذي أعقب الرواد أعطى الكثير، ونال ما نال من اهتمام في النقد والكشف والدراسات الأكاديمية، وبالرغم من أن المبدعة آمال الزهاوي كانت واحدة من طلائع هذا الجيل إلا أنها لم تنل استحقاقها النقدي لا أكاديميا ولا ثقافيا، وظل شعرها بعيدا عن الضوء لأسباب لست الآن في صدد تفصيلها، فقد شخصت النظرياتُ النسوية هذه الأسباب بإسهاب واعتراضات ورفض وصل حد الاتهامات التي قد نتفق مع بعضها ونختلف كثيرا أو قليلا مع الأخر، المهم هنا ان شعر آمال الزهاوي سيظل موضع اعتزاز الإبداع العراقي عموما والنسوي بشكل خاص، وحينما ستُدرس النسوية ووعي المرأة ورفضها وقدرتها على امتلاك الموقف وعلى تشكيل القرار والدفاع عنه في مجموعات الشواعر العراقيات، ستكون آمال الزهاوي في طليعة الشواعر النسويات المتوازنات وعيا وفنا وابداعا وإخلاصا لقضية الإنسان..

وهنا لابد من دعوة المختصين في النقد والأدب الحديث داخل الأكاديمية وخارجها إلى الالتفات لمنجز الشاعرة العراقية المبدعة آمال الزهاوي والعمل على دراسته في كتب ورسائل واطاريح تكشف عن شعريته وثرائه وأهمية مضامينه، والأمل كبير بوجود الكثير من الأكاديميات الرصينات اليوم ووجود التدريسيين من الباحثين المنصفين في الجامعات العراقية، الذين باتوا يحملون قيما جديدة في النظرة للإنسان ومنجزه رجلا كان أو امرأة..

تحية اجلال لروح شاعرتنا العراقية آمال الزهاوي التي ظلت مخلصة للشعر حتى النفس الأخير، لأن الشعر كان قضيتها وفضاء بوحها ومتنفس روحها المرهفة، وكل الاعتزاز والتقدير لمنجزها الذي سيلتفت اليه الباحثون يوما، لأنه يشتغل في أكثر من حقل، ويتأمل في أكثر من فضاء، في الروح والفلسفة وفي الوطن ومواجع الأنثى ومعاناة الإنسان وشتاته وفي جراحاته بكل مكان من هذا العالم المستلب بهيمنة حضارة مادية لا إنسانية أهملت الإنسان وداست كرامة روحه، وبحكام أعمتهم السلطة واستلاباتها يوم فارقت القيم الخالدة وانهمكت بما هو زائل.