سلمى الخضراء الجيوسي: الرائدة الشابة..  عربية غاضبة  أيضاً

سلمى الخضراء الجيوسي: الرائدة الشابة.. عربية غاضبة أيضاً

نجوان درويش

في المرة الأولى التي شاهدتها فيها على أحد التلفزيونات العربية، كانت المذيعة تسألها كيف تمكّنت بمفردها من إنجاز مشروع كبير في ترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية. وتقصد مشروع "بروتا" الذي بدأته سلمى الخضراء الجيوسي منذ 1980 ونتجت منه مجموعة أعمال وموسوعات وكتب مترجمة إلى الإنكليزية. لم تنطل المجاملة على الجيوسي التي أجابت المذيعة بلهجة مؤنِّبة: هل تريدينني أن أنتظر الحكومات العربية لتفعل ذلك؟

في الأربعينيات، كانت سلمى تمشي مع بنات صفّها من مدرسة "كلية شميدت للبنات" قرب باب العمود إلى بيتها في البَقْعَة، أحد أجمل الأحياء في القدس الذي بُني مطلع القرن الماضي، خارج أسوار البلدة القديمة. الدراسة في تلك المدرسة هي ما دفع العائلة إلى الانتقال من عكا، مدينة طفولة سلمى إلى القدس مدينة صباها. وهي المولودة في السَّلْط الأردنية من أب فلسطيني وأم لبنانية... وشباب بيروتي لاحقاً. نشأة شامية (بلاد الشام) بامتياز. تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت، وعادت سريعاً لتدرّس في "كليّة تدريب المعلمات" في القدس. وقبل نكبة 1948 بقليل، تزوجت دبلوماسياً أردنياً وانتقلت معه إلى عمّان. وقد طوّفت وعاشت في أمكنة كثيرة من يومها. وها هي تقضي صيف 2009 في بيتها في عمّان.

هي واحدة من أبرز الوجوه في الحركة الشعرية المعاصرة، كتابة وتنظيراً. صدر ديوانها "العودة من النبع الحالم" عام 1960. وكانت سلمى في قلب الجدل حول ما سُمّي حينها "الحداثة الشعرية العربية". لم تكن بعيدة عن جماعة مجلة "شعر"، لكنها اختلفت مع طروحات الجماعة. ولا يبدو أن الخلاف قد انتهى حتى اليوم مع الباقين من تلك المرحلة. وهو خلاف جوهره الهوية العربية، وقضايا التراث والحداثة، والموقف من الغرب. كانت مجموعتها تلك متقدمة على إنتاج زميلاتها في تلك المرحلة، كنازك الملائكة وفدوى طوقان. وامتازت عنهن بموقف أكثر حداثة من الذات والعالم، ولغة حسية تبتعد قدر الإمكان عن الرومنطيقية المسيطرة في تلك الفترة. لم تتوقف سلمى عن أن تكون شاعرة ونشرت قصائد قليلة بعد ذلك. لكن يبدو أنّ العمل الثقافي الواسع امتصّ طاقتها الشعرية، وحوّلها إلى مسارات إبداعية أُخرى، لكن بقي في كل شيء تفعله قلق الشاعرة وعنادها. في 1970، نالت الدكتوراه من "معهد الدراسات الشرقية والأفريقية" في جامعة لندن، عن أطروحتها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" التي كتبتها بالإنكليزية، وصدرت عام 1977 عن "منشورات بريل"، وتأخر ظهورها بالعربية حتى 2000 عن "مركز دراسات الوحدة العربية" بترجمة عبد الواحد لؤلؤة.

بعد سنوات من التدريس الجامعي في السودان والجزائر، وأثناء "غربتها الأميركية" أواخر السبعينيات حيث دعيت للتدريس، وُلدت فكرة "بروتا": "لم يعد بإمكاني الصمت عن هذا الوضع. وازداد موقفي حدة يوم زرت "مكتبة أكاديمية نوبل" في استوكهولم، ولم أجد فيها إلا أربعة كتب مترجمة للمبدعين العرب". أكاديمية نوبل قصة أخرى في حياة سلمى. الثابت أنّها كانت مستشارة للأكاديمية في الأدب العربي، ولها فضل في فوز نجيب محفوظ بالجائزة عام 1988.

لم تخفت فتوّة سلمى ونقديتها مع السنين. توزّع تعليقاتها اللماحة، وتلاحظ وتحلل كل شيء حولها، وإذا حدث وبحثت عنها أثناء مشاركتها في مؤتمر ما، تجدها في غرفة البريد الإلكتروني، تردّ على رسائلها. حين التقيناها في ندوة عن أدب الرحلة في الرباط، كانت آتية من مهرجان شعري في الجزائر، وكانت ستغادر إلى الدار البيضاء لتسلّم جائزة. لا تكترث "الدكتورة سلمى" للسنين. العمل مقدّس لديها، فهو ارتباطها العضوي بالناس. تصنع صداقات أينما حلّت، وتصغي إلى قصص الآخرين. تبحث عن الإنسان وراء كل شيء.

لم يفاجئنا رأيها في "الأخبار"، حين قالت: "هذه جريدة محترمة"... لكننا لم نتوقّع أن يكون أكثر كتّاب الجريدة راديكالية هو مَن يفتن الدكتورة سلمى بمقالاته السياسية، أي زميلنا أسعد

أبو خليل. بدت سلمى متابعة لمقالات أسعد، ومهتمّة حد الافتتان بـ"العربي الغاضب". لِمَ الاستغراب... أليست أيضاً ـــ على رقتها ـــ عربية غاضبة؟

أن تقضي يومين بصحبة سلمى تجربةٌ لا تنسى. بسرعة، تُبدد سلمى هالة السنين، فلا تعود تشعر بمسافة معها، حتى وإن كنتَ في سنّ أحفادها. لا تعطيك سلمى شعور الجَدة، بل تنسج معك صداقة يتيحها لها شباب الشعور. حاربت طوال عمرها الصور النمطية، سواء التي أشاعها الغرب الاستعماري أو حتى التنميطات الاجتماعية المحلية السائدة، ولا سيما الخاصة بالمرأة. "بنت مشروعها النقدي ثم مشروعها لنقل الأدب العربي إلى الإنكليزية في ظل عالم ثقافي عربي هيمنت عليه المشروعات الذكورية والقيم الذكورية"، يقول الشاعر نوري الجراح أحد أصدقاء سلمى القريبين، قبل أن يضيف: "لكنها تمكنت من أن تبزّ أولئك الرجال الذين عدّوا أنفسهم صناع الثقافة العربية، واحتفظوا للمرأة بمنطقة البوح الشعوري وكتابة الخواطر الذاتية! ".

ومن الطرائف التي تروى عن "الدكتورة سلمى"، أنها ذات يوم في الثمانينيات، التقت أحد الرؤساء العرب. وبينما كانت تنتظر الموعد في الرئاسة، خاطبها مدير مكتب الرئيس بـ"يا حاجّة"، الأمر الذي عدّته عدواناً ذكورياً على مكانتها مثقفةً، فما كان منها إلا أن ردّت عليه فوراً: "أُمك الحاجة!". حتى اليوم، لا يجرؤ أحد على التعامل معها وفق هذه التنميطات.

وجوه كثيرة لهذه المثقفة العربية الرائدة التي تحظى اليوم بالتقدير والحب أينما حلّت. كلمة رائدة التي أضعف استعمالها "رواد" كثيرون، تسترد بريقها عند سلمى. الرائد ليس هو فقط "من لا يكذب أهله" كما في المأثور التراثي، بل هو من يغضب من "الأكاذيب" الكبيرة ويرد عليها.

· عن جريدة الاخبار اللبنانية