من ذكريات دخولي معهد الدراسات النغمية

من ذكريات دخولي معهد الدراسات النغمية

د. حسين الاعظمي

الطموح والاهواء

كانت فترة مقتبل عمري وحداثة سني وبداية وعيي في الحياة، قد سادت فيها فكرة سيطرت على كل طموحاتي واهوائي وميولي الذاتية، فكرة الغناء والدخول في عالم الموسيقى، وفي حينها لم يكن معلوما لدى الجميع عن وجود أي معهد موسيقي غير معهد الفنون الجميلة، التابع الى وزارة التربية،

الذي يمكن للمرء ان ينتمي اليه، آملا ان ينال ما يريده ويحققه من طموحات الوصول الى دار الاذاعة والتلفزيون، ليصبح بعدئذ مطربا على المستوى الاعلامي، وتطورت هذه الفكرة، وبتُ انتظر تخرجي من الصف الثالث المتوسط، لكي انتمي بصورة طبيعية الى معهد الفنون الجميلة، ومن ثم اكون معلما موسيقيا في النشاط المدرسي. وبذلك اكون قريبا من تحقيق طموحاتي الغنائية والموسيقية، خاصة وقد كان بعض الفنانين المشهورين المنتمين الى دائرة النشاط المدرسي، يتنقلون بين المدارس الابتدائية لتحفيظ الطلبة بعض الاناشيد الوطنية، ويمكنني ان اتذكر البعض من هؤلاء الفنانين، مثل الفنان محمود عبد الحميد والفنان فاروق هلال، والفنان محمد غريب ابو عماد، وغيرهم. هذه الافكار وغيرها، كلها كانت محاولات فكرية وعملية، عقلية وعفوية، من اجل تحقيق بعض من الميول والاهواء والطموحات الذاتية، لان بيئتي كانت حاجزا، او شبه ذلك بيني وبين عالم فن الغناء والموسيقى..! بدليل انني عندما تعرفت على المطرب المقامي حمزة السعداوي في المتحف البغدادي كما مر بنا. اعتبرته اول فنان اتعرف عليه شخصيا، حيث لا اتذكر انني سبق ان تعرفت على غيره قبل هذا التاريخ..!

دخول المعهد

لم يكن الامر صعبا عليَّ، فقد توجهت مباشرة الى ادارة معهد الدراسات النغمية العراقي، مقتنعا بتنبيه ونصيحة احد الاصدقاء بوجود هذا المعهد وتخصصه بشؤون غناء وموسيقى المقام العراقي. تاركا فكرة الانتماء الى معهد الفنون الجميلة خلف ظهري دون التفكير في العودة اليها ابدا..! وفي ذلك كان الحظ العظيم..! اقول ذلك وانا واثق من صحة توجهي الى المعهد الجديد- معهد الدراسات النغمية العراقي– الذي وجدت فيه معظم طموحاتي واهوائي وميولي.

كان دخولي الى المعهد منعطفا كبيرا في حياتي، حيث غير مجراها تماما، ومن خلاله انتظمت طموحاتي، وبدأتُ اساهم شخصيا في تسييرها وهندستها، ان كان ذلك بصورة عقلية واعية او بصورة عفوية طبيعية. ومن خلال المعهد، انفتحت لي جميع الابواب التي كانت موصدة في تصوراتي، تعلمت فيه، تُـلمذتُ على يد اساتذة كبار ومشاهير، اساتذة عراقيون وعربا واجانب، تعرَّفت على الفنانين والاساتذة، عشت في الوسط الفني والمقامي من خلاله، اكتشفني منير بشير في المعهد، وفتح العالم امامي كما وعدني، شهادة علمية موسيقية، تدريس فيه، ادارة فيه ايضا، وغير ذلك من امور حصلتْ لي بمجرد دخولي الى المعهد الاثير، معهد الدراسات النغمية العراقي. وهناك الشيء الكثير مما يمكن ان اتحدث به عما انجز لي من خلاله طيلة المسيرة الفنية التي اقتربت من الوصول الى نصف قرن والحمد لله على كل شيء..

تأسيس المعهد

تأسس معهد الدراسات النغمية العراقي في العام الدراسي 1970- 1971، وفيما أتذكر، أن حفلة تكريمية، هي بمثابة حفلة إعتزال لمطرب العصور المقامية محمد القبانجي، أقامتها وزارة الاعلام في قاعة الخلد ببغداد يوم الثامن والعشرين من شهر مايس March من عام 1969. وقد شاهدتها من خلال شاشة التلفزيون، حيث نقلها التلفزيون العراقي مباشرة، وغـنى في هذه المناسبة عدد من مطربي المقام العراقي وهم. يوسف عمر في مقام الجمـَّال ومجيد رشيد الحيالي في مقام الاوج وعبد الرحمن خضر في مقام النهاوند وعبد الهادي البياتي في مقام البنجكاه وحمزة السعداوي في مقام الدشت ويونس يوسف الاعظمي في مقام الاوج والحاج هاشم الرجب في مقام البيات والمطرب الكردي علي مردان في احد المقامات وعبد الجبار العباسي في مقام الجمـَّال. واختتم الحفل المطرب المحتفى به، استاذ الجميع محمد القبانجي.

ندما إنتهى فناننا الكبير محمد القبانجي المحتفى به من وصلته الغنائية، صعد وزير الثقافة والاعلام د. عبدالله سلوم السامرائي الى خشبة المسرح، مقدما هدية ثمينة بإسم الدولة للفنان الكبير محمد القبانجي، تكريماً لتاريخ هذا الفنان الاسطورة الحافل بالانجازات. ثم ألقى المحتفى به الفنان القبانجي، كلمة بالمناسبة، شكر فيها الدولة والوزارة والفنانين المشاركين، وخلال الكلمة، إقترح أستاذنا القبانجي موجهاً ذلك الى الوزير الواقف بجانبه على المسرح، إقتراحاً تمنى فيه أن تؤسس مدرسة أو معهد أو أي مرفق علمي ومعرفي ودراسي لتعليم وتدريس المقام العراقي خشية عليه من الضياع والاندثار..

وعلى أثر هذه الكلمة وهذا المقترح، تم فعلاً العمل به، وتم تأسيس معهد الدراسات النغمية العراقي في العام التالي من هذه المناسبة. حيث كان العام الدراسي الاول للمعهد هو 1970 – 1971..

حفلة التخرج الاولى

من المؤكد أن طلبة وأساتذة معهد الدراسات النغمية العراقي القدامى، سيظلون يتذكرون دائما حفلة يوم 13/6/1977. التي أقامها المعهد بمناسبة تخريج الدورة الاولى لطلبته.. على قاعة الشعب وسط بغداد، وكانت برعاية وزير الاعلام زمنذاك المرحوم طارق عزيز. ولا بد من الاشارة وبكل صراحة. بأن عقد السبعينات من القرن الماضي، كان العصر الذهبي للمعهد. من خلال نوعية أساتذته ومواهب طلبته وحفلاته التي كانت مثار إعجاب وإنتباه كل الاوساط الغناسيقية والاعلامية في العراق. بحيث كانت كل نشاطاته التي تقام على المسارح خارج بناية المعهد، يتم تسجيلها في الاذاعة والتلفزيون رغم ان المعهد كان حديث العهد والتاسيس..! واستمر هذا التوهج الذهبي حتى عقد الثمانينات رغم الحرب الايرانية العراقية..!

في هذه الحفلة، إخترتُ مقام الكرد مع أغنية مني شبده وتاذيني، لأقدمه برفقة الفرقة الموسيقية المركزية للمعهد كما هو واضح في الصور أعلاه. بعد أن تم اختياري من قبل إدارة وأساتذة المعهد للمشاركة في هذه الاحتفالية، ولهذا المقام قصة وحكاية، ولا أريد هنا أن أتحدث وأسهب في تفاصيل الموضوع، لأنه طويل ولا مجال للدخول في أغواره..! وملخص الموضوع أن غنائي في هذه الامسية لهذا المقام، كان فيه إنجازاً إبداعياً، من الناحية العلمية ومن الناحية التقليدية أيضاً..! رغم أنني كنت لم أزل طالباً في المرحلة الثالثة بالمعهد. وبمرور السنين، عكفتُ على كتابة بحث علمي في هذا الموضوع كان عنوانه (سلــَّم مقام الكرد بين النظرية والتطبيق) شاركت به في مؤتمر الفن العربي المعاصر الثالث الذي أقامته جامعة اليرموك بمدينة اربد في المملكة الاردنية الهاشمية عام 1998..

التخرج والتفوق

ومن المثير في نتيجتي الامتحانية بالعزف على آلة الجوزة، حينما حضر الموسيقار منير بشير الى جلسات امتحان العملي للالات الموسيقية، ان درجتي كانت اعلى درجة بين زملائي في العزف..! ولكن في حقيقة الامر ان احد زملائي في دورتنا اخي وصديقي صلاح حميد، كان افضل الجميع في العزف على آلة الجوزة، وفي هذه الفترة كان يعزف في حفلات المتحف البغدادي..! فهو افضل مني ومن غيري في دورتنا في عزفه..! ولكنه في الامتحان النهائي، يبدو اصابه بعض الارتباك بحيث لم يحصل على الدرجة العليا بيننا..! حتى ان لجنة الامتحان، اشاروا الى الموسيقار منير بشير بهذا الامر، ولكن الاستاذ منير بشير اجابهم،

- قولكم صحيح، ولكن الطالب حسين في الامتحان كان افضل..! أليس كذلك..؟

وهكذا كانت نتيجتي في الجانبين النظري والعملي اولا على دورتي عند التخرج، وفي النهاية استطعت ان ازيح زميلي العزيز رياض اسحق القس من تفوقه الدائم في السنوات الخمس الماضية، الى المرتبة الثانية عند التخرج..! ولكن وللمصادفة التي لم اكن اعي اهميتها المستقبلية، حيث كان يهمني النجاح فقط، ولكن تفوقي هذا في النهاية كأول على دورتي، الذي لم احسب له في ذاكرتي حسابا..! كان له اعظم الاثر في مسيرتي العلمية والحياتية. فلولا هذا التفوق لما قـُبلتُ بقسم الموسيقى في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ولولا البكلوريوس في العلوم الموسيقية من جامعة بغداد، لما كان لي الاستمرار في الحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه. والحمد لله والشكر له دائما وابدا..

عن: يوميات حسين الاعظمي - معهد الدراسات النغمية العراقي.