للمرة الأولى أكتشف: فهمي المدرس أديبا..  نظرة في شعره ونثره

للمرة الأولى أكتشف: فهمي المدرس أديبا.. نظرة في شعره ونثره

مير بصري

لم يعرف عن فهمي المدرس انه كان شاعرا، لكن عثرنا له على قصيدة عصماء بلغ عدد ابياتها نحوا من 120 بيتا، وقد رثى بها صديقه الاديب التركي محمد سامي بك سليمان المعروف باسم "سليمان نسيب،.

وكان محمد سامي بك المولود في الاستانة سنة 1857 نجل القائد العثماني الشهير سليمان باشا المشهور في حرب روسية (1877)، ثم نفاه السلطان عبد الحميد الثاني الى بغداد، وفيها نشأ ابنه الاديب الشاعر واصبح فيما بعد مديرا لمعارفها. وعاد سليمان نسيب الى تركية فتقلد مناصب عالية حتى كان مديرا عاما لجامعة استانبول المعروفة باسم، دار الفنون، وتوفي سنة 1917. وقد جمع اصدقاؤه طائفة طيبة من شعره ونثره في كتاب طبع في العاصمة التركية سنة 1918 باسم "سليمان نسيب" ادبي وفكري حيات" والحقت به المرائي التي قيلت فيه، وهي كثيرة ساهم فيها اكثر ادباء التركية انذاك، ومنهم محمود صبحي الدفتري (الذي رأيت نسخة من الكتاب لديه) وابراهيم الحيدري وغيرهما.

ضمت تلك المجموعة الطريفة قصيدتين عربيتين في رثاء الاديب التركي، اولاهما لمعروف الرصافي نائب المنتفق في مجلس المبعوثين، ومطلعها:

ابكي بك الموت عين العلم والادب

يا سامي النفس والاخلاق والرتب.

قد كان منعاك لما ان سمعا به

كضربة السيف في قلبي وفي عصبي

ولم تنشر هذه المرثية في ديوان الرصافي المطبوع سنة 1949. اما القصيدة الثانية فطويلة لفهمي المدرس استهلها بذكر حكمة الموت فقال:

هو الموت لا يبقي من الناس باقيا

وما ان ارى حبا له اله وافيا

فذاك سليمان ونوح وآدم

واحمد كل جاءه الموت داعيا

ويمضي المدرس في شعره فيذكر الحرب المدمرة التي كانت تحرق العالم بشواظها القاتل، ويقول مخاطبا صديقه الراحل:

ولما رأيت الناس ضلت عقولهم

وكلا بهذا القرن اصبح باغيا

وان دماء الناس شرقا ومغربا

تراق بلا إثم ولم تر ناهيا

ولم نر من تلك العلوم زواجرا

ولا من دعاة الحق للحق داعيا

ولا الموت يثنيهم، ولا الدين حاجز،

ولا صارم عضب يرب الدواهيا

وضاق على المرء القضاء فلم يجد

له مهربا كيما يعيش مصافيا

وفي الجو او قعر البحار وفي الثرى

اذا ما احتمى لاقى الردي والرواميا

وما ابقت الايام – يا ويحها – لنا

كهولا ولا ابقت لدينا ذراريا

سئمت من الدنيا جميعا واهلها

وغادرت هذا العيش لله غاديا

ولو كان عقل الناس للناس هاديا

لما كان بعض الناس للناس ماحيا

لكن اجمل ما في القصيدة لم يأت بعد. ان اهوال الحرب ودماء الناس والعمران لم تنس الشاعر المغترب وطنه وبلده، فما ان يدورا بخلده حتى يغص بريقه ويترك فؤاده نهبا للذكريات والاشواق والاحلام، فيقول:

لقد ضاق صدري عن احاديث لم اجد

سواك اليها في البرية صاغيا

احاديث ايام خلفن بلا ضحى

فمرت طوالا كلهن لياليا

احاديث اوطاني واهلي وعترتي

وابناء نوعي ثم نفسي وماليا

احاديث ارض ما رضيت بغيرها

مقيلا ولا عن اهلها كنت ساليا

عرفت الهوى فيها وعانقت ظلها

وقضيت اووطاري بها وشبابيا

احاديث عن وادي الفرات ودجلة

ومن ذا راى – قل لي – كدجلة واديا؟

نسيم الصبا ما هب في جنباته

رأيت نعيما في الجوانب جاريا

ومن ذا الذي ينسى الرصافة والمها

وينسى سذا جناتها والمغانيا؟

فلي كبد حرى اذا ما ذكرتها

وطرف متى ما نبهته كان داميا

بلادي اراها في البلاد عزيزة

ولا ارتضي في العيش الا بلاديا!...

ان هذه القصيدة لم تكن رثاءا جاشت به نفس صديق لصديقه فحسب، ولكنها نفحة عطرة من نفحات وادي الرافدين هبت على ضفاف بحر مرمرة والبوسفور، فنفست عن صدر الاديب العراقي المغترب وهدهدت اشواقه وامانيه.

وقد ذكر عباس العزاوي بيتا من الشعر لفهمي المدرس ارخ فيه نصب جسر بغداد الذي اقامه الوالي نامق باشا الصغير في ايلول 1903، وهو:

وبمعجم الالفاظ ارخ قائلا:

مروا عليه ذا صراط مستقيم

وذكر كما ابراهيم تلميد فهمي المدرس ومريده ان استاذه نظم قصيدة دالية من بحر الكامل في اكثر من سبعين بيتا اعدها لتلقى في حفلة تخرج الدفعة الاولى من طلبة جامعة آل البيت، قد جاء فيها:

كل الشعوب تحررت من رقتها

الا ابن يعرب لم يزل مستعبدا

لكن الغاء الجامعة حال دون القائها فنشرت القصيدة في احدى الصحف المحلية بتوقيع مستعار.

نثره واراؤه

كان فهمي المدرس وطني النزعة، اسلامي الفكرة، داعيا الى نهضة المسلمين وتضامنهم. وقد قال في خطاب القاء بحفل المولد النبوي في حزيران 1937.

"ثلاثة عشر قرنا تتابعت على حياة البشر وهي تملي علينا من مناقب هذا اليوم ما ملأ بطون التواريخ، ولم تبلغ شأوها البعيد.

وفي مثل هذا اليوم من كل عام تتجاوب انحاء العالم الاسلامي بما يردده الخطباء والشعراء وما تفيض فيه الاقلام من اسرار ذلك المجد الذي تلألأ نوره في بطحاء مكة وسارت ركباته بتلك السرعة الخارقة حتى بلغت مشارق الارض ومغاربها، وكانهم ما قالوا، وكأنهم ما كتبوا.

ثلاثة عشر قرنا والعلم يكشف للناس من حقائق دين الاسلام ما لا يبقي شكا في ان هذا الدين اجل واعلى مما تفهمه الاكثرية الساحقة من المسلمين في هذا اليوم.

ان تعاليم دين الاسلام جاءت بحسب تطور المدارك والقابليات واستعدادها لقبول ذلك الانقلاب الخطير. ولم تكن مقصورة على قوم او على زمن او على قطر من الاقطار، وانما هي نظم واقوانين ثابتة تتمشى مع العلم والعقل كلما تطور البشر واتسعت مداركه بمقتضى قاعدة النشوء والارتقاء.

بنيت سياسة هذا الدين على اساس العدل والاحسان والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتساوي في الحقوق وتوسيد الامور الى اهلها وجعل نظام الحكم شورى بين الناس. ومن اسسه الاجتماعية الصدق والاخلاص وتهذيب النفس وطلب العلم وقوة العزم والارادة والتعاون على البر والتقوى والتوازن بين الفقراء والاغنياء ومواصلة السعي والعمل الى غير ذلك مما هو منصوص عليه في كتاب الله العزيز.

فدين الاسلام هو دين التمدن والحضارة، وهو دين العلم والسياسة، وهو دين الانسانية المتكاملة في مكارم الاخلاق، وهو الدين الكافل للبشر سعادة الدارين في كل زمان ومكان..

ثم اشار المدرس الى عوامل الانحراف عن النهج الاسلامي القويم. واجتماع العوامل الهدامة في الداخل والخارج للفت في عضد الدين، واتكال المسلمين على ماضيهم وانغماسهم في الملاذ والشهوات وانقطاعهم عن العمل واختلاف نزعاتهم وتفرق شلمهم، وما افضى اليه كل ذلك من الضعف وخذلان وانحطاط وقال:

"والآن وقد اصبحوا من المستضعفين في الارض لايملكون من الامر شيئا حتى في ديارهم وفيما ملكت ايديهم، فما لهم الا ان يرجعوا الى تعاليم دينهم القائمة على اساس الوحدة والاخوة، وينبذوا الاختلافات المذهبية والنزعات العنصرية، ويستحوا العزائم من ماضيهم، ويستمدوا القوة من دينهم، ويصلحوا من الاخلاق ما ظهر منها وما بطن، ويعدوا للحياة عدتها المطلوبة في هذا العصر. وحسبهم ان يكونوا عالة على الامم في جميع لوازم الحياة ونصيبهم منها الحثالة، وهم من عصارة خير امة اخرجت للناس، ويجعلوا نصب اعينهم انا تأخرنا عن الامم في مضمار الحياة اربعة قرون، وان الرقابة بين الامم تستفز الهمم وتبعث من عزائمهم ما يزيدهم في كل يوم بأسا وقوة.

ذلك ما يحتم على كل مسلم ان يفكر ويقوم بواجبه ازاء هذا الوضع الخطير، عسى ان يقف الشر عند حده و(لعل الله يحدث بعد ذلكامراً).

عن كتاب اعلام العراق