من اوراق الراحل نجيب محيي الدين..فهمي المدرس وجامعة آل البيت في العشرينيات

من اوراق الراحل نجيب محيي الدين..فهمي المدرس وجامعة آل البيت في العشرينيات

هناك من يرى ان تعثر سير الدراسة وما اثير حولها من خلافات بين المسؤولين وما ألت اليه الجامعة من مصير لم تكن بمنأى عن اهداف وصراعات سياسية وشخصية. فيذكر الاستاذ حسن الدجيلي في مقدمة كتابه (تقدم التعليم في العراق) "بان المرحوم فهمي المدرس كان يطمح للسيطرة على جهاز التعليم العالي فيجمع حواليه عددا من المثقفين والمريدين يستعين بهم لتحقيق طموحه السياسي والاجتماعي في اشغال منصب وزير المعارف".

ولكنه يستدرك بعد ذلك فيقول: "كما حدثني احد الثقات" دون ان يذكر الاسم.. بينما يرى باحثون آخرون غير ذلك في شخصية الاستاذ فهمي المدرس فانه "قد افرغ وسعه واستنفد جهده في سبيل ارسال الجامعة على مناهج علمية رصينة تستمد اتجاهاتها من ينابيع الثقافة الاسلامية، فخطط للجامعة دروسا علمية ممتازة واختار لها اساتذة فضلاء.. وقد عارض هذا الاتجاه الاسلامي الذي كان يرغب المدرس ان يجعله الطابع المميز للجامعة نفر من رجال السياسة والتربية كانوا يريدون وجوب الفصل بين التعليم والدين، وقد كان على رأس هذا الاتجاه نوري السعيد وفاضل الجمالي وساطع الحصري، فوضعت العراقيل في سبيل الجامعة منذ بدايتها الى ان تم اغلاقها".

اما الاستاذ فهمي المدرس فقد رمي مسؤولية فشل الجامعة واغلاقها على سياسة وزارة الاوقاف وما يحمله شيوخها من الافكار الدينية التقليدية والمحافظة كما ذكر سابقا، بالاضافة الى موقف الاستاذ الحصري منها، وقد بين ذلك في جريدة العالم العربي في مقالة له بعد قرار سد الشعبة الدينية جاء فيه: "ليس لذلك السد ولذلك الاغلاق سبب سياسي ولا سبب اداري ولا سبب مالي". وبعد ان يشرح هذه الامور يقول: "ان السبب هو ساطع الحصري لانه لا يروق له تشكيل الجامعة ما لم يكن هو امينا لها، وربما لانه يريد ان يوجه الشبان الى الجامعة الامريكية".

ان فكرة ومحاولة انشاء جامعة عراقية في عام 1922م تمثل مبادرة تعبر عن مشاعر وطنية وثقافية وجديرة بالتقدير بالرغم من فشل مشروعها، اذ ضلت هذه الفكرة تشكل طموحا يراود امال الوطنيين والمثقفين العراقيين، فجرت في عام 1936م معاودة لمحاولة ثانية لانشاء جامعة وطنية من قبل وزارة المعارف التي كان وزيرها المرحوم الاستاذ صادق البصام، إلا انها اخفقت لأسباب مالية وسياسية. وتكررت المحاولة حال انتهاء الحرب العالمية الثانية من قبل وزارة المعارف وتبنتها سياسات الحكومات المتعاقبة وتحقق لها ذلك بتاسيس جامعة بغداد في عام 1957م.

ان محاولة انشاء "جامعة آل البيت" في عام 1922م – اي قبل ما يقرب من تسعين عاماً. كانت سابقة لأوانها، حيث لم تكن الشروط اللازمة لجاحها متوفرة انذاك بسبب الظروف الصعبة التي كانت تواجهها البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية والتي اشرنا اليها في المقدمة حين كانت الأمية سائدة بين السكان وحيث كان انتشار التعليم الابتدائي محدوداً واقل منه انتشارا كان التعليم الثانوي الذي يؤهل خريجيه للتعليم العالي.

كان مجديا لو توجه الاهتمام والعمل على اصلاح التعليم الديني في الشعبة الدينية العالية في هذه المؤسسة الوليدة التي سميت بـ"جامعة آل البيت" على وفق رؤية الملك فيصل الأول واهدافه للتقريب بين المذاهب الاسلامية السائدة في العراق وعلى وفق الاتجاهات الدينية الاصلاحية التنويرية للاستاذ فهمي المدرس الهادفة – كما كان يدعو لها لاعداد رجال دين يمتلكون ثقافة دينية بعيدة عن التعصب المذهبي الى جانب "ثقافة عصرية تجعلهم منفتحين فكريا ويتطلعون الى صلاح مجتمعهم وتقدمه ويدعون الى ذلك. ولم يكن في كل هذا من تناقض.

يلاحظ ان اهتمام الملك فيصل الاول بشؤون الجامعة وحتى بشؤون الشعبة الدينية الذي كان داعيا ومتحمسا وساعيا لها، قد فخت او تلاشى بعد مدة من الزمن من انشاء الجامعة، اذ ان آخر كتاب للديوان الملكي كان قد صدر في 25 شباط/ 1924م متضمنا ملاحظات الملك حول النظام المقترح الجامعة التي ذكرت سابقا، ولم اعثر على اي كتاب او إشارة لموقف الملك ازاء الخلافات التي نشبت بين ادارة الجامعة وبين كل من وزارة الاوقاف ووزارة المعارف، ويبدو ان الملك قد نأى بنفسه عنها، او انه قد اقتنع بوجهة نظر وزارة المعارف التي يمثلها الاستاذ ساطح الحصري المتمثلة بالتوجه لمكافحة الامية والعمل على نشر التعليم ورفع مستواه في المراحل الدراسية الابتدائية والثانوية والاقتصار على ارسال البعثات من الطلاب الى الجامعات الاجنبية في ذلك الوقت حتى يحين الوقت المناسب لتأسيس الجامعة وتتهيأ لها الظروف والشروط اللازمة لنجاحها. والملك بموقفه هذا قد تجنب الخلاف ايضا مع مشايخ وزارة الاوقاف الذين لم يكونوا موافقين على سياسة الاستاذ المدرس وآرائه ازاء ما يجب ان تكون عليه اتجاهات التعليم الديني المتسمة بالانفتاح والتنوع والابتعاد عن التعصب الفكري والديني.

اشار بعض الذين عاصروا تلك الفترة بما كتبوه في الصحف والذين تابعوها بعد ذلك الى أن ما جرى حول مسيرة الجامعة لم يكن بمنأى عن الصراعات السياسية والشخصية مستندين على ذلك بالتلكؤ حتى بافتتاح الشعبة الدينية وعدم التوجه لتعيين اساتذة كفاة بعلوم الدين والاستعانة بذلك من رجال الدين المعروفين بقدراتهم وعزارة علمهم وفضائلهم ومحاولة عرقلة جهود الاستاذ المدرس وعدم الالتفات الى وجهات نظره، وفي تقديري انه قد يكون ذلك وارداً إلا انها لم تكن لتؤدي الى فشل المحاولة الذي آلت إليه فكرة الجامعة والكلية الدينية لو كان التأسيس صحيحا وتوفرت الظروف الموضوعية اللازمة لنجاحها كما بينت سابقا.

عن كراس (جامعة آل البيت) 2012