فهمي المدرس.. الخدمة الوطنية الصادقة

فهمي المدرس.. الخدمة الوطنية الصادقة

اعداد: رشيد الرماحي

من المع الكتاب السياسيين العراقيين الذين برزوا في الميدان السياسي منذ اعلان الدستور العثماني والى ما بعد اندلاع الحرب العاليمة الثانية. كما كان اول رئيس للامناء في بلاط الملك فيصل الاول الذي فجر الصراع بين الحكم الاهلي في بداية تأسيسه مطلع العشرينات، وبين القوى الوطنية التي كانت تدعو لاستقلال ناجز بعيد عن الهيمنة الاستعمارية البريطانية..

ومن الغريب ان ذكرى وفاته هذا العام تصادف نفس اليوم الذي رحل فيه الى رحاب الله كما ترويه شاهدة القبر الرابض في مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني فتقول (هو الباقي انتقل الى جوار ربه المغفور له امين جامعة آل البيت سابقا الاستاذ الكبير فهمي بك المدرس وذلك ليلة الاثنين 14 آب 1944 الموافق 24 شعبان سنة 1363 هـ. الى روحه الفاتحة).

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا الملف عن فهمي المدرس

ان التعريف بفهمي المدرس للجيل الجديد، وتقييم دوره بعد مرور 34 سنة على وفاته، ينطوي على مغزى تقدير الرجال الذين خدموا الحركة الوطنية بصدق، وساهموا في هذا الميدان مساهمة جادة ومخلصة تستحق الثناء والتقدير.

والمدرس واحد من هؤلاء لعب دوره في مختلف المواقع التي شغها كاول رئيس لامناء البلاط الملكي في مطلع العشرينات او عندما ترأس جامعة ال البيت او يوم ترك الوظائف وانضم الى الحزب الوطني بقيادة جعفر جلبي ابو التمن وجرد قلمه يهاجم الانتداب البريطاني ويكشف النقاب عما ينطوي عليه من غمط لحقوق الشعب.. لهذه الاسباب، ولاسباب اخرى يكون الرجل جديرا بان نهتم بذكراه ونسعى للتعريف به للجيل الجديد ونقيم دوره قدر المستطاع!

مثقف العشرينات:

* وما دمنا في بداية الحديث عن فهمي المدرس، لابد ان نتساءل عن سر اختياره اول رئيس لامناء بلاط الملك فيصل الاول، وكيف تطور الخلاف بينه وبين الملك حتى كادت تحدث ازمة سياسية عراقية بريطانية بسببه!

مجلس المدرس

* من المميزات التي كان يتحلى بها المدرس لباقته في الحديث مما ابرز شخصيته في الاندية والمجالس التي كان يحضرها فياخذ الحاضرين باسلوبه وما يتخلله من طرف وملح، وما يعززه من روايات يستقيها سواء من التاريخ القديم ام الحديث، لذلك كان مجلسه سواء في داره القديمة التي كانت تقع في محلة الصابونجية) ام الحديثة في الاعظمية عندما انتقل اليها اواخر حياته، يزدحم بالزوار على اختلاف الوانهم وافكارهم يصغون الى احاديثه ونوادره باهتمام يضفي عليها من خفة دمه وتهكمه المرير وسخريته مما يشوق الحضور على متابعتها، وكثيرا ما كان المدرس يستعين بالاشارة الى تصوير الوقائع التي يتحدث بها. فيشير بيديه تارة، ويومئ برأسه تارة اخرى وكانه يمثل الوقائع التي يسردها.

* ويذكر العلامة محمد بهجة الاثري بهذا الصدد:

- كان اول لقائي بالمرحوم فهمي المدرس يرجع الى سنة 1911 في البلاط حسين قصدته حاملا من استاذي الشريف محمود شكري الالوسي مذكرة الى الملك فيصل تتضمن اراءه في اصلاح الاوقاف ومنذ ذلك الوقت بدأت صداقتي معه، وفي سنة 1930 ابان اشتداد المعارضة صد المعاهدة البريطانية التي فرضها الانكليز على العراق في عهد وزارة نوري السعيد الاولى، كنت ازوره مع جملة من يزوره من المعارضين في داره وفي طليعتهم ياسين الهاشمي. وكنت قبيل ذلك ازوره احيانا في ايام الصيف في حديقة داره بالاعظمية، كما التقي به في دار الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي وكانت ندوة الاخير من اروع الندوات التي شهدتها بغداد طوال اقامته فيها وكان يحضر هذه الندوات ياسين وطه الهاشمي ورستم حيدر وفهمي المدرس ومعرف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وعطا الخطيب وطه الراوي ومنير القاضي وغيرهم من ساسة البلد وعلمائه وادبائه. وكان الاستاذ المدرس على صلة وثيقة جدا بالثعالبي، كلاهما كان من رجال الفكر والسياسة وكانا على جانب عظيم من ادب النفس وبراعة الحديث وسمو الذوق وجمال الشارة.

وبشر المؤمنين

* عندما اندلعت حركة مايس عام 1941 كان المدرس شيخا كبير السن، ولكن عندما هب الشعب في هذه الفترة نفض عنه رداء الشيخوخة وتقمص روح الشباب فخطب خطبته المشهورة التي اذيعت من راديو بغداد حمل فيها على السفير البريطاني السير كورانس واليس حملة شعواء وجاء في خطبته (ايها الشباب المتحفز الى المجد الباذخ، ويا أباة الضيم.. العدو يجوس خلال الديار، ويطأ باقدامه القذرة تربة ابائكم الطاهرة، وان ارواح اجدادكم العظام تحف بكم حاملة صحائف تاريخكم المجيد ترتل ايات ذلك الماضي المحفوف بالسؤدد والشرف الرفيع، وان اجنحة لملائكة المقربين ترفرف فوق رؤوسكم صارخة (وبشر المؤمنين يا محمد) فذبوا عن اوطانكم واعراضكم ومقدساتكم واستعاد الناس في تلك الفترة مقالات فهمي المدرس وكتاباته التي كانت تهز العرش والاستعمار البريطاني.

رائد كبير!

* ولكن ما هو دور المدرس في الصحافة العراقية واثره عليها؟

يقول الزميل عبد القادر البراك:

- لايسع الباح في تاريخ الصحافة العراقية ان يغفل او يتغافل دور الكاتب الكبير الاستاذ فهمي المدرس في اقامة اركانها والاسهام برفع مستواها في الشكل والمحتوى والمضمون رغم قلة الادوات وفقدان الجو الطبيعي الصحي الذي تزدهر الصحافة فيه، فالاستاذ المدرس خلال توليه لرئاسة تحرير جريدة (الزوراء) التي استهل بها الوالي المصلح مدحت باشا تاريخ الصحافة العراقية لمدة لاتزيد عن عقد واحد من السنين. لم يقصر في رفع مستواها فيما كتبه وترجمه عن اللغات التركية والفارسية والفرنسية، وفي اشرافه على ابوابها وتنظيم صدورها. كما لم يقصر في بث بعض الشؤون والشجون الوطنية فيها بالرغم من ان طبيعة الجريدة (الرسمية) كانت تحول دون الاعراب عن تطلعات ومطامح الشعب العراقي بالتحرر والاستقلال والتقدم. ان دور المدرس في (الزوراء) لم يقل عن دور الامام الشيخ محمد عبده يوم تولى رئاسة تحرير (الوقائع المصرية) الناطقة بلسان الدولة العثمانية على القطر المصري يومذاك، بل لعل ما نشره المدرس يفوق بكثير مما نشره الامام مع مراعاة الغوارق بين القطرين الشقيقين مصر والعراق انذاك.

التنظير والتحرير

* على ان المدرس كان في (التنظير) اقوى منه في (التحرير) لان الاول من مؤهلات المفكر الجالس في حين كان التحرير من مهمة المحترف والهاوي الذي يرابط في المطبعة والادارة ويتلكف الاعباء المالية بكل اشكالها. وقد تجلت قابليته في (التنظير) من خلال توجهاته لرواد مجلسه في بيته بالصابونجية وفي حديقته بالاعظمية كما ان توجهاته الوطنية واندفاعاته الثورية كانت تستحوذ على مقالات بعض من كا يرتاد ندوته من كتاب ذلك الجيل وفي مقالات المعارضة والتنديد بالحكم الاستعماري والسياسة البريطانية وحكام العهد الملكي المباد.

رحلة فهمي المدرس!

* وعلى ذكر مقالات فهمي المدرس التي اشار اليها الزميل البراك، فقد صدر قبل فترة الجزء الثالث من مقالات المدرس للسيدين عبد الحميد الرشودي وخالد محسن اسماعيل ورغم جهودهما المشكورة في الجمع والتقديم والتعليق، الا ان الكتاب جاء خاليا من دراسة المدرس نفسه..

* وكتب السيد خالد محسن اسماعيل يقول:

- في كانون اول من عام 1964 صدر الجزء الرابع من السنة الاولى من مجلة (الاقلام) وفيها مقال للاستاذ خيري العمري عن (فهمي المدرس) ووجدت فيه ما طبقه الاستعمار في العراق على فهمي المدرس منذ تاسيس الحكم الاهلي في اب 1921 حتى وفاته رحمه الله في اب 1944 حين اختير رئيسا للامناء في البلاط الملكي تحرك الانكليز واذنابهم فابعدوه عن هذا المنصب وحين عهد اليه تاسيس جامعة آل البيت هبت كل القوى الخفية للقضاء على المدرس ومشروعه، ولم تسكت حتى اجهزت على الجامعة وامينها.. وحين اختير مديرا عاما للمعارف لم يبق فيها اكثر من اثني عشر يوما.. لقد كانت قضية (فهمي المدرس) المثل الطبيعي لاساليب الاستعمار البريطاني ضد رجال العراق. وهنا سارعت الى اخي الاستاذ عبد الحميد الرشودي اعرض عليه مشروع جمع كتابات المدرس المنشورة في الصحف العراقية مما لم يضمه الجزءان الاول والثاني من مقالاته المطبوعة في حياته سنة 1931 وسنة 1932. ومن هنا بدأنا معا رحلة فهمي المدرس. فالمدى الذي امتدت اليه مقالات المدرس تجاوز الاربعين سنة ومجاميع الصحف لم تكن كاملة في موضع واحد، ومقالاته كانت طويلة بتواقيع عدة، كل هذا صحيح الا ان حبنا للرجل وحرصنا على انقاذ اثاره من الضياع جعلنا نحرث الصحافة العراقية حرثا، فاستقامت لنا مجموعة من مقالات المدرس زادت على ما نشر في الجزئين وكنا خلال ذلك نتصل باصحاب المدرس ومعارفه وتلاميذه، نتسقط معالم فهمي المدرس:: نضم الخبر الى الخبر ونرد الحادثة الى اسبابها، لتتكامل صورة هذه الشخصية الكبيرة، ولا ننسى ما قدمه لنا الاساتذة: محمد بهجة الاثري، خيري العمري، مهدي الرحال والمرحومون: ناجي القشطيني، ناصر الدين الكيلاني، عباس الازاوي، عبد الاله حافظ وكمال ابراهيم وغيرهم.

* ويبقى سؤال: لم لم يكتب عن فهمي المدرس نفسه؟

اننا نؤمن ضرورة حصر اثار الاعلام والكتاب ونشرها قبل الاقدام على دراستهم لان الكتابة مسؤولية وهي بمثابة اصدار حكم في قضية خطيرة، وقبل اصدار الحكم لابد ان نقف على اوليات قضية كهذه وهي تتعلق باثار ذلك العالم متمثلة بافكاره وكتاباته ومواقفه وسلوكه، لذلك بدأنا باستكمال اثار فهمي المدرس لنضع امام الباحثين في تاريخ العراق الحديث. وفي فهمي المدرس نفسه مادة متكاملة تقوم على الامانة والموضوعية، فاذا اسفنا الى كل هذا ان المدرس كان محجوبا عن امته، بتخطيط مدروس، كان لابد من اختراق ذاك الحجاب ليعود الوجه النظيف وليحتل مكانه الطبيعي، لهذا كله بدأن بنشر اجلزء لثالث الذي يكمل اثار فهمي المدرس، اما دراسة الجوانب السياسية او الثقافية من تاريخه فكنا نقدر انها ستكون انذاك سهلة ميسورة وهذا ما تحقق فعلا لكثير من الباحثين.

اثار فهمي المدرس!

* هناك حقيقة خرى يشير اليها السيد عبد الحميد الرشودي، وهي تناقض ما اوضحه الزميل البراك ايضا عن اثار فهمي المدرس القمية، ففي الوقت الذي يؤكد البراك ان اثار المدرس كثيرة يوضح لنا الرشودي انها نزرة قليلة لا تتناسب وشهرته الواسعة وثقافته العالية ويقول:

ان ذلك ليس بدعا فان جل الاساتذة المربين ودعاة الاصلاح في نهضتنا يشاركون المدرس في قلة الانتاج ولعل مرد ذلك يقود الى انهم كانو يفرغون لطلابهم ومريديهم فراغا يذهلهم احيانا عن ذوات انفسهم وخاصة امورهم والا فيم تفسر ندرة او نزرة مؤلفات الافغاني ومحمد عبده والكواكبي واديب اسحاق وغيرهم من اعلام النهضة العربية الحديثة؟

* نعود الى فهمي المدرس فنقول: لما لم تكن اللغة العربية عنده هي الوسيلة الوحيدة للتعبير فهو يتقن الى جانبها التركية والفارسية والفرنسية لذا وجدنا اثاره موزعة بين اللغتين العربية والتركية خصوصا في الصدر الاول من حياته حين كانت التركية لغة الحاكم والوظيفة والجامعة وقد وجدنا مؤلفاته باللغة التركية تشمل ما كتبه في العهد العثماني وهي (تاريخ ادبيات عربية) – الجزء الاول – وقد خصصه بالادب العربي في العصر الجاهلي وهو مجموعة المحاضرات التي حاضر بها طلاب دار الفنون في الاستانة بعيد الانقلاب العثماني، ويقع هذا السفر في الف صفحة وكان منهجه في التاليف ان يذكر النص الشعري او النثري باللغة العربية ثم يشفعه بشروح وتعليقات باللغة التركية. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة القاهرة وهي المطبعة الخاصة بجامعة الاستانة، ويأتي بعده كتاب (حكمت حقوق اسلامية) وهو مجموع محاضراته في تاريخ التشريع الاسلامي، ثم مقالاته في الصحف التركية التي توزعت على قراء (شهبال) و(ثروت فنون) و(جريدة بغداد) لسان حزب الاتحاد والتقي، اما القسم الثاني فهي مؤلفاته باللغة العربية وتشمل مقالاته في الصحف العراقية والعربية ومحاضراته في جامعة آل البيت موزعة على مقالاته في السياسة والاجتماع والتاريخ، ومحاضراته في جامعة آل البيت تشمل (فلسفة المواريث في الاسلام) وتقع في ستين صفحة وقد حاضر بها طلبة الصف المتقدم ونشر طرفا منها في مجلة الاقلام البغدادية لصاحبها علي ظريف الاعظمي (سنة 1928) و(بحث في الديانة الزرادشتية) وكان المرحوم طه الهاشمي يحافر طلاب جامعة آل البيت في موضوع تاريخ الاديان، وقد وجد المدرس ان محاضرات الهاشمي في تاريخ الديانات القديمة موجزة لا تفي بالغرض، لذا استدعى الطالب (كمال ابراهيم) وقدم له هذا البحث وطلب اليه ان يستنسخه لم يقدمه الى زملائه الطلبة ليقوموا باستنساخه من غير علم المرحوم طه الهاشمي، و (بيان موجز عن جامعة الى البيت والشعبة العالية الدينية) في دورين من حياتها، دور التاسيس ودور الجهاد العلمي ويقع في 56 صفحة من القطع الكبير وقد طبع في مطبعة الاداب ببغداد سنة 1930 واخيرا الجزء الثالث من مقالات فهمي المدرس ويضم المقالات التي حورها بعد نشر الجزئين الاول والثاني وقد كان لي شرف المساهمة مع الصديق الاستاذ خالد محسن اسماعيل في جمعه واعداده للنشر.

رجل تواثي

* وبعد ماذا يمكن ان يقال عن فهمي المدرس، وقد حاولنا ان نلم سريعا بجوانب خفية من حياته لقد كان المدرس من اوائل المثقفين العراقيين الذيين اعتنوا بالتراث العربي الاسلامي، فكان يعلق صورة تمثل الريازة العربية في داره الى جانب اللوحات الفنية يوم لم تكن بغداد في تلك الفترة تعنى بهذه الامور، وكان رجلا متحضرا ومتحدثا يتذوق الفن ويتحسس جماله، وقد عرف عنه عنايته بالأوراد واهتمامه بها وقد قيل انه كان يستوردها من الخارج ويطرز بها حديقته وصالونه، وهو مولع بالجمال الذي كان ينعكس على شخصيته بحيث يظهر على حديثه عندما يختار الكلمات وينتقي العبارات كما يبرز ذلك على زيه وهندامه ايضا وكان يعنى بالقطط ويسعى لتوفير الراحة لها وتقديم الطعام اليها بنفسه ولا يرضى ان يمسها احد بسوء وكثيرا ما كان يغضب اذا تجاهل احد في داره تقديم الطعام لاعز شيء عنده.. القطط..!!

ملف نشرته مجلة (الف باء) عام 1978من اعداد: رشيد الرماحي