ذكريات عن إبتسام عبد الله

ذكريات عن إبتسام عبد الله

نهاد عبد الستار رشيد

عندما كانت تقدم برنامجها الشيّق"سيرة وذكريات"وتستضيف إحدى الشخصيات الثقافية، وتحاورها عن أهم منجزاتها وأبرز التحولات التي طرأت في حياتها الثقافية، التقيت بها مرات عدة، وأظهرت لها مدى اعجابي ببرنامجها التلفزيوني وأبديت بعض ملاحظاتي.

كانت شابة أنيقة المظهر، وفي منتهى الجاذبية، تترك شعر ناصيتها منسدلاً على جبينها الناصع البياض، لها ملامح تثير في النفس الراحة والثقة والطمأنينة. قبل أن تستضيف شخصيتها، تدرسها بعمق، فنجدها تشارك الضيف في إلقاء الأضواء على بعض المواضع المبهمة في سيرته الثقافية. وكم كان بودي حضور نخبة معينة من المهتمين اثناء اللقاء لإبداء ملاحظاتهم وتعليقاتهم.

كانت الروائية البارزة ابتسام عبد الله غزيرة الإنتاج، فقد أصدرت أربع روايات، ومجموعة قصصية قصيرة، وترجمت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية الأجنبية الى اللغة العربية.

صدرت لها قصة سنة 1984 بعنوان (فجر نهار وحشي)، دارت أحداثها عن الحركة المسلحة التي قادها العقيد الركن عبد الوهاب الشواف للإطاحة بنظام الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، وما تبعتها من احداث مؤلمة. وقد وثقت الروائية ابتسام عبد الله بعملها هذا تأريخ الموصل الحديث. بعد عامين من صدور هذه الرواية صدرت لها رواية جديدة بعنوان (ممر الى الليل)، ثم أعقبتها رواية (مطر أسود... مطر أحمر)، أما مجموعتها القصصية فقد حملت عنوان (بخور)، كما أن للروائية مجموعة قصصية جاهزة للنشر بعنوان (الليل والبستان)، وقد تم ترجمة العديد من قصصها الى اللغتين الأنكليزية والفرنسية، بالإضافة لذلك فقد ساهمت في اغناء المكتبة العربية بالعديد من ترجماتها لأبرز الكتّاب العالميين.

آخر رواية لها صدرت عام 2002 تحت عنوان"ميسوبوتاميا"(بين النهرين). كانت صورة شبح الاحتلال الزاحف على العراق شاخصة في ذهنها، وتصورت ما سيحل بالآثار العراقية من سلب ونهب ودمار. وقد تحققت تنبؤاتها، بل اصبح الواقع أكثر سوءاً بعد الاحتلال، حيث تم تهريب العديد من القطع الآثارية العراقية المهمة وأتلف بعضها. تقول الروائية ابتسام عبد الله عن روايتها الأخيرة (بين النهرين):"عندما كتبتها كانت فكرة الاحتلال القادم متجسدة أمامي صورة ثابتة، علماً أني أنجزتها في أواخر عام 2001، لقد اخترت قصداً كلمة"ميسوبوتاميا"، اسم لمحل بيع الأنتيكات والتحف، وهي تعني بالنسبة لي، الأسم الذي أطلقه الآخرون على العراق، وكأني بذلك أعيد ذلك الأسم الى الحياة والذاكرة، دلالة على الحدث القادم. ورواية"ميسوبوتاميا"تترجم الآن الى اللغة الإنكليزية بعد اتفاقي مع الجامعة الأميركية في القاهرة على ذلك."

الثيمة الرئيسة في الرواية كانت عن الحصار الاقتصادي المفروض على العراق وما ترتب عليه من آثار سلبية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وتصدرت الرواية عبارة مقتبسة من ملحمة كلكامش. إلا أنه لم يسمح لهذه الرواية الرائعة بالنشر بعد احتلال العراق.

من ناحية ثانية، في وقت مبكر من عام 1980، فاتحتني وزارة الثقافة والإعلام بكتاب موجه لي بأنها تنوي اصدار مجلة بعنوان"الثقافة الأجنبية"وطلبت مني أن أرفدها بما استجد من الأدب الحديث والفنون المعاصرة في مختلف بقاع العالم، فلبيت طلبها وبذلت قصارى جهدي في المشاركة بمحاورها المختلفة وتزويدها بمختلف الدراسات، واطلاع القارئ العربي على شتى التيارات الأدبية والفنية المعاصرة.

في عام 2001، ارتأت وزارة الثقافة والإعلام في العراق تعيين الروائية العراقية ابتسام عبد الله، رئيسة تحرير مجلة"الثقافة الأجنبية"، فكنت من السباقين في تهنئتها في منصبها الجديد، وأبديت ملاحظاتي في المجلة، وقدمت لها دراسة وافية شملت أبواب المجلة ومحاورها، والإخراج الفني لها. وزودت المجلة بباج رسمته ليمثل دور المجلة الثقافي على المستويين العربي والعالمي، وسرعان ما تم اعتماد الباج رسمياً في جميع اعداد المجلة. قالت السيدة ابتسام، وكان ثغرها يضيء ببسمة فاتنة:"شكراً جزيلاً على جهودك المخلصة تجاه المجلة، وأتمنى أن تنقل تجاربك الطويلة في الصحافة الأجنبية لهذه المجلة."

كانت كلماتها عذبة، ولطيفة، وتفصح عن ود ومحبة للناس. ثم طفقنا نخوض في شتى المواضيع التي تخص المجلة. وأنفقنا في مثل هذا الحديث ساعة تقضت على نحو خاطف، ثم استأذنت منها، ومضيت في سبيلي.

بعد أن تم منح الأدباء والفنانين والصحفيين، في عهد النظام السابق، رواتب شهرية دعماً لجهودهم الإبداعية، لم يتم ادراج اسمي ضمن قائمة الرواتب لأدباء فرع بابل، الذي أنتمي إليه، لأسباب أجهلها، فأحسست بالظلم والمهانة.

استبدت بي موجة عارمة من موجات الحزن، وكنت أتالم في اباء وشمم وفي كثير من الصمت والهدوء. وسرعان ما أصبح ذلك موضوعاً تتداوله الألسن أينما ذهبت. كانت الصدمة أعنف من أن تطاق، وضاقت الدنيا على رحبها في عيني، وأصبحت كثير الأنطواء على نفسي. لم يحدث قط في حياتي أنني تألمت كما أتألم الآن مما ساورني من شكوك جعلت ثقتي في أصدقائي وزملائي تنهار دفعة واحدة. إن هذا الموقف يحط من قدري ويسهم في إذلالي. وازداد هذا الحزن رويداً رويداً حتى أصبح قاسياً لا يحتمل. الا أن الفم يؤثر الصمت عن كثير مما يخالج النفس، وكنت قد وطنت العزم على الاصطبار.

كانت الأيام تمر بطيئة قاسية، وبرغم ذلك، كان هناك أمل يومض في قرارة نفسي، وكنت آمل أن شيئاً ما سيقلب موازين الأمور، ويصادفني حظ غير مرتقب.

في ذات مساء، ترامى الى اذني نداء صديق يأتيني من الجانب الآخر للطريق. التفت باتجاه مصدر الصوت، وإذا به زميلي الدكتور صباح المرزوق. ترجل من عربته، وراح يبلغني بضرورة مراجعة محاسبة مجمع آفاق في بغداد لتسلم راتب الأدباء...ها قد ومضت بارقة أمل في الأفق. أنزلت هذه الكلمات في نفسي السكينة... وانسرى همي، وانفرجت أساريري في الحال، وشعرت انني اتحرر من وطأة ذلك اليأس، وأن الحياة قد بدأت تبتسم لي من جديد، وأصبحت ثقتي بالمستقبل تزداد، وبدأت مرحلة من اعادة ثقتي بالآخرين تتنامى، فرحت أعدو مع الريح، وكنت في مشيتي كأنني لا أكاد أطأ الأرض تيهاً وزهواً.

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي كنت قد وصلت مجمع آفاق، وتسلمت راتبي. وعند خروجي من مكتب المحاسبة التقى بي الأستاذ كاظم سعد الدين وابلغني أن السيدة ابتسام عبد الله قامت بإدراج اسمي ضمن أسرة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية. استشعرت حافزاً قوياً يدعوني الى وجوب تقديم شكري وامتناني للسيدة ابتسام على موقفها هذا، فذهبت إليها من دون إبطاء.

ألفيتها جالسة في مكتبها، انسانة نبيلة، ورقيقة، وحسنة الملامح. تبدو على وجهها سيماء اللطف والذكاء، فقلت لها بلهجة صادقة:

"– شكراً أم خالد على درج اسمي ضمن أسرة تحرير المجلة."

فأجابت بصوت بدا فيه الحزم والرزانة والهدوء:

"– هذا حقك أستاذ نهاد، بل أنت تستحق اكثر من ذلك. لقد عملت بجهد استثنائي لرفد المجلة بما تجده مفيداً من الآداب الأجنبية الحديثة والفنون المعاصرة. كما أنك دائماً تفكر أن الغد يحمل المفاجأة".

فقلت لها بلهجة اعتزاز وقد فاض صدري بعرفان الجميل:

"– إن جل ما اصبو إليه هو أن أحظى بثقتك."

بعد أن تناولنا الشاي، غادرت مكتبها. وقلت في نفسي متعجباً:

"– ما أكثر المزايا الفائقة، والخصال الرفيعة التي اكتشفها في هذه المرأة الرائعة."

من أعمال الروائية ابتسام عبد الله المترجمة الى اللغة الإنكليزية قصة"في البستان"، قام بترجمتها دنيس جونسون ديفيز سنة 1990، وتدور أحداثها عن آثار الحصار الأقتصادي على المجتمع العراقي وبخاصة الطبقة الفقيرة، والمحت عن نشوء طبقة جديدة من الأغنياء المنتفعين من ظروف الحصار، وقصة"دار الحضانة"نشرت في (بانيبال) سنة 2003، وقصة"في الحديقة"التي صدرت في الأهرام الأسبوعي سنة 1998 وهي من ترجمة دنيس جونسون ديفيز، والرواية الخيالية العراقية المعاصرة: وهي مقتطفات أدبية مختارة صدرت سنة 2008، وترجمت السيدة ابتسام العديد من الأعمال الأدبية العالمية الى اللغة العربية كان من ضمنها: رواية"في انتظار البرابرة"لمؤلفه جون ماكسويل كويتزي، الروائي الشهير المولود سنة 1940 في كيب تاون (جنوب افريقيا) والحاصل على جائزة نوبل للآداب لعام 2003، وكان قد فاز مرتين بجائزة بوكر الأدبية البريطانية الراقية، ويقوم حالياً بالتدريس في جامعة شيكاغو. كما ترجمت الى العربية"مذكرات ميكيس ثيودور اكيس"، الموسيقار والسياسي اليوناني المشهور الذي ارتبط اسمه عند كثير من الناس بموسيقى فيلم (زوربا اليوناني). وقد عرف عنه مناصرته لقضايا حقوق الإنسان ويعتبر من ابرز الشخصيات العالمية المؤيدة للقضية الفلسطينية. وترجمت السيرة الذاتية لـ (أنجيلا ديفز)، الناشطة السياسية الأميركية التي بلغت قمة نشاطها في نهاية الستينيات امتداداً الى السبعينيات من القرن العشرين. عضويتها في الحزب الشيوعي قادت الى طلب رونالد ريغن في سنة 1969 لمنعها من التدريس في أية جامعة في ولاية كاليفورنيا. السيرة الذاتية لأنجيلا ديفز صدرت سنة 1974، تخبرنا بقصة أول (28) سنة من حياتها، منذ ولادتها حتى إلقاء القبض عليها وسجنها ومحاكمتها.